الأحد 5 اغسطس 2012
مسلسل أبناء الرشيد: الامين و المأمون، عمل تاريخي جميل حين تجول في ثناياه تبصر إبداعات في صياغة النص و سبك الأحداث و تركيبها و صنع الأبعاد المركبة لشخصيات هذا العمل، كان من مزاياه الجميلة ندرة تعرضه لبعد منفرد من شخصية معينة، بل كان يحاول توضيح الجوانب المختلفة من أبعاد كل شخصية. لذا كانت الشخصيات فيه أقرب للواقع من المثالية، فلا شخصية فيه خيرة كالملائكة، و قل أن تكون فيه شخصية اقرب للشياطين. بشر هذا العمل قريبون من البشر، و كاتب العمل ابتعد كثيراً عن تحديد مآل كل شخصية من شخصيات عمله إلى الجنة أو إلى النار كما فعل كتاب كثير من الأعمال، و ترك المشاهد يتصفح بدون أن يقحم القناعات في ذهنه إقحاماً.
بالتأكيد كانت شخصية العمل الأساسية شخصية المأمون الذي كان منكباً على العلم و المعرفة و مخالطة عامة الناس مع إخفاء حقيقة شخصيته، بيد أن الناس كانت تعلم أنه ابن الرشيد. كان أقرب إلى قلب أبيه إلا أن الأعراف اقتضت أن يكون هو ولي العهد الثاني حيث كان الأمين إبن زوجة الرشيد العباسية زبيدة بينما كان المأمون إبن أمة فارسية، مما اقتضى تأخيره في ولاية العهد ليكون ثانياً.
يسهب العمل في تصوير صراع المصالح داخل البلاط و بين كبار رجال الحاشية، و ولاة الأمصار و كيف يعد كل من هؤلاء الدسائس للآخر و الحيل المختلفة و الوشايات معتمدين على الفضائح و الزلات و الأهواء التي ترتبط بهؤلاء الشخوص، حتى تحين نكبة كل منهم على يد الآخر، و تتوالى عهود كل من هؤلاء الرجال بتوالي نكبات من قبلهم و تدور الأيام عليهم بين صعود و هبوط و تقريب و تبعيد و تولية أمر و عزل.
و تستمر الأحداث من عهد الرشيد إلى الأمين حتى يصل المأمون إلى الحكم، فيقوم بتقريب العلماء، و هنا تتضح المعالم السياسية للمشاريع الثقافية، فيتبدى كيف تكون توجهاته من أمثال تقريب العلماء درءاً لفتنة هنا أو تقوية لضعف الدولة هناك. فالمأمون الذي لم يكن على مذهب التشيع أظهر قرباً له حتى جعل ولاية العهد في الإمام الثامن للشيعة الإمامية و هو الإمام علي بن موسى الرضا. و في سياق المسلسل يتضح بجلاء أن هذا التمذهب ليس دينياً و إنما سياسي، فالمأمون بحسب المسلسل ارتأى أن ذلك يجعله أقرب للشيعة، و معروف أنهم كانوا حانقين من أبيه الرشيد الذي قضى والد الرضا في سجونه.
ثم ما يلبث أمر ولاية العهد أن يثير حفيظة العباسيين فيحركوا الفتن في بغداد عاصمة الرشيد و يخلعوا طاعتهم عن ابن أخيهم، فيتحرك المأمون بنفسه إليها و يبدأ بمجالدتهم و محاربتهم حتى يخمد أوار تلك الفتنة، فيقوم بإشغال الرعية من نخب و عوام بأنفسهم في صراع عقائدي حول مسألة خلق القرآن، ليضع الناس في فتنة ظاهرها و إطارها العام ديني ثقافي، و مقصدها إلهاء الناس عنه و عن حكمه و وضع مخالفيه تحت طائلة سيفه و سوطه.
يأتي بعد ذلك هجوم الروم على بعض ثغور الدولة، فيشار عليه أن يوجه الحملات لحرب الروم لأن في ذلك ردعاً لهم من ناحية، و جمعاً لكلمة رعيته من ناحية، خاصة و الفتن و الصراعات تدب في كل المفاصل و النواحي، و الأمر لا يكاد يستتب في منطقة حتى تتحرك الإحتجاجات و الدعوات في مناطق أخرى.
يوضح المسلسل من خلال هذه الأمثلة على الإستقطاب و استغلال الدين في توجيه السياسة و تغطيتها كيف أن الدولة في زمان المأمون و غيره من ملوك الدولة العباسية أو الأموية كانت تستفيد من الدين في جمع شعثها و توحيد صفوفها. و حتى اليوم فلم تختلف حرب المأمون على الروم عن قيام فرنسا و تونس بمحاربة الحجاب أو قيام سويسرا بمنع المآذن أو قيام الدول بنشر دعاة المذاهب على القنوات. هذه الدعوات كلها ليست دعوات أفكار و إنما دعوات صنع أقطاب، تتحول فيها الأفكار إلى شركة تجارية مملوكة لدولة أو علامة تجارية مسجلة، أو ناد رياضي قوي يتعصب له الجمهور و تخرج نية التقرب إلى الله من الفكرة و تتحول إلى أنا متضخمة تجذب حولها ذوات ملايين الأفراد يتحولون إلى قطعان أو ذرات غبار تصنع جبلاً لا قيمة لها في ذاتها و إنما القيمة لها في مجموعها، و قد خلقت فرادى ثم جمعت شيعاً و أحزاباً يحارب بعضها بعضاً لخدمة هذه الأقطاب التي يدعي كل منها أنه في خدمة الدين أو الإنسانية أو العدالة، بينما هو في خدمة الفرقة و أو في خدمة وجود أو بقاء منفرد لمصالح منفردة مركزية.
هذه القطيعة ربما كان سببها الجهر بدعوات و العمل لخدمة هذه الدعوات، بدلاً من أن تكون الدعوات خادمة للهدف الأسمى فتشتمل على نكران ذواتها، و هنا يكون رياؤها هو الحقيقة فيما المعلن عن جوهرها كذباً، و ربما لهذا قيل قديماً أن كونوا دعاة بغير ألسنتكم. و رمضان كريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق