محاذير ومحاذير ومحاذير، حقول ألغام مزروعة في طريق ذلك الغض الذي يبدأ للتو مشوار التجربة العملية، بعد أن وصل إلى حد التشبع في تزوده بالمعارف والعلوم التي يحتاج إليها ليصل إلى مرحلة الجهوزية، وآن له أن يبدأ العمل. متعجل هو بل مفرط في استعجاله، نزق شباب تجربته يدفعه إلى الاستعداء، وإلى التشبث - دون حتى أن يستمع للآخرين - بآرائه، ودون أن يدرك أن الآخر لا يحاول كبح جماحه، ولا أن يوقف عمله، ولا أن يصادره. إن هذا الآخر الذي هو واقعاً يقبع معه في نفس البيت، يريد فقط أن يوصل له بعض نتاج خبرته ليجعله يجني أفضل ثمار عمله، وقديما قيل أن السير على غير هدى لا يزيد صاحبه إلا بعدا.
ربما علمته التجارب كما علمتني وغيري ان التفكير وإمعان النظر قبل بدء العمل يختصر وقت إنجاز العمل كثيراً، إذ ان تنظيم العمل وتحديد هدفه المنشود ووضع الضوابط قبل البدء يقي العامل من التخبط ومن ممارسة ما يسميه العقلاء “التجربة والخطأ”. دقائق قليلة قبل الشروع، ستوفر ساعات ثمينة بعد أن يدخل المرء في دوامة لم يكن مستعداً لها البتة. مشكلة الخبرة المفقودة تحصل كثيراً عند غياب من شهدوا تأسيس مؤسسة أو منظومة ما، إذ ان الخيارات المتبقية لمن يخلفهم كثيرا ما تكون محدودة، ويظل تحديد المساحة التي يستخدم فيها مفهوم “التجربة والخطأ” وهامش الخطأ المسموح به رهناً بما تركه السابقون من توثيق لتجربتهم العملية، فيكون الاجتهاد غالباً في منطقة الفراغ. ولعل غياب هذه الخبرة بشكل تام يدفع إلى ما نسميه إعادة اختراع العجلة من جديد.
أضرب مثلاً بالعمل الذي يقوم به الكهربائي عند تسليك بناية، فما لم يقم هذا الكهربائي بترك خارطة مفصلة يوضح فيها ما قام به، فإن أي عامل صيانة يأتي فيما بعد سيواجه صعوبات كبيرة في إصلاح الأعطال أو إضافة التمديدات للملحقات الجديدة. هنا سيتوجب على هذا العامل أن يمارس “التجربة والخطأ” ليفلح بعد جهد جهيد في عمل ربما كان يستلزم دقائق معدودة لو كان يحمل معه الخرائط اللازمة.
ولا شك عندي أن التصدي لأي عمل كان يتطلب شجاعة أدبية، لتقبل النقد، وتقبل الفشل، وتقبل إعادة الكرة مع تصحيح الأخطاء. الحماس الشديد والمتلازم دوماً مع الشباب، يجعل كل من يريد المنافسة مع الموجود يفكر من خارج الصندوق كما يقول الإنجليز، والتفكير من خارج الصندوق هو السعي لإيجاد حلول غير تقليدية لمشكلات موجودة دون الخضوع بسلبية للإطار الفكري الذي يحاصر ذهن الإنسان والنابع من تجاربه السابقة وقناعاته ومحيطه. ونجد اننا بطبيعة الحال نتفاوت في طريقة تقبلنا للتجديد والتغيير وذلك بسبب اختلاف التركيبة النفسية بين أفراد المجتمع من محافظين ومجددين، هذان التصنيفان اللذان يسميهما علماء الاجتماع ساقي المجتمع، حيث لا يتحرك إلا بقدم راسخة في الثوابت وأخرى ساعية إلى الإبداع والمجاراة للمتغيرات العصرية.
تأتي هنا جملة من النقاط المهمة التي أود التركيز عليها:
- ان الانفتاح في التفكير على جميع الخيارات لا يجب بحال من الأحوال أن يصطدم بالقيم والثوابت الدينية والاجتماعية بل وحتى التنافسية، لأن ذلك إما يجعل الخيار غير أخلاقي في الحالة الأولى، أو خيارا عديم الجدوى في الحالة الثانية.
- ان اللاعب الخبير ليس بالضرورة هو الأكثر حركة، وإنما اللاعب الذي يجيد التمركز في المكان الصحيح لاستقبال الكرة.
- ان فهم أسباب وضع أي قاعدة أو إجراء والخلفية التاريخية لوجوده يجعل من السهل تقييم استمرارية الحاجة لها من عدمها.
في هذا السياق، هناك طرفة منتشرة هذه الأيام بعنوان نظرية القرود الخمسة، وتتمثل في أن أحدهم وضع خمسة قرود في غرفة وجعل في وسطها سلماً. وعلى قمة هذا السلم وضع بعض ثمار الموز. وبطبيعة الحال ان سعى أحد القرود ليقطف الموز، ستنطلقت رشاشات الماء البارد لترش القرود الأخرى. وكلما تكررت المحاولة من أحد القرود، تكرر انطلاق الماء كعقاب جماعي للآخرين.
وبعد فترة صارت القرود تنهال ضرباً على أي فرد منها يحاول قطف الموز لئلا تصاب بهذا العقاب الجماعي.
ثم تم تبديل القرود واحدا واحدا وهي تتناقل هذا الموروث، حتى صارت المجموعة الخماسية جديدة بالكامل، ولم يشاهد أي منها عملية رش الماء إلا أنها احتفظت بعادة منع قطف الموز.
هكذا تنتقل الخبرات الإيجابية منها والسلبية، ويبقى قليل من الناس يعرفون ظروف نشأتها ونتائجها، ويبقى أكثرنا لا يتعرف على حرارة النار إلا بحرق أصابعه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق