الأربعاء، 27 أبريل 2011

داء التطرف





٢٧ أبريل ٢٠١١


يقول: عجبت من فلان، كان متشدداً في يمينه وفجأة صار متطرفاً في يساره ما حدا مما بدا؟ فأجبته: “تراويك الدنيا”.
من قال إن المتطرف متمسك بمبدأ معين؟ ليس بالضرورة، المتطرف يلتزم موقفاً هو موقف التحدي والإصرار، ليس لأن الفكرة أو المبدأ يبهرانه، وإنما موقف المحض للشيء هو ما يبهره، يحاول أن يتبنى موقفاً شديد الوضوح في أحد الاتجاهات دون أن يتأكد من القيمة الفعلية لهذا الموقف.
سطحي هو المتطرف، كالخوارج حين وقفوا بوجه علي حين اختلطت عليهم الأوراق بمشهد المصاحف المرفوعة على الرماح، وحين هتفوا “الحكم لله لا لك يا علي”، لم يتعبوا أنفسهم في محاولة فهم المعنى فاعتمدوا على المبني والظاهر وتلك لعمري هي السطحية بعينها.
والخوارج في كونهم مثال التطرف يبهرون أي كاتب يكتب عن هذا الموضوع، ففي نظرتهم للمؤمن لا يعترفون بالمعصية، وإنما الإنسان عندهم إما مؤمن أو كافر، ولا توسط بين الحالين بتاتاً.
والتطرف لا دين له إذ أنك من الممكن أن تقابل متطرفاً شيوعياً أو علمانياً أو قبطياً أو إسلامياً، يجمعهم جميعاً العجز عن التعايش مع أي فكرة مختلفة، يحتكرون الحق والحقيقة والفضيلة، ويحطبون لخصومهم الباطل والخرافة والرذيلة.
لقيت مرة رجلاً حديث عهد بالإسلام إلا أنه تنقل فيه كما يقول من مذهب لآخر، قلت له ما حدا بك لما أنت عليه الآن؟ فأجابني أنه عاش تطرفاً وتعصباً شديداً في مذهبه السابق مما دفعه لكرهه والبحث عن غيره يناسبه في الاعتدال.
قلت له ان التعصب والتطرف هو طبيعة بشرية لا علاقة لها بدين الإنسان أو مذهبه أو معتقده، وأعدك أنك ستجد نفس التطرف في كل فكرة أو مذهب تتبناه، فانظر للفكرة وصوابها ولا تنظر لحاملها لئلا تنفر من حق أو تميل لباطل بعاطفة خالصة لا فكر فيها إلا ما تهواه نفسك.
وفي حياتنا اليومية بل في تراثنا سنجد الأمثلة العديدة للتطرف والانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس بتطرف أيضاً. لا يجب أن يلاموا على أي فكر يتبنون، ولكن لأنهم لا يصغون ولا يعملون فكراً ولا يضعون نفسهم مكان الآخر لمحاولة فهمه.
والمتطرف يعيش غالباً حالة من المثالية الحالمة والبساطة في التفكير، ولذلك يرى غيره شراً مطلقاً ويرى نفسه بين ملائكة السماء. فهو لا يتجرد من حالة الإنسانية وحسب بل ويجرد الآخر منها. على أن علياً قال ان الناس اثنان، أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
ولا شك أن من المعاني المهمة لهذا الكلام أن هناك حداً أدنى من الحقوق أو البر كما يعبر الدين، يجب أن لا يحرم منها أي إنسان. ولا شك أن الأخوة في الدين تضيف المزيد من الحقوق وإن كان النوع الأول من الحقوق أقرب إلى الفيزيائية أو المادية الأساسية بينما قد تكون الحقوق المترتبة على الدين أكثر ارتباطاً بالجانب الروحي.
هذه البساطة الموجودة عند المتطرف ربما تكون ناشئة من فهم خاطئ لبعض المفاهيم الأساسية، بالإضافة إلى بعض الجوانب الخلقية للشخصية. والدليل على ذلك أنك كثيراًً ما تجد شخصين بنفس الأفكار إلا أنك لا تحتمل أن تحدث أحدهما بينما لا تمل من حديث الآخر حتى في نفس الموضوع. كما يضاف لذلك خوف المتطرف دائماً من ضعفه في جانب ما مما يدفعه للتطرف بشكل يقيه من مخاوفه من الآخرين.
كثير من التساؤلات بخصوص التطرف ونشأته وصناعته وكيف تستغله التنظيمات والأحزاب والدول لخدمة أجنداتها تزدحم داخل عقولنا ونبحث لها عن إجابات وافية وحلول شافية.
ذكر لي أحد الإخوة كتاب “المؤمن الصادق” الذي يتكلم بالضبط في هذا الموضوع، وهو من ترجمة الراحل الكبير الدكتور غازي القصيبي الذي يعد من أعلام الثقافة في بلادنا. أتمنى قراءة هذا الكتاب قريباً، وسأقوم بطرح أبرز النقاط التي يعالجها في حينه.

الأربعاء، 20 أبريل 2011

نعم، قلنا من قبل





صورة لمقال سابق



الأربعاء 20 أبريل 2011


قائل يقول، كنا نتمنى أن يكون للكتاب دور أكبر في الكلام عن المفاهيم المغلوطة والأساليب الحزبية والفتن العمياء في إرشاد الناشئة بدلاً من تبني خط معين بما يوحي بالتعصب أو النرجسية، وهنا أقول ان الكثيرين لم يفارقوا ثغورهم الفكرية التي عليها يرابطون، إلا أنه لا شيء يعلو فوق صوت الحماسة، وإلا فإن ما قيل قبل وأثناء وبعد أي فتنة لم يتغير إيقاعه ولا انخفض سقفه ولكنه ظل دوماً في إطار الدفع بالتي هي أحسن وهو منهج القرآن الكريم.
كان أول مقال لي يتخوف من أن أكون نغمة إضافية في النوتة لا تزيد ولا تفيد وإنما تكرر، وهذا ما حاولت أن أتجنبه. وكانت لي مقالات أكثر من صريحة في عدة اتجاهات وقضايا، أريد أن أستحضر بعض فقراتها، لأنه يبدو أنها مرت مرور الكرام.
في أكتوبر من العام الماضي 2010 وفي مقال بعنوان “المد والجزر” قلت بوضوح شديد:
“ولعل الكثيرين من الناس غير الحاج يعقوب لا يفرقون بين هذين الأمرين. فأجواء الانفتاح والتسامح لا تعني أبداً أنه لا يوجد قانون يضبط الحالة السياسية والاجتماعية. وأجواء الأزمات لا تعني أن الحريات الشخصية والحقوق الفردية والجماعية سقطت من بين دفتي القانون وصار بالإمكان انتهاكها دون حساب. هذا الخلط صار موجوداً وحاضراً بقوة، فترى بعض الناس يستغلون أجواء الانفتاح للمغالاة في استغلال هذه الحالة بما يفوق الوصف من خرق للقوانين دون حسيب أو رقيب، سواء كانت خروقات تستهدف الأمن، أو استغلال سلطة، أو تعدٍ على الأموال العامة وكأن القانون غير موجود أساسا، ويظلون كذلك حتى تتأزم الأمور. فيما نرى آخرين يستغلون أجواء الأزمات لفعل ما يريدون من تشهير وسب وتجريح متناسين أي قانون أو عرف أو خلق، وكأنها فرصة لمن في نفسه شيء أن ينفس عنه”. انتهى الاقتباس.
وتكلمت في نفس العام عن كل ما لاحظته من عيوب في إعلامنا كنقد ذاتي وفي الإعلام الخارجي كتوجيه للمتلقي المحلي، حتى انني نقلت مستشهداً كلام سمو ولي العهد في مقابلة مع قناة العربية، ضمن مقال نشر في سبتمبر 2010 بعنوان “تكريس التسامح كمبدأ إنساني”:
“علينا ألا نربط فكرا سياسيا بمذهب معين واقول هذا خطأ وخطأ كبير... نحن نحترم المذاهب كافة لان السياسة آنية والدين ومذاهبه دائمون، وبهذه المناسبة اتوجه إلى كل المسؤولين في منطقتنا - والاعلاميين بصورة خاصة - برجاء الابتعاد عن هذه التهم وتصنيف الناس بمواقف مسبقة، والدين دوما فوق رؤوسنا جميعا، والسياسة نختلف فيها، والدين ثابت، والسياسة زائلة” انتهى الاقتباس.
وكتبت في ما كتبت عن أساليب الأحزاب في التحكم في عقول الناس وأفردت لذلك أكثر من مقال أحدها بعنوان التحكم بالعقل والآخر بعنوان “البيبسي والوعي السياسي”. كما كتبت مقالاً حول “الاخوة الحزبية” ومساوئها ومقارنتها بالاخوة الإيمانية وكان الأول في يناير من العام الجاري والآخر في سبتمبر الفائت.
وكتبت في ديسمبر 2010 في مقال بعنوان الكتلة الأكبر متمنياً للحكومة أن تكون هي الكتلة الأكبر وأوردت سبب أمنيتي:
“إن الجمعيات واللاعبين السياسيين يخلقون التطرف عبر استغلال الحاجة، والمتاجرة بآلام الناس، وكما تجفف الدولة منابع الإرهاب عبر محاربة غسيل الأموال ومراقبة التبرعات للجهات المشبوهة، كذلك عليها أن تسعى جاهدة لحلحلة الملفات المعيشية لتقطع الطريق على المشككين والمتاجرين والمزايدين إن وجدوا.” انتهى الاقتباس.
إن الخطاب لم يتغير ولم يتحول سقفه أو اتجاهه إنما لعل هناك من يريد النقاش من أجل النقاش أوالاتهام، وهذا لا أستطيع أن ألومه لقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
أقول انه منذ فترة لا بأس بها، ورغم مواصلتي للكتابة، إلا أنني وبعض الأصدقاء صرنا نعيد عبارة “لمن تخط ولمن تقرأ” في إشارة إلى تدني نسبة من يقرأون أساساً فضلاً عن نسبة من يهتمون بالآراء غير المتشددة.
في الختام أقول ان الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهي له. وأقول كذلك لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولرب كلمة أحيت سامعها.

الأحد، 17 أبريل 2011

صدى الصوت 4





 الأحد 17 أبريل 2011


الشيخ المدني كان الغائب الحاضر في الفترة المنصرمة، وكان لا بد من التذكير بوصاياه في أزمة التسعينات، لأن من شأن من يريد دراسة منهج أن يأخذه عن رواده ليضيف دروس الماضي إلى دروس الحاضر. وكنت أتمنى أن أحيط بتراث باقي علماء تلك الفترة، إلا أن الميسور لا يترك بالمعسور.
حورب الرجل بسبب خطابه العقلاني الجريء وقوطع، إلا أنه لم يكن ليأبه لملامة اللائم أو تسقيط الجاهل، طالما أنه يرى صحة منهجه واستقامة طريقه. وسيرى القارئ من خلال نص الخطبة التي ننقلها بكل أمانة أن كل مخاوف السياسيين هي من مواجهة الجمهور الذي تم شحنه. وأن ما يواجهه دعاة الحوار من التسقيط ينبغي عدم الخضوع له وإلا تمت قيادة الأمة من متشددين يجيدون الصراخ فحسب. ولعله لا يفوتكم أن الإنسان حين يصرخ، كثيراً ما يبدو مغمض العينين.
وفي الفترة الفائتة كان كثير من المخلصين لهذا الوطن يعملون بجهد لا يكل ولا يمل ليساعدوا في تهيئة أجواء الحوار، فالكاتب يدعو في صفحاته، والخطيب ينادي في صلاته، والوجيه يعمل وساطته. وعلى هذا كله يكون من يسعى للتهدئة كالعومة مأكولة ومذمومة من الجميع.
وصدقوني إن الالتحاق بأي اتجاه متشدد هو أسهل من الوقوف في المنتصف للتهدئة، كمن يحاول إيقاف الشجار فيتلقى الضربات من الجهتين. هذا هو منهج إصلاح ذات البين الذي يصفه النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم) أنه خير من الصوم والصدقة والصلاة المستحبة.
يقول الشيخ سليمان المدني رحمه الله في ما يوافق أيامنا هذه في خطبته قبل 16 عاماً في السابع من أبريل 1995، في صلاة الجمعة:
“إنكم جميعاً تعلمون وإنني ومنذ بداية الأحداث كنت أنادي بضرورة حلِّ المشكلات العالقة عن طريق التفاوض والتحاور لا عن طريق العنف والعنف المضاد، وكنت أعتقد ولا أزال إن الشدة لا تولد إلا الشدة وإن احتواء الأزمات يكون بالطرق السياسية لا بالشدة والعنف فالتفاهم وأخذ الأمور بالرفق هوالسبيل الوحيد الذي جعله الله سبحانه لحلِّ كل خلاف يحدث بين البشر، والمسلمون أولى من اتبع إرشاد الباري جل اسمه، واهتدى بكتابه، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وأمرهم شورى بينهم والآن وقد ابتدأ باب التفاوض ينفتح، وإمكانية التحاور أخذت في الوجود فالرجاء من الإخوة المواطنين على اختلاف أفكارهم وتباين توجهاتهم أن يعطوا الفرصة لهذه العملية، وأن يدعموا هذه الإمكانية. المفروض علينا أيها الإخوة أن ندعم خطوة التحاور والتفاوض لا أن نهدمها، أن نشجعها لا أن نُوهِن منها، أن نؤازر القائمين بها لا أن نشكك فيهم.
إن القائمين بهذه الخطوة إنما يقومون بها لما يشعرون به من الواجب الوطني والديني الذي فرضه الله سبحانه عليهم ولذلك فهم لا ينتظرون من الناس مدحاً ولا ثناء، لا يريدون من المخلوقين جزاء، إنما يأملون من إخوانهم وهم شركاؤهم في كل ما يحصل لهذا البلد من الخير أوالشر أن يعطوهم الفرصة ليعملوا على تحقيق أماني الجميع ومتطلباتهم نحن نعرف أن هناك إعلاماً مضاداً لهذا التحرك لا ندري أسبابه، ولا نعرف مصدره ولا نُدرك هدفه، وقد اتخذ هذا الإعلام المضاد أشكالاً مختلفة فتارةً بالتشكيك في شخصيات القائمين أوالمشاركين في هذا التجمع، وتارة بنفي حق التكلم في الأمر عليهم.
إن القائمين بهذا التحرك لم يدعوا أنهم يمثلون أحداً حتى يحتاج بعض الناس ليقول أنهم لا يمثلون الشعب فالشعب لم يستفت بعد فيمن يريده أن يمثله، وكل من يدعي أنه يمثل الشعب قبل أن يُطرح إسمه في استفتاء عام فهومبطل في دعواه، وكلّ من يُدَّعى له بأنه يمثل الشعب قبل أن ينتخبه الشعب فإنما يُدَّعى له شيءٌ لا حقيقة له، حسب الإنسان إذا كان مخلصا أن يقول إنني باعتباري مواطنا أخدم الشعب وأسعى لتحقيق خير الشعب. لا أعتقد أن أي مواطن له الحق أن يمنع مواطناً آخر أن يعمل ما يستطيع لخير الشعب. ولا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يُنكر على أفراد هذا التجمع صفة المواطنة، وكما لغيرهم حق العمل بالأسلوب الذي يراه مناسبا، وبالطرح الذي يعتقده صالحا، وأن يسعى لتحقيق ما يصبوا إليه الناس في هذا البلد، فلهذه الجماعة أيضا سواء كانوا متفرقين أومجتمعين مثل هذا الحق. إن التشكيك في إخلاص الناس لمجرد الاختلاف معهم في الرأي أوفي الأسلوب ليس طريقا صحيحا، ولا سبيلا ًحكيما، وإذا كانت الأماني والتطلعات التي يُراد تحقيقها هي عينها التي ينادي بها فما وجه الاعتراض أن ينادي بها غيره وأن يسعى لتحقيقها سواه إن التعاون أيها الإخوة في تأييد أسلوب التحاور والتفاوض هوالسبيل الوحيد لإنجاح المتطلبات التي يصبوا المواطنون لتحقيقها، فلا تُمكِّنوا من لا يريد هذا الطريق من سده في وجوهكم، بترويج إشعاعاته، ونشر تشكيكاته”.
ينتهي الاقتباس هنا وتنتهي حلقات المقال، الذي حاولت أن أبين من خلاله المنهج الذي أتبناه ويتبناه الكثير من مخلصين هذا الوطن. كما حاولت من خلاله أن أبين جهود بعض علماء البحرين المحافظين والذين كان عملهم محوراً لوحدة وطنية وإسلامية يستحق منا جميعاً الإهتمام والإلتفاف، كان من طليعتهم أيضاً الراحل الكبير الشيخ منصور الستري رحمه الله والشيخ أحمد العصفور حفظه الله وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين أنجبتهم بحريننا الحبيبة.
حفظ الله بحريننا الغالية مليكاً وحكومة وشعباً، وأدام الله عليها الأمن والأمان والوحدة والرخاء.

الأربعاء، 13 أبريل 2011

صدى الصوت 3










الأربعاء 13 أبريل 2011


مازلت أقلب بصري ذات اليمين وذات الشمال بين كتابي “دعوة الحق”، وكتاب “الكلمة الطيبة” والمحتويين على تراث العلامة الراحل الشيخ سليمان المدني. أبحث عن كل ما يرتبط بأزمة التسعينات لنشره معتقداً أن الأزمات والفتن لا تختلف كثيراً، وجوهرها غالباً يكون واحداً.
وبالإضافة للتفاعل الكبير الذي وجدته، فإن منبع إصراري على الطرح بطريقة النقل الكامل ليس بسبب العجز عن البيان أو الكتابة، وإنما لسببين، أولهما أن الخطب والمحاضرات تتكلم عن نفسها بشكل موجز، والسبب الآخر بيان أن جميع الفتن تتشابه بحيث تكفي كلمة ألقيت في أزمة ماضية للتعبير عما يحدث في أزمة معاصرة.
ومما بلغني من الملاحظات بشكل متكرر، أن التوقيت غير مناسب للكلام في هذا الاتجاه، بمعنى آخر، بعد وقوع الفأس في الرأس. إلا أنني أعتقد أن مبرر التوقيت غير صحيح هنا، ففي بداية الأزمة حصرنا المقالات في زاوية التهدئة والحوار دون كلام عن السلبيات التي حصلت تماشياً مع مشروع الحوار الذي كان يراد له نزع فتيل الأزمة. حينها ركزنا كل جهودنا في دعم ما عبر عنه “بمشروع إصلاحي جديد”. اليوم وبعد انتقال الأزمة لمرحلة مختلفة، صار بالإمكان التقاط الأنفاس بعيداً عن الأحداث المتوالية وإيصال هذه المفاهيم وهذا التراث وتأطير الأزمة في إطارها الصحيح مع استعداد الذهنيات للتلقي. وقد قيل قديماً إن “الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت نبهت”.
وفي خصوص الفتن وتشابهها بالذات وجدت كلمة بعنوان الفتنة ألقاها المرحوم في الرابع عشر من يناير (كانون الثاني) عام 1997 أنقل منها ما يلي:
“يكثر الشباب هذه الأيام من التساؤل عن فتن آخر الزمان وكيف يُهتدى في ظلماتها؟ وكيف ينجى من ربقتها إذا كانت جميع الأشياء متشابهة؟
إن المنهاج في النجاة من الفتن واحد سواء كانت هي فتن آخر الزمان أو الفتن التي مرت في الأزمان المتقدمة، فمنذ أن نزل آدم وإبليس وحواء على ظهر هذا الكوكب وبعضهم عدوٌ لبعض. أخذ إبليس يبث الفتن ويزرع المشكلات في وجه دولة آدم، وفي وجه النبوة التي تتمثل فيها، والشبه التي تبتدئ وتسبب قيام الفتنة وتنتشر بعدها في الأفكار بسبب اضطرام الفتنة لا تختلف في ذلك الزمان عن هذا الزمان. بتلبيس الباطل بلباس الحق، وتلبيس للرأي بلباس الحكم الشرعي، وتلبيس للهوى بلباس العقيدة الشرعية، والعقيدة الإلهية. وعندئذٍ إذا تطاول الزمان ربما ينسى الحق ولا يوجد إلا حقٌّ ديث فيه الباطل أو باطلٌ ديث فيه الحق، يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: “ولو أنَّ الحقَّ خلُص لما اختلف عليه اثنان، ولو أنَّ الباطل خلص لما اتبعه اثنان، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث، فيمزجان ويخرجان إلى الناس”.
فالفتنة إذاً في الحقيقة ما هي إلا مزجٌ بين الحقِّ والباطل، وذلك أن إبليس وهو يعرف أنه لا يستطيع أن يجرد كل الناس عن فطرتهم، لا بد له من حرف هذه الفطرة وتشبيه الأمر عليها، ونضرب مثلاً بفتنةٍ من الفتن في الأزمان السابقة، هي فتنة قوم موسى والعجل، فالسامري الذي أخرج لهم العجل شخصٌ معروفٌ في المجتمع الإسرائيلي، وليس غريباً على بني إسرائيل، أخرج لهم العجل، والعجل مصنوعٌ من ذهب، وصغيرهم وكبيرهم يعرف مادة الذهب، ويعرف أن هذا العجل إنما هو من عملٍ إنساني، وغاية ما هناك أن له خواراً، أي أن له صوتاً، وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا عليه يعبدونه وهم يلمسونه بأيديهم ذهباً جامدا، وعندما نهاهم أو ذكرهم هارون قالوا له: لا، بل سنظل عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، وأنكروا كل فضلٍ لهارون، بل كادوا يقتلونه عندما قال لهم إن هذا مخلوقٌ مثلكم وليس ربًّا وليس إلهاً وليس خالقاً”.

وفي فقرة أخرى:
“فإذاً، المنهج موجود خاصَّةً في أيَّامنا الحاضرة، وهو أن ينظر للدعوة في حقيقتها، هل هي دعوةٌ لتحكيم الشرع الإسلامي أو لتحكيم الرجال؟ وهل يلتزم أصحاب أيِّ دعوةٍ بالحكم الشرعي في جميع مواقفهم أو لا مانع من تجاوز الحكم الشرعي وتحريف المفهومات الإسلامية من أجل الوصول إلى الغرض؟ يكفي لكل إنسان مهما كان بسيطاً أن ينظر هاتين النقطتين في أيِّ دعوة، وفي أيِّ زمان، وفي أيِّ بلد، وفي أيِّ مكان، دون أن ينساق مع عاطفته ليعرف الصادق على الله والكاذب عليه، المحق والمضل. يقول علي عليه السلام: (وإنما بدء وقوع الفتن أحكام تبتدع وآراء تتبع يوالي فيها رجال رجالا)”.
انتهى الاقتباس، إلا أنني أركز على نقطة أعتقد أنها تستحق مزيداً من الاهتمام أو إفراد مقالات منفصلة لها، يقول الشيخ المدني “وعندئذٍ إذا تطاول الزمان ربما ينسى الحق ولا يوجد إلا حقٌّ ديث فيه الباطل أو باطلٌ ديث فيه الحق”، وهذه نقطة مهمة تتعلق بالكثير من المفاهيم التي علقت بثقافتنا وبتفكيرنا وتوالدت وأُنتجتْ أفكار أخرى باطلة، لن أقول إنها ليست من صميم الدين، بل أقول إنها نتاج فلسفي لمفكرين مسيحيين أو لا دينيين، وهنا تكون المشكلة.
 آخر الوحي:
 “لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسننا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا تظلموا”. حديث نبوي

الأحد، 10 أبريل 2011

صدى الصوت 2











الأحد 10 أبريل 2011

في أيام الأزمات، يفتقد الناس صوت العقل، يفتقدون الرجل الحليم ذا العقل الراجح، رابط الجأش الذي لا تزلزله النوازل ولا يطيش رأيه في الملمات. وقديماً قيل:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ينطبق هذا الكلام على شخص الراحل الشيخ سليمان المدني رحمه الله، الذي كان رجل الأزمات بكل ما يمتلكه من من صفات شخصية تميزه عن الآخرين.
من ضمنها أنه إذا اعتقد بفكرة فلا يكتفي بالدعم المعنوي لها، وإنما يتبناها تبنياً تاماً حتى تصل إلى مواقع القرار والتنفيذ. ربما كان هذا من أهم ما يفتقده شارعنا وهو القيادة ذات الرؤية الواضحة والمبنية على منهج رصين يؤمن بالرفق وعدم التصادم ويكرس الوحدة الوطنية بين مكونات الوطن والوحدة الإسلامية بين طوائفه. نعم يفتقد الشارع إلى القيادة الفكرية التي توجه العامة ولا تنقاد لهم ولكن من دون أن تعيش منفصلة عنهم فلا تهتم بهمومهم.
نستذكره في هذه الأيام وذكرى وفاته في أواخر الشهر الفائت، ونستذكر بعض كلماته لا بقصد الرثاء، ولكن لأن في الإعادة إفادة، خاصة أني ذكرت بعض معانيها في مقال “النعمة المجهولة”.
يقول رحمه الله في خطبة الجمعة الموافق 5 مارس 1999 “ومثال تفريط الشعوب والأمم في نِعَمِ الله سبحانه وعدم المحافظة عليها أن يُنعم الله سبحانه على شعب بنعمة الأمن والخير والرفاه، فتفرِّط الأمة في تلك النعمة، يأتي حزبٌ من الأحزاب فيعمل على تدمير الاقتصاد وإشاعة الخوف بحجة أنه متى ما ضعف الاقتصاد فسوف تنهار الحكومة في تلك البلد فيستطيع هو أن يسيطر على مقاليد الأمور فينشر الخوف والذعر بين الناس، ويوافقه من لا خِبرة له، ولا عقل له، فيثيروا الخوف والذعر في كل مكان، ويتبدّل أمن الطريق بانقطاع السبيل، يصير الناس في تلك البلد يخشون على أموالِهم من الإتلاف، يخافون على أنفسهم من الأذى، فيهربُّون أموالهم وتجاراتهم وشركاتهم ومؤسساتهم إلى بلدٍ آخر يكون الأمن على النفس والمال متوافراًَ فيه، فتنتعش سُوقه، ويكثر خيره، ويصبح البلد الأول بلد فقرٍ وخوفٍ وبطالة، لأن أهلَ هذه البلد لم يشكروا نعمة الله التي أنعم بها عليهم، ومع ذلك قد لا يتمكنون من تحقيق ما هدفوا إليه، ولو تمكنوا فعلاً من إسقاط تلك الحكومة عنهم فإنهم يرثون دولةً فقيرةً مهزوزة، كما حدث لكثيرٍ من البلدان العربية والإفريقية والآسيوية التي قامت فيها انقلاباتٌ عسكرية بعد أن عمِلت الأحزاب فيها على تقويض البنية الاقتصادية، يقول سبحانه وتعالى في محكم آياته، وهو يبين قانوناً كونياً غير قابلٍ للتخلف، يقول سبحانه وتعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”، إنهم لم يكفروا بالله إنما كفروا بأنعم الله التي أنعم الله بها عليهم فكان لابدّ أن تزول عنهم نعمتا الأمن والرخاء ويحلَّ بدلهما لعنتا الخوف الفقر.
فاتقوا الله عباد الله ولا تنفّروا نعم الله التي أنعم بها عليكم، ولقد شرَدَت من بين أيديكم نعمٌ كثيرة كنتم محسودين أو مغبوطين عليها بين شعوب هذه المنطقة، بسبب عدم محافظتكم عليها، وتفريطكم فيها، فلا تظلوا تُنَفِروا ما تبقّى من النّعم التي مازلتم تتمتعون بها، لا تجهلوا قدر هذه النعم فتكونوا كالسمكة التي لا تعرف قيمة الماء حتى تُخرج منه، ففي الحديث الشريف: “تُجهل النعم ما أقامت فإذا ولت عُرِفت”، ولا تجعلوا قول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام منطبقا عليكم، فإنما قاله ليحذّرَ من يتشيع له ويتابعه من الوقوع فيه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: “إنما يعرف قدر النعم بمقاساة ضدها”، فلا يعرف الغني قدر ما عنده من الخير حتى يذوق الفقر ويحس بالضيق، ومن يتمتع بالحرية الدينية لا يحسّ مدى أهميتها ومدى عظمتِها حتى يقاسيَ الضغط الديني والكبت العقائدي، وهكذا كل نعمة لا يعرف صاحبها قدرها ولكن من عانى ضدها أدرك قيمتها، فالشيعي مثلا الذي يعيش في بلد يسيطر عليه من يمنعه من إقامة المآتم، أو الخروج بمواكبِ العزاء في الشوارع، يغبط أهل البحرين مثلاً على ما هم فيه من نعمة الحرية الدينية، ولكنّ أهل البحرين لا يقدِّرون هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها عليهم، فتجدهم لا يحافظون عليها بتنزيهها مما لا علاقة لها به من شعارات دنيوية، ومطالب سياسية، بل كثير منهم لا يبالي أن تزول هذه الحرية، إذا كان لن يتمكن أولن يُمَكّنَ من استغلالها في رغباته وأهوائه ومصالحه الفئوية. ولذلك جاء في المثل: أن (الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يبصر به إلا المرضى)؛ لأن المرضى قاسوا ضدّ نعمة الصحة فأصبحوا يدركون قيمتها. ولعلّ من أعظم النعم المكفورة بين الناس في كلّ مكان الأمن والعافية، ويقول الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام: “نعمتان مكفورتان الأمن والعافية”، فتجد الناس لا يحافظون على حالة الأمن ولا يتورعون من ارتكاب الأعمال التي تسبب الخوف والذّعر، حتى ينتشرَ بينهم الخوف فيخاف كل واحد منهم من غيره، كما أنهم إذا عافاهم الله سبحانه من البلايا والمصائب والنكبات بطِروا، فأخذوا يعملون على التحرش بمن إذا غضب صبَّ عليهم البلاء، فتمتلأُ بهم السجون والمعتقلات وتغصُّ بهم التوقيفات، ويتشردون عن البلد في سائر البلدان، ويصبحون في بلاءٍ عظيم، عندئذ يحسون بقيمة العافية التي كانوا بها يتمتعون”.
آخر الوحي:
“ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه” حديث نبوي