الأربعاء 29 مايو 2013
حين كنا صغارا، كانت تحصل مشادات وخلافات تنتهي أحيانا بالخصام الذي كان عادة ما ينتهي خلال فترة إما تدريجياً أو بأن يستذكر أحدنا الأحاديث المأثورة في الصلح كقول أحدنا لنفسه “وخيرهما الذي يبدأ بالسلام” وما يلبث أن يبادر ليريح نفسه من عناء الجفاء والخصام وأنه سيكون أحسن من الآخر، وهنا تنتهي المشكلة. أما في الفترة التي تسبق الصلح فعادة ما يرمز كلا الطرفين للآخر بلفظ “الخصيم” تلافياً حتى لذكر اسم صاحبه الذي يصبح حينها ثقيلاً على اللسان مزعجاً للنفس و منغصاً و مذكراً بموقف سيء.
ما كان ينطبق علينا آنذاك ينطبق اليوم على فئة أكبر تمثل جزءاً لا بأس به من إعلامنا و مؤسساتنا و على الناس من عوام ونخب، صار خطابهم دائماً يحمل في ثناياه كلمة “الخصيم” بشكل أو آخر و مثبتاً المرة تلو المرة أن الخصام و الجفاء لا يختص به الأطفال أو الجهلة أو متعصبو الرياضة، و إنما يشمل حتى الشخصيات و الجماعات و الأمم، والمؤسسات والإعلام و رجال الدين فضلاً عن الأحزاب و رجال السياسة.
نجد ذلك واضحاً جلياً في خطاب يظل متمحوراً على وجود الآخر، و مساوئ هذا الآخر، أو حتى التوجس و التحذير كأن الآخر “شيطان له ذيل” كما يعبر الشاعر هشام الجخ. و يظل الخطاب يتصاعد في خلق هذا الآخر وجعله مصباً للعنات و مرمى للكراهية في أسلوب لا ينم عن الإنحدار الأخلاقي و حسب وإنما عن قصر النظر والجهل أيضاً.
اليوم تبحث عن الخطاب الجامع تحت منابر الدين و في معاهد العلم و في وسائل التواصل و غيرها، فلا تجد أيا منها تحمل شيئاُ من الخطاب الجامع أبدا وإنما يحمل أصوات النشاز الفئوية التي تجد منفعتها حيثما كانت الفرقة.
عراك بين شرائح و شخصيات المجتمع، فحين تنظر إلى حال الصحافة مثلاً فإنك قبل ان تفتح الصحيفة تعرف أنك ستقرأ عن الخصيم في هذه الصحيفة وتعرف من هو و ما سيقال عنه، و كأن مهمة الإعلام صارت زرع الفئوية و تعزيز التفرقة وزيادة النفرة بين شرائح المجتمع. بل أن بعض الأقلام قد تكون من الوقاحة بحيث تكون كلماتها و عناوينها ماسة بمكونات المجتمع بأسمائها، غير عابئين بأن الصحافة ديوان يثبت كل ما يكتب فيه من بياض أو سواد و غير عابئين بأن الشحن و الشحن المقابل يلهب الفتنة أكثر وأكثر و قد ينتج منه مما لا تحمد عقباه من الأمور التي يتحملون نتائجها الأخلاقية وربما القانونية أيضاً. إن كانوا لا يخافون مما يجرونه على الآخرين فهي مسألة ضمير، وربما مسألة علم بأنهم “مواعين إبليس” التي لا تتكسر.
منابر الدين في بعض الأحيان لم تكن أحسن حالاً فكانت لا تبدأ خطابها بمناداة “عباد الله”، بل توجه خطابها لشارع معين، و تعمل تأليباً و تفريقاً و كأن المسلمين قد باتوا خوارج، فإما أن يكون المرء معك في كل مسألة أو صار لك خصماً و عدواً تخرجه من الملة و تخصه بالوعيد و ربما في بعض الحالات بالشتم و السباب المقذع.
الخطاب الجامع الذي نبحث عنه هو الذي ينظر لكل الناس و يخاطب همومهم جميعاً و يبعد مخاوفهم، يجعلهم يتعاطون مع بعضهم البعض في كل شؤونهم بأريحية، خطاباً لا يطلب الرحمة لواحدهم والعذاب للآخر، خطاباً يدفع نحو الحلحلة لا التصلب، ينطلق من شؤون الوطن وشجونه وينتج بدائل تحل بعض العالق وتوجد بعض الإيجابية. والأهم من هذا كله أن يكون الخطاب الجامع هذا خطاب الشعبيين والأهليين وقبلهم الرسميين، والله من وراء القصد.
آخر الوحي:
وعندما يحاول الشاعر أن يجعل من أشعاره
أرغفةً.. يأكلها الجياع للخبز وللحرية
فلن يكون الموت أمراً طارئاً..
لأن من يكتب يا حبيبتي..
يحمل في أوراقه ذبحته القلبيه..
نزار قباني