الأحد، 30 يناير 2011

إذا طاح الجمل





الأحد 30 يناير 2011

من الأمثال الرائعة في تراثنا الشعبي الخليجي، ينطلق من حضارة العرب، ويقوم بتوصيف شديد الدقة لحال الإنسان العزيز حين يذل. فالجمل عالي الهامة صعب المراس لا يمكن مجابهته بسهولة أو النيل منه، إلا أنه ما إن تلامس ركبتاه الأرض ينبري الجميع حتى أجبن خلق الله لإثبات شجاعته وقدرته عليه.

هذه الحال تشبه بدقة ما جرى في تونس على رئيسها السابق زين العابدين بن علي. فالرجل الذي عرف نظامه بالشدة وبقسوة الأمن فيه لم يكن الأسوأ في هذا الجانب على الأقل، إلا أن الكل أخذ يتكلم عن مثالبه بعيد رحيله حتى أقرب الأنظمة العربية إليه.

زرت تونس عام 2005 وتجولت بين شوارعها وتكلمت مع بعض من صادفت من أهلها، ومازالت بعض كلماتهم ترن في أذني من ذلك الوقت. أحدهم كان مرشدنا السياحي إلى القيروان، التي ربما كانت المكان الوحيد الذي يدل على طابع إسلامي قديم، ينبئك عن أصل هذا البلد قبل علمانية الحبيب بورقيبة. هذا المرشد الذي كان طالباً جامعياً يدرس في روسيا، ويعود في الصيف فيعمل مرشداً سياحياً كان يتكلم على تونس العلمانية، وقانون الأحوال الشخصية في تونس. هذا القانون مسخ طبيعة أهالي تونس ولم يخلق وضعاً من العدالة أو يحافظ على المودة والرحمة، بل على العكس تماماً. صار رجال تونس يستصعبون الزواج لأن من يقدم على هذه الخطوة بمثابة المنتحر لأنه يسلم نفسه طواعية لقانون مبني على القوانين الغربية يجعل من العيش بلا رباط مقدس أهون بكثير من الدخول بين خياري سقراط الشهيرين.

سألته حول القوانين الأخرى، فلفت انتباهي إلى أمر شديد الغرابة علي آنذاك، وهو أن الرجل يحاسب إن أطلق للحيته شيئاً من العنان، ولا يمكنه دخول الجامعة أو المصالح الحكومية بالإضافة إلى أنه قد يتعرض لحساب من الأمن في الشارع لنفس السبب. حتى ان الشباب المتشبهين بالهيبيز لا يمكنهم إبقاء لحاهم وإن كانت مشذبة ومهذبة.

نفس الأعراف تنطبق على المرأة المحجبة، التي إن أبقت على حجابها فمكانها البيت دون دراسة جامعية ولا يحزنون.

بعد هذا الكلام لاحظت أن القبعات يكثر ارتداؤها كبديل للحجاب «ومكره أخاك لا بطل». وكم عقدت في ذهني مقارنات بين إيران وتونس، ففي تونس تتحجب كثير من النساء بالقبعة، وفي إيران تتقبع نسوة بالحجاب. فالقبعة حاضرة في المكانين إلا أن الأعمال بالنيات.

في شارع الحبيب بورقيبة وهو أهم شوارع العاصمة، عجبت من كنيسة أو مبنى يشبه الكنيسة رغم علمي أن عموم التونسيين مسلمون. وتبين فيما بعد أنها أكثر من كونها كنيسة، إنها كاتدرائية تونس المسماة باسم القديس فانسان دي بول، وبنيت تخليداً لذكر أحد القساوسة الذي بيع كعبد في تونس. وربما كان من الغريب أن أسقف هذه الكاتدرائية منذ عام 2005 هو من أصل أردني والإشارة تكفي. وجود الكنيسة كان نوعاً من المجاملة للغرب وحسب. أذكر أنني سألت التوانسة عن وجود الكنيسة، كانوا يتهربون ويقولون انه لا توجد كنيسة أساساً ولا وجود لمسيحيين من الأصل.

على ذلك وعلى شدة الحاكم (الشرطة) إلا أن الوضع الاقتصادي في تونس لم أرصد فيه الخلل الموجود في مصر مثلاً وفقر شعبها المدقع. بل كان أكثر اعتدالاً بكثير.

يبقى هنا موضوع الثورة التي حصلت في بداية هذا العام الذي تكلم عنها الكثيرون بطوبائية شديدة، مفترضين أن محمد البوعزيزي أشعل الثورة بإشعاله النار في بدنه. وهنا أقول انه كفانا طوبائية، فلا يوجد حاكم قويٌ أو ضعيف في العالم كله فضلاً عن جمهورياتنا العربية الوراثية، لا يوجد حاكم ينتهي بإحراق شخص لنفسه. ومنذ أول يوم كنا نعرف أنه لا يمكن إلا أن يكون انقلاباً، وأي انقلاب أكبر من تحييد الجيش وقوات الأمن من صراع شديد، تقع ذروته في لحظات تصنع الجيوش العربية من أجلها ومن أجلها فقط.

اليوم انتقلت حالة عدم الاستقرار إلى دول أخرى كالأردن واليمن ومصر، ولعل بعضها يصل إلى نفس نتائج تونس، وها نحن نرى الإعادة بالبطيء، مجموعات تتجمهر على الفيسبوك، دعوات لمسيرات حاشدة، انطلاقات لهذه المظاهرات، تخريب وتصادم مع الأمن، سقوط ضحايا، تعاطف دولي مصطنع، ومن ثم سنرى الرؤساء يهربون إلى الخارج.

وعوداً على بدء، فإن بن علي رغم مساوئه البالغة ربما لا يكون الأسوأ عربياً أو إقليمياً، إلا أن إظهار مثالبه بشكل مبالغ فيه من قبل أنظمة صديقة سابقاً، هو محاولة لمنع انتقال عدوى الهيجان والانقلاب إلى شوارع هذه الأنظمة الصديقة، وهذه تمثل أهم سكاكين الجمل التي تكاثرت على بن علي.

الأحد، 23 يناير 2011

بين طرفي الطابور











الأحد 23 يناير 2011

مر في خاطري تساؤل أبدأ به موضوع اليوم والذي أود التركيز فيه على وضع الخدمات الحكومية وخصوصا الرعاية الصحية المتوافرة للمواطن في مستشفيات ومراكز الدولة الصحية.
هذا التساؤل، ومن دون شخصنة، بل الكلام هنا عن المركز المسؤول وليس صاحبه: هل يدرس أبناء مسؤول التربية في المدارس الحكومية، وهل ينتظر ذوو مسؤول الإسكان دورهم في قوائم الإسكان، وهل تتعالج عائلة مسؤول الصحة في المركز الصحي لمنطقتهم؟
أثناء زيارتي لأحد المستشفيات الخاصة، تبرمت من الطابور الطويل الذي ينتظر للدخول على الطبيب، وقررت أن أغير وجهتي مستقبلاً إلى مستشفى آخر؛ حفاظاً على الوقت ورغبة في الحصول على رعاية أفضل. ذلك أن أكثر ما يحتاجه المريض هو الاهتمام من الطبيب والكادر الصحي، وهو الأمر الذي لا يتوافر في مركز أو مستشفى مزدحم طوال ساعات عمله.
وبالطبع لم يخطر ببالي أن أفكر بالعودة إلى المركز الصحي الحكومي، رغم أنني في الصغر كنت أتعامل دوما مع هذا المركز، ولكن شيئاً فشيئاً صار العلاج الحكومي هو ملاذ  من لا ملاذ له، صار الخيار الأخير، صار للمضطر وليس لغيره.
ففي نظرة ألقيها اليوم على مركز جدحفص الصحي، رغم ما لحقه من تطوير، أجد الصيدلية قد التحقت بباقي الأقسام في الازدحام وصار لها طابور طويل. وأجد أعداداً هائلة تنتظر دورها للدخول على الطبيب أو لتسجيل موعد حتى أن كراسي قاعات الانتظار تفيض، والمرضى والمراجعون يقفون في الانتظار الذي يطول في أحايين كثيرة.
هذا المركز بالذات يعيش مأساة ربما كان مسؤولو الصحة متغافلين عنها، فهو يغطي منطقة هي الأعلى في الكثافة السكانية بين مراكز البحرين، ولا أدري إن كانت هناك أي خطط لإنشاء مركز آخر يخفف عنه الحمل ويجعل خدماته أكثر تطوراً بفعل تخفيف الضغط على أجهزته وأقسامه وكوادره.
ومن دون أن أكون مناطقياً، فأعداد البحرينيين في كل المناطق بشكل عام تتزايد والمراكز الحكومية تراوح في المستوى والعدد نفسه، من دون أن نتكلم عن المستشفيات، فليس عندنا سوى السلمانية اليتيم الأبوين والذي يعج قسم الطوارئ فيه بالمرضى وينتظر الناس فيه مواعيدهم بالأشهر من دون أدنى مبالغة.
إذا كنا نود أن ندخل عصر الرعاية الصحية بدلاً من العلاج الصحي، فإن أمامنا أشواطاً لنقطعها لا تكفي فيها الاعتمادات الكندية والبريطانية ودعايات قصص النجاح؛ لأن التحدي الكمي أسبق من التحدي الكيفي وكما قيل قديماً ثبتْ العرش ثم انقشْ عليه.
وكنت سابقاً أرفض الاتهام القائل بأن مراكزنا الصحية هي مراكز لصرف البندول، ولكنني اليوم أنسحب من كرسي الدفاع، إذ لو استعرضنا الحاصل في كثير من الأقسام نجد أن هذا الاتهام صحيح بنسبة مئوية عالية.
وللقارئ أن يحكم في ذلك، فلا أعرف أحداً في الوقت الحالي يراجع طبيب الأسنان الحكومي، وليس ذلك بسبب سوء الخدمات، ولكن لأن التشرف بمقابلة طبيب الأسنان تستدعي موعداً قبل عدة أشهر ما لم تكن حالة طوارئ تستدعي الخلع. أما مسألة التنظيف أو التقويم وغير ذلك، فهي كماليات يمكن الانتظار معها عدة أشهر، وأما الحشو، فلأسابيع على الأقل.
وأذكر بالنسبة لعيادة تخصصية أخرى وهي الأنف والأذن والحنجرة، فمنذ سنوات عدة في أيام الدراسة الثانوية احتجت للعلاج من التهاب شديد في الأذن، فكان من وافر الحظ أن أحد الأصدقاء كان يعمل هناك، فتمكن من ترتيب سلسلة مواعيد لي، وإلا لعانيت الأمرين ليعود الوضع إلى حاله. وأنا متأكد أن الكثيرين حصلوا على علاجهم بالطريقة نفسها، وكما يردد أحد الأصدقاء: “يا  داخل مصر مثلك ألوف”.
ومنذ فترة بسيطة احتاج قريب للعلاج الطارئ في مستشفى السلمانية، فكان أن احتاج موضوع فحص الأشعة دخول واسطات ثلاث للعمل على ثلاثة محاور لحجز وتقديم موعد الأشعة حتى تيسرت خلال أسبوعين. أما الموعد، فكنا مقتنعين أن مقابلة الطبيب المختص في عيادته الخاصة على صعوبته أسهل بكثير من لبن العصفور المتمثل في الموعد الحكومي.
يا ترى، هل من مسؤولينا من يلجأ لوزارته للحصول على خدماتها المجانية؟ لا أعتقد، فالخدمات ليست مجانية إذا كانت تكلف الإنسان عمراً في الانتظار، وعمراً في الاستعطاف وعمراً في الشجار. ولا أعتقد أن أي مسؤول يحترم نفسه يرضى أن يجلس في منصبه إذا كان لا يستطيع تغيير مثل هذه الأوضاع القائمة إذا علم بوجودها.
وأما الناس، فلها الطابور الذي كثر ضحاياه، ثلة تيأس وتخرج منه، وثلة يوافيها الأجل واقفة بين طرفيه، وثلة تتداركها شفاعة المتوسطين، وقليل هم الواصلون إلى نهايته وهم طوال مدة انتظارهم يتحسبون ويحوقلون إلى حين حصول الفرج.

الأربعاء، 19 يناير 2011

الوعي السياسي..المقاطعة نموذجاً







الأربعاء 19 يناير 2011


أن تكون قيادة سياسية فهذا دور يتطلب الاستفادة من كل قدراتك الشخصية سواء على المستوى النفسي أو العقلي أو الأخلاقي أو العلمي أو الخطابي، إلى غير ذلك من القدرات التي يحتاج إليها القائد للعب مع خصومه أو السيطرة على أنصاره. هذا الكلام قد يرجعنا استدراكاً لمقال “التحكم بالعقل” الذي تكلمنا فيه حول تكنيكات السيطرة على الآخرين ولا ضير في ذلك إن كانت هذه النتيجة معقولة.
لمن عاش فترة التسعينات من الإخوة والآباء، سيتذكر أن الحركة التسعينية استهدفت فيما استهدفت مقاطعة أحد المشروبات الغازية كشعار أساسي لتلك الفترة. وظل الحال على ذلك حتى صدور شريط كاسيت بعد أكثر من سنة من المقاطعة يتضمن أسئلة موجهة لأحد أقطاب المعارضة، ومن ضمنه سؤال عن مقاطعة هذا المشروب، فكان الجواب أننا لم نَدْعُ أبداً لمقاطعة التجار الشرفاء!!!
بعد هذه المدة الطويلة، بعد هذا الردح من الزمن، يتوقف طفل التسعينات ليتساءل: ماذا كان السبب وراء الدعوة المقاطعة؟ هل كانت الحركة الموصوفة بالحركة المطلبية موجهة لمقارعة تجار المواد الغذائية مثلاً؟ آنذاك تم حشد أمزجة عشرات الآلاف للوقوف ضد المشروب.
هل كانت القيادة تقود حركة مضادة للعولمة مثلاً؟ سيكون هذا مستغرباً، فالحركة كانت بحسب المشهور داعية للديموقراطية، مما قد يعني الدعوة للعولمة أيضاً بالمقام الأول!!
لعل الحركة كانت مضادة للمنتجات الأميركية، ربما باعتبار الحلف الموجود مع قيادات لتيارات هواها يغلب عليه حب المعسكر الشرقي.
إذا لم يكن كذلك، وهو ليس كذلك، يبقى هناك تحليلان ربما كانا قاسيين بعض الشيء، إلا أن لهما نسبة من المعقولية.
أول التحليلين، أن الدعوة للمقاطعة كانت من باب التوضيح للسلطة مقدار تكاتف الناس ووقوفهم القوي مع المعارضة ومدى سيطرة المعارضة على الشارع.
التحليل الآخر -وربما كان الأقوى والأقرب- هو استخدام هذه الدعوة لصنع نوع من الرابط اليومي بين القاعدة الجماهيرية وتعليمات القيادة عبر نوع من الالتزام الذي يمتثل له الفرد ويلتزم بمعطياته. الجانب الذكي في اختيار المشروب تمثل في عدة نقاط. فمنها أن تناوله هو عادة تجمع الكبار والصغار من جميع الأطياف. ومن ذلك أن العادات الغذائية المنتشرة في بلادنا تجعل تناوله طقساً يوميّاً أو شبه يومي. وكذلك أنه يوجد له عدد من البدائل مما سيسهل عملية الالتزام بالمقاطعة ويقلل تذمر الجمهور من الالتزام الجديد.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتَّبع، وأحكام تُبتدع، يُخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجالٌ رجالاً، على غير دين الله...
ولا أعتقد أن الاستشهاد بالحديث فيه مغالاة كما قد يظن بعض الخيرين من الناس، فإن الحاصل في ذلك الوقت من مقاطعة المشروبات كان يمثل حكماً مبتدعاً، والدليل على ذلك أنه إبان المقاطعة كان أصحاب البرادات يضطرون إما لبيع المشروب الغازي سرّاً أو عدم بيعه بتاتاً خوفاً من أمرين، أحد هذين الأمرين حصول مقاطعة للدكان نفسه بسبب عدم التزامه، أو تعرضه للإتلاف بتصرفات غير مسؤولة من أشخاص مجهولين قد يكونون أطفالاً كما يتردد أو أفراداً غوغائيين.
كان حكماً مبتدعاً بحيث ينظر الجميع شزراً للفرد الذي يجرؤ على التجاهر بشرب هذا المشروب، حتى حاول أحدهم إقناعي بلطف إبان الدراسة الثانوية قائلاً: “وإذا هو فيه نقطة خمر، ليش تغربل روحك وتشربه، ما تقدر تتركه يعني؟”.
بعد كل هذه السنوات، سألت أكثر من شخص عن سبب مقاطعتهم آنذاك، وكان بعضهم إبان المقاطعة دون العشرين وبعضهم فوق العشرين، لم أجد جواباً شافياً، وكأن لسان الحال يقول: “مكره أخاك لا بطل”.
هذا الحديث الذي هو حديث الذكريات، أحببت أن أتكلم فيه للإشارة إلى بعض أنواع العبث في مكونات الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي عندنا في سنوات مضت. من ذلك شيوع حجر الرأي ودكتاتورية الحزب السياسي الذي ينكل بمخالفيه، ومن ذلك تأليه الرجال وجعل أوامرهم شرعاً وقرآناً منزلاً، ومنها استغفال الناس بين تحليل وتحريم في مثال بسيط لا نريد أن نتجاوزه الآن لأمثلة أخرى قد لا يكون المجتمع بعد متقبلاً للنقاش فيها.
وبالنسبة لهذا المقال بالذات، أحب أن أرحب بوجهات النظر على الإيميل كالعادة، لأنني أحب بالفعل أن نصل لتوثيقات تاريخية لتلك الفترة الحرجة.

الأحد، 16 يناير 2011

سؤال وجيه حول الصناديق

الأحد 16 يناير 2011

في ديسمبر الماضي، تساءل الأستاذ “سعيد الحمد” في زاوية أبعاد في جريدة الأيام تساؤلاً وجيهاً يقول فيه:
“ويبقى السؤال لماذا تمانع وتماطل بعض الصناديق في توفيق أوضاعها وإعلان التحول إلى جمعية وفقا للقرار الوزاري الذي توافقت عليه كل الأطراف بما فيها الصناديق التي تسوف وتطول وتماطل في مسألة التحول ما اضطر الوزارة إلى اتخاذ قرار تجميد وتطبيق قرار منع الصناديق من جمع الأموال كعملية أو آلية ضغط للتحول، ويظل سر الممانعة والمماطلة والتسويف بحاجة إلى كشف ما وراءه من مصالح تحول دون التحول إلى جمعيات”.
بالطبع، وقبل أن نتساءل مع الأستاذ الحمد ونبحث عن إجابة شافية، يجب أن نعطي للقراء نبذة عن موضوع الخلاف بين وزارة التنمية والصناديق الخيرية. فلمدة طويلة ظلت وزارة التنمية تطالب الصناديق بالتحول لجمعيات دون جدوى، فالوزارة تريد تنفيذ المبتغى من دون أن تسهل الموضوع للصناديق.
برزت العقبة الأولى في تكلفة تدقيق الحسابات، حيث طالبت الصناديق وزارة التنمية بتحمل هذه التكلفة، وظلت الوزارة تدير الأفكار حتى قبلت بذلك. من ثم وفي الربع الأخير من عام 2010 استهلت مراسلة الصناديق برسالة شديدة اللهجة تتمثل في تجميد حسابات الصناديق لدى البنوك، ثم أحالتهم إلى شركة التدقيق التي تحملت الوزارة تكاليفها مشكورة.
إلا أن ما قد يخفى على غير المطلع هو السبب الحقيقي لتلكؤ الصناديق عن الالتحاق بركب الجمعيات. فليس هناك بحسب اطلاعي القريب لأحد الصناديق أي سبب يتعلق بالذمة كما ألمح الأستاذ الحمد. وهنا أضع بين يدي القراء نبذة من النظام الأساسي الموحد والمعد سلفاً من الوزارة والذي تعاملت الوزارة فيه مع الصناديق كأنه قرآن منزل، وكأن مجلس الأمناء والجمعية العمومية مجرد مصدقين على النظام الأساسي المهلهل الذي لم تبد الوزارة أي مرونة أو آلية للاتفاق عليه، بل تعاملت بنمط “وقع ثم ناقش”. وبخلاف هذا النظام الذي سنتكلم عليه، فإن التقارير المالية والأوراق كلها قد تم تقديمها للمدققين، حيث لم يكن لذلك الصندوق وإدارته ما يخفيانه عن الوزارة، وإنما كان التعامل بصورة شفافة.
إليكم بعض الفقرات من النظام الأساسي والتي تحفظت بعض الصناديق عليها وسببت تلكؤها في التوقيع على قرار التحول، ففي معرض تحديد أنشطة الجمعية العتيدة يشدد النظام على جعل كل الأنشطة بتنسيق مسبق مع الجهات الحكومية:
- مساعدة المرضى المحتاجين للعلاج في المستشفيات الخاصة بمملكة البحرين، أو خارجها إذا لم يتوافر العلاج داخل المملكة وذلك بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة.
- تقديم المساعدة المالية للطلبة المحتاجين؛ لمواصلة دراستهم داخل البلاد وخارجها بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة.
- مساعدة الأسر المحتاجة لبناء المنازل وترميمها حسب الإمكانات المتاحة بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة.
وعلى النسق نفسه تجري جميع مواد النظام الأساسي بما يجعل الصناديق الخيرية جهة تنفيذية تابعة للوزارة. ولا تدري الصناديق إلى الآن كيف ستكون الطبيعة القانونية لعملها، ولا آلية التنسيق مع الوزارة في السعي لتحقيق أهداف إنشائها. هل سيظل الحال على ما هو عليه وسيكون التغيير شكلياً فقط، أم إن طريقة العمل ستتغير لتشل العمل التطوعي أو تجعله أسيراً لبيروقراطية الوزارات بما يتعارض مع أهداف العمل التطوعي الأهلي؟
وهل سيتوجب على الصناديق أو الجمعيات إخطار الوزارة مسبقاً بكل مساعدة ينوون تقديمها بما قد يعطل سير العمل، أم يتم ذلك في تقارير دورية أو سنوية ترسل للوزارة؟
إشكالية النظام الأساسي الجديد يجب أن تعالج مع الصناديق بصورة أكثر مرونة وتواصلاً من آليات تجميد الحسابات و”وقع ثم ناقش”. بل لا بد من إزالة مخاوف إدارات الصناديق من وضع أنفسهم تحت طائلة القانون حين يوقعون على نظام أساسي غير قابل للتنفيذ.
هنا أعود وأقول، ليس هناك ثمة مصالح وراء عدم الانضمام لقانون الجمعيات، والسر الذي يحتاج للكشف حقاً هو، لماذا الإصرار على نظام أساسي مفروض؟ أليس من حق كل جمعية أن تضع نظامها الأساسي الخاص بها؟ ويبقى للدولة حق فرض القانون لا الأنظمة الأساسية الداخلية، ولها أن تلتزم الجمعيات بالعمل وفق حدود القانون.

والله من وراء القصد

الأربعاء، 12 يناير 2011

أسنان الديموقراطية و الملهاة الكبرى






الأربعاء 12 يناير 2011

في كل مرة تنال الصحافة والجمهور من تجربة البحرين وتذكر المجلسين التمثيليين بحقيقة قدراتهما عن طريق مطالبتهما باتخاذ إجراءات يعلم الجميع أن المجلس لا يملك الصلاحيات الكافية لها. ستة تقارير لديوان الرقابة بالإضافة لتقارير لجان التحقيق وقفت مكانها دون اتخاذ إجراءات تصحيحية أو تأديبية وكأن ميزانية ديوان الرقابة وميزانية المجلسين هما مجرد إضافة للهدر الحاصل في مقدرات مملكة البحرين.
قرأت في صحيفة الأيام مسجاً يقول: “ماذا سيفعل النواب في تقرير ديوان الرقابة المالية... الأضخم والأوسع في رصد المخالفات والهدر للمال العام”. وأنا أقول هل النواب هم الجهة المخاطبة بهذا التقرير وحسب؟ ألا تتم مخاطبة الحكومة من قبل الديوان ويتم تزويدها بنسخة من هذا التقرير؟ ومن الجهة المكلفة بتحويل مثل هذه التجاوزات إلى الجهات المختصة من نيابة عامة أو لجان تحقيق داخلية في الأجهزة الحكومية المخالفة؟
المجلسان النيابي والشوري لن يمكنهما توضيح الواضحات لأحد، فالتقرير يشرح نفسه بنفسه، وفي كل مرة كان التقرير كذلك ولكن هل كانت هناك خطوات عملية على الأرض لتصحيح الأوضاع وما هي؟ سؤال يطرح نفسه بقوة.
لا شك أن إصدار دولة مثل البحرين لمثل هذه التقارير سيحسن تصنيفها العالمي من حيث الشفافية، وسيكون رقماً جديداً يضاف لمنجزات هذا البلد. ولكنني لا أشك للحظة في أن تصنيف البحرين من حيث محاربة الفساد سيتراجع بشكل واضح إذا لم يتم الإعلان عن خطوات عملية للتصحيح.
ومن حيث المبدأ، فإن المحاسبة عامل ملازم مع كل من المسؤولية والشفافية، وهذا ما يتوقعه كل متابع للشأن البحريني العام.
في نفس السياق، نستذكر الحملة الإعلامية الأخيرة لوزارة الداخلية وإعلانات الخط الساخن لمحاربة الفساد. إذا كانت هذه الحملة موجهة لمحاربة رشوة صغار العاملين، أو اختلاسات صغار الموظفين، فإن ذلك على فائدته سيرسل رسائل مشوشة للمتابعين، وستكون الرسالة الأولى أن هناك تجاوزات يتم التغافل عنها لأن المسؤولين عنها من الوزن الثقيل لا أكثر.
وبهذا تكون الرسالة التالية هي عدم الجدية في منع التجاوزات، والرسالة الثالثة أن عمل الديوان وتقريره لا يتجاوز كونه جزءاً من المتنفس الذي يعطى للمواطن كقضية رأي عام يتابعها ويناقشها.
الرسالة الرابعة وبلا شك وهي في اعتقادي الأخطر، هوتأكيد شكوك الناس بأن كل القصور والعجز في توفير خدمات المواطن يرجع إلى وجود فساد ينخر في مفاصل الدولة وبحجم كبير ويتم التغاضي عنه بلا عقاب عند كشفه، ولسان حال المتابع يقول بكل تأكيد “وما خفي أعظم”.
تجربة البحرين النيابية الفريدة ومشروعها الإصلاحي الواعد بقيادة جلالة الملك، أثبت في مراحل سابقة أن لهما أسنان كافية لحفظ الأمن السياسي، ولكن هل له من النواجذ ما يخيف المتلاعبين بالأمن الاقتصادي؟ وقديماً قيل انه ما من نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع.
أسنان التجربة وقبضتها الحديدية كما وجهت بحزم لحفظ الأمن يجب كذلك أن تتجه لتجفيف المورد الأهم لأي محرض، ألا وهو الفساد والتجاوز الذي يلهم بعضنا لمحاربته وبعضنا لاستغلاله سياسياً وبعضنا الآخر للاحتذاء به والانغماس فيه على طريقة قول الشاعر “كلها تسكر يا بن عسكر”.
حين يطالب المثقفون والسياسيون بحفظ هيبة الدولة، فإن حفظ هذه الهيبة لا يستدعي الهاجس الأمني وحسب، ولكنه كذلك يستدعي منع تحويل المال العام إلى سبيل أو مرمى بلا حارس، على أن حفظ المال العام يدخل في الهاجس الأمني من أكثر من جهة.
إننا ننأى ببلدنا البحرين عن أي شبهات تمس سمعته، فهل من الممكن أن نسمح بتحول الرقابة إلى عملية صورية لا تغني ولا تسمن من جوع؟ المواطن متسائلاً!!!