الأربعاء، 15 مايو 2013

عودة أبي صابر





الأربعاء 15 مايو 2013



تراءى لي البطل الصامت من بعيد فهتفت بترحيب بالغ، أهلا أبو صابر، أما آن لسفرك أن ينقضي وتحط رحالك في أرضنا؟ فأجاب وهو يهز رأسه أفقياً: لقد كلفتموني من أمري غاية المجهود دون أن تنتفعوا بشيء من الحكمة التي أنقلها لكم من الحكماء الذين سبقوكم، فصرت أقتصر على الزيارات المتباعدة. أحسست عندها بكم العتب الذي يحمله فلاطفته قائلاً: ولكنك عدت والعود أحمد، فأهلا ومرحبا. فتمتم: أكاد أودعكم وداع مفارق فتبكونني بقول الشاعر:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو    فلا رجعت ولا رجع الحمار
فقلت له: يبدو أنك لم تلحظ أن أسف الشاعر كان على أم عمرو وليس على الحمار. فأجابني بصبر نافد: ويبدو أنك لم تلاحظ أن الحمار هو الذاهب ولا تقل لي أن القافية هي التي حكمت، فلولا أهمية صاحبنا الحمار في الأبيات أو في نظر هذا الشاعر الحكيم، لما أتى على ذكره من الأساس واكتفى بذكر أم عمرو.
سلمت بكل مجاملة بكلامه وبادرته بالسؤال عن أسباب رحيله وضيقه فقال لي إنها أسباب طائفية بحتة، ثم طلب أن يتكلم فلا أقاطعه. قال: أخشى ما أخشاه من الطائفية التي تسري في بلادكم أن تتسلل حتى إلى الحمير والبغال، وإن لم يحصل ذلك لحكمة الحمير، فلن يكون أقل من أن تستخدموها في كشف حقول الألغام والعبوات المفخخة التي يزرعها متطرف لآخر. إنني لأعجب منكم كيف يدعي كل منكم براءته المطلقة من الطائفية ويعلن للعالم الخارجي أجمع أنه يجمع تحت عباءته الطوائف سواء تحت عنوان حقوق البشر أو عنوان حقوق الحجر، ثم يخلع عباءته الإنسانية ويحشد الأنصار مرتدياً العباءة الطائفية، التي يتحول تحتها الزنديق إلى مظلوم والقاتل إلى زعيم بطل حتى أخال أن “كراولي ذو المسدسين” يتحول إلى إمام مسجد بمنطق العصبية الأهوج عندكم.
ألا تلاحظ أن كلام النهار عندكم جامع وكلام الليل هو مزرعة الشتات. وكأن الأفكار والمذاهب والمبادئ التي اجتهد أصحابها للوصول إليها باتت عندكم لا تمثل أكثر من أسوار مزرعة خاصة تملأونها بقدر الإمكان بالرعايا والأتباع، فيصير كل من داخلها “منا” وكل من هم خارجها “منهم”. ألا تعلمون أنه كلما طال أمد التعامل بينكم بهذا المنطق صارت مبادئكم التي تنعقون بها جوفاء لا تحمل من كل موروثها إلا الأنا، لأن الفكرة لن تتجاوز كونها هوية أو إطارا جامعاً حين يكون هناك صراع على الماء والكلأ أو أي صراع آخر؟
كدت أحتج على كلام أبي صابر، فأشار لي بساقه ليسترسل: ها أنتم تطلقون على من تريدون أنه أسد وتسمون من تشاءون أنه مارد في إطار طائفي مؤسف، ونجد من يستحضر هنا التاريخ فيسمي به الساحات والتجمعات، والآخر يغرق في استحضار التاريخ في أهازيج وأناشيد. وبينما ينكر كل اتجاه أرقام الآخر، تخرج دراسات تفيد بالنسب والأرقام ومن جهات (محايدة) وكأن الأجانب صاروا أعلم بواقع طوائفكم أكثر منكم.
ثم إنكم تدعون أن المتفق عليه في احتياجاتكم - كما في أفكاركم ومعتقداتكم- يفوق ما تختلفون عليه بكثير، ولكنكم بدل أن تطرحوا المتفق عليه فيصار إليه، تعمدون إلى نقاط الاختلاف ليتغالب كل منكم ويتفاضل، وما ينطبق على شارعكم ينطبق على نخبكم وعلى مؤسساتكم، منذ متى صار للمؤسسات طائفة؟ ومن يغلق الأبواب دون دخول فلان في هذه المؤسسة ويفتح الأبواب لسواه، وهل كانت فوضى يعاتب من سمح بها، أو هندسة يلام من أسس لها؟
قلت له وقد غاظني صدقه: يبدو أنني غلوت فيك وما أنت إلا ممن يحمل الأسفار دون أن يفهم منها حرفاً. فتبسم وقال: هون عليك يا صاحبي، فذاك مثل ودونك من الأمثال التي قالت في أمم إنها كالأنعام بل أضل سبيلا، ولربك المثل الأعلى.
إني أرى نذر الحروب التي حصلت في أجزاء أخرى من العالم على أساس مذهبي منذ قرون طويلة، وأنتم ولله الحمد تتخلفون وتدخلون فيما دخل فيه سواكم منذ مئات السنين، ولا تعتبرون منهم، بل صارت الكلمات التي تخجلون من ذكرها في مقالاتكم عن اختلاف عقائدكم من المسموح بل المرغوب بل من المحبذ، وهو أحد أمرين، إما أن الحياء قد خرج منكم أو أنكم بالفعل تنوون الحرب وأول الحرب السباب. وللحديث صلة...
آخر الوحي:
وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سباب
وقلنا لها قولاً فجاءت بمثله
لكل كلام يا بثين جواب

جميل بن معمر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق