الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

ميكيافيلية الخير








الأربعاء 3 أكتوبر 2012

في أحد أفلامه المميزة و هو فيلم “أرض الخوف” قام أحمد زكي بدور تاجر مخدرات مصنوع من قبل الدولة، كانت مهمته تتلخص في الدخول داخل الوسط القذر و الإقتصاد المحرم ليقوم بإرسال تقارير دورية إلى الدولة للوصول إلى دراسة وافية حول كيفية قيام هذه الصناعة و قياس حجمها و طريقة تطورها في سبيل ضربها في العمق و القضاء عليها قضاء مبرماً. كانت مهمة على مستوى عالٍ من الأهمية بحيث أن الدولة أعدت له وثيقة براءة في حال وقع في قبضة الأمن واستحال عليه الفكاك من ذلك المأزق، و كانت هذه الوثيقة موقعة من جملة من الوزراء و المسئولين بحيث تكفل له براءته. و كان مصرحاً له أن يقوم بالمتاجرة في المخدرات بحيث يصير من كبار التجار و كان له حق الإنتفاع بمدخول هذه التجارة بل و حماية نفسه بكل طريقة بما في ذلك القتل و مقاومة رجال الشرطة لو اضطرته الظروف.
 و تمر الأيام بأحمد زكي حتى يقرر الإلتقاء بالشخص الذي يستلم تقاريره البريدية لأنه بقي لفترة لا يحس بأي تأثير أو تجاوب من الدولة مع المعلومات التي يرسلها. و يحدد موعداً مع الرجل، ليكتشف أن رسائله كانت تصل إلى طريق مسدود بسبب إلغاء العنوان الذي يرسل إليه فكانت تحفظ في البريد حتى تمر الفترة القانونية فيصير موظف البريد مخولاً بفتح الرسائل و الإطلاع عليها ليتمكن من إخبار المرسل بحالة العنوان المرسل إليه.
 و في مرارة بالغة يكتشف الرجل الذي انغمس في قذارة المخدرات من أجل هدف نبيل أن جهوده ضاعت، و أنه تحول إلى إمبراطور مخدرات آخر دون يتحقق الهدف المرجو للمهمة النبيلة، مهمة اضطر أن يتحول فيها إلى نفس المخلوق الذي كان يبغضه و يتمنى هلاكه، و أي مرارة أكثر من هذه.
 في حياة الإنسان و في ظروف استثنائية كما قد يعتقد، يقبل أن يدخل في أمر هو يبغضه و يمارس دوراً ربما هو آخر ما قد تقبله قناعاته، ليجد جهده هباء، و يجد نفسه هباء، فلا هو حاز الهدف المرجو ولا هو حافظ على نقاء نفسه الذي يتمناه، و هنا تكون المصيبة فلا هو عاد متصالحاً مع نفسه على طبيعتها ولا هو تمكن من أن يعود الفرد الذي كان، ولم يحقق الهدف الذي يثبت فيه لنفسه مشروعية ما قام به فيستعيد راحة باله.
 يحصل هذا غالباً عندما يحاول الإنسان محاربة الشر بالشر، أو مغالبة الباطل بالباطل، حين يتصدى للكذب بالكذب، حين يقرر أن يدخل لعبة قذرة لينهيها فينغمس فيها و لا يستطيع الخروج منها، كل ذلك لأنه آمن أن الغاية النبيلة  تبرر كل وسيلة للوصول إليها. و لكن يا ترى، هل هناك أحد يقوم بأفعال سيئة دون أن يقنع نفسه بحسنها بطريقة أو أخرى؟ أذكر أن أحد الكتاب المعروفين و هو ديل كارنيجي طرح مثالا في أحد كتبه لواحد من مشاهير السفاحين و كيف أنه بعد إلقاء القبض عليه كتب في مذكراته تساؤلاته عن سبب كره الناس له. يقول كراولي ذو المسدسين الذي قيل عنه أنه من النوع الذي يقتل لأهون سبب و لأتفه باعث. كتب هذا المجرم عن نفسه “إن تحت ثيابي قلباً مضنى و لكنه رقيق لا يطيب له أن يمس أحداً بأي سوء. و قائل هذه العبارة نفسه قد قتل شرطياً برصاصة واحدة و بدون أي كلام رداً على طلبه “هات رخصتك”.
 لهذا يلزم أن يراقب الإنسان نفسه حين يتبنى قضية ما، ولا يأخذه الحماس ليحيف على غيره لإعتقاده بأن هدفه نبيل، فالنوايا التي بداخلنا لا تعكسها إلا أفعالنا، و قد قيل قديما لا يطاع الله من حيث يعصى، و لا ميكيافيللية في الخير.
 آخر الوحي:
 ما تشاؤون فاصنعوا
 فرصة لا تضيع
فرصة أن تحكَموا
و تحطوا و ترفعوا
و تدلوا على الرقاب و تعطوا و تمنعوا
ما تشاؤون فاصنعوا
لكم الأرض أجمع
قد خلقتم لتحصدوا
 و عبيداً ليزرعوا

محمد مهدي الجواهري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق