من الأمثال الرائعة في تراثنا الشعبي الخليجي، ينطلق من حضارة العرب، ويقوم بتوصيف شديد الدقة لحال الإنسان العزيز حين يذل. فالجمل عالي الهامة صعب المراس لا يمكن مجابهته بسهولة أو النيل منه، إلا أنه ما إن تلامس ركبتاه الأرض ينبري الجميع حتى أجبن خلق الله لإثبات شجاعته وقدرته عليه.
هذه الحال تشبه بدقة ما جرى في تونس على رئيسها السابق زين العابدين بن علي. فالرجل الذي عرف نظامه بالشدة وبقسوة الأمن فيه لم يكن الأسوأ في هذا الجانب على الأقل، إلا أن الكل أخذ يتكلم عن مثالبه بعيد رحيله حتى أقرب الأنظمة العربية إليه.
زرت تونس عام 2005 وتجولت بين شوارعها وتكلمت مع بعض من صادفت من أهلها، ومازالت بعض كلماتهم ترن في أذني من ذلك الوقت. أحدهم كان مرشدنا السياحي إلى القيروان، التي ربما كانت المكان الوحيد الذي يدل على طابع إسلامي قديم، ينبئك عن أصل هذا البلد قبل علمانية الحبيب بورقيبة. هذا المرشد الذي كان طالباً جامعياً يدرس في روسيا، ويعود في الصيف فيعمل مرشداً سياحياً كان يتكلم على تونس العلمانية، وقانون الأحوال الشخصية في تونس. هذا القانون مسخ طبيعة أهالي تونس ولم يخلق وضعاً من العدالة أو يحافظ على المودة والرحمة، بل على العكس تماماً. صار رجال تونس يستصعبون الزواج لأن من يقدم على هذه الخطوة بمثابة المنتحر لأنه يسلم نفسه طواعية لقانون مبني على القوانين الغربية يجعل من العيش بلا رباط مقدس أهون بكثير من الدخول بين خياري سقراط الشهيرين.
سألته حول القوانين الأخرى، فلفت انتباهي إلى أمر شديد الغرابة علي آنذاك، وهو أن الرجل يحاسب إن أطلق للحيته شيئاً من العنان، ولا يمكنه دخول الجامعة أو المصالح الحكومية بالإضافة إلى أنه قد يتعرض لحساب من الأمن في الشارع لنفس السبب. حتى ان الشباب المتشبهين بالهيبيز لا يمكنهم إبقاء لحاهم وإن كانت مشذبة ومهذبة.
نفس الأعراف تنطبق على المرأة المحجبة، التي إن أبقت على حجابها فمكانها البيت دون دراسة جامعية ولا يحزنون.
بعد هذا الكلام لاحظت أن القبعات يكثر ارتداؤها كبديل للحجاب «ومكره أخاك لا بطل». وكم عقدت في ذهني مقارنات بين إيران وتونس، ففي تونس تتحجب كثير من النساء بالقبعة، وفي إيران تتقبع نسوة بالحجاب. فالقبعة حاضرة في المكانين إلا أن الأعمال بالنيات.
في شارع الحبيب بورقيبة وهو أهم شوارع العاصمة، عجبت من كنيسة أو مبنى يشبه الكنيسة رغم علمي أن عموم التونسيين مسلمون. وتبين فيما بعد أنها أكثر من كونها كنيسة، إنها كاتدرائية تونس المسماة باسم القديس فانسان دي بول، وبنيت تخليداً لذكر أحد القساوسة الذي بيع كعبد في تونس. وربما كان من الغريب أن أسقف هذه الكاتدرائية منذ عام 2005 هو من أصل أردني والإشارة تكفي. وجود الكنيسة كان نوعاً من المجاملة للغرب وحسب. أذكر أنني سألت التوانسة عن وجود الكنيسة، كانوا يتهربون ويقولون انه لا توجد كنيسة أساساً ولا وجود لمسيحيين من الأصل.
على ذلك وعلى شدة الحاكم (الشرطة) إلا أن الوضع الاقتصادي في تونس لم أرصد فيه الخلل الموجود في مصر مثلاً وفقر شعبها المدقع. بل كان أكثر اعتدالاً بكثير.
يبقى هنا موضوع الثورة التي حصلت في بداية هذا العام الذي تكلم عنها الكثيرون بطوبائية شديدة، مفترضين أن محمد البوعزيزي أشعل الثورة بإشعاله النار في بدنه. وهنا أقول انه كفانا طوبائية، فلا يوجد حاكم قويٌ أو ضعيف في العالم كله فضلاً عن جمهورياتنا العربية الوراثية، لا يوجد حاكم ينتهي بإحراق شخص لنفسه. ومنذ أول يوم كنا نعرف أنه لا يمكن إلا أن يكون انقلاباً، وأي انقلاب أكبر من تحييد الجيش وقوات الأمن من صراع شديد، تقع ذروته في لحظات تصنع الجيوش العربية من أجلها ومن أجلها فقط.
اليوم انتقلت حالة عدم الاستقرار إلى دول أخرى كالأردن واليمن ومصر، ولعل بعضها يصل إلى نفس نتائج تونس، وها نحن نرى الإعادة بالبطيء، مجموعات تتجمهر على الفيسبوك، دعوات لمسيرات حاشدة، انطلاقات لهذه المظاهرات، تخريب وتصادم مع الأمن، سقوط ضحايا، تعاطف دولي مصطنع، ومن ثم سنرى الرؤساء يهربون إلى الخارج.
وعوداً على بدء، فإن بن علي رغم مساوئه البالغة ربما لا يكون الأسوأ عربياً أو إقليمياً، إلا أن إظهار مثالبه بشكل مبالغ فيه من قبل أنظمة صديقة سابقاً، هو محاولة لمنع انتقال عدوى الهيجان والانقلاب إلى شوارع هذه الأنظمة الصديقة، وهذه تمثل أهم سكاكين الجمل التي تكاثرت على بن علي.