الأربعاء، 28 سبتمبر 2011

أزمة الضمير










٢٨ سبتمبر ٢٠١١


يقال إن للمرأة أربعة أسلحة: لسانها وأظافرها ودموعها وإغماؤها. ولعل السلاحين الأخيرين أشد فتكاً بالخصم من الأولين والسبب يكمن في أنهما يفسدان لذة الانتصار مثل الخصم الذي يرفع راية بيضاء قبل أن تقصفه بمدافعك، يخلقان صراعاً نفسياً ثم يسببان هزيمة من الداخل ويجعلان الإنسان أمام أزمة ضمير لا مفر منها، ويشعر أنه اجترح ظلماً وقسوة حتى لو لم يكن الأمر كذلك.
أزمة الضمير التي تستخدم عاطفياً من قبل الابن بمكر تجاه والديه ومن الموظف تجاه رب العمل ومن المرأة مع رجلها، هي نوع من أنواع القوة المغلفة بغلاف الضعف، إلا أنها أكثر سمية وفتكاً من سلاح المواجهة؛ لأنها تدخل الإنسان في صراعه الذاتي بين مكوناته النفسية، وغالباً يكون النصر للمثل العليا على الأنا حتى وإن كانت الأنا محقة، وكانت المثل العليا في غير محلها. ربما كان هذا سبباً في ضرورة وجود الحكم أو القاضي ليمنع الغش والاستغلال أو حتى الاشتباه.
أزمة الضمير تستخدم لأكثر من غرض، فمن الممكن أن تستخدم لجمع الأنصار أو لتحييد المخالفين أو لضرب الخصم في جبهته الداخلية. وهي تحصل عبر إظهار صانعها الضعف والظلامة. هنا يجب أولاً أن نفرق بين أمرين مهمين، بين أحقيته وبين مظلوميته. هل هو محق في خصومته، هذا أمرٌ يحكمه القانون والشرع. وهل هو مظلوم في تعاطي الآخر مع حقوقه الأولية، وهذا أيضاً شأن حقوقي يمكن التقاضي فيه وإثباته. إذن، فالأمران يخضعان للاعتبارات العقلية والمنطقية ولا محل للعواطف فيهما.
عند افتعال أزمة الضمير كثيراً ما يصاحبها خلط للأوراق لإدخال عنصر العاطفة الذي يساهم الإغراق فيه إلى تضخيم جانب المظلومية. هنا تتحول القضية الثانية إلى قضية أساسية يلزم إرضاء صاحبها مما يستلزم تقديم تنازلات قد يكون من ضمنها التنازل عن الحق في القضية أصل الخلاف. على المدى القصير تنجح عملية خلط الأوراق أول ما تنجح في تحييد المخالفين القريبين أو ضمهم إلى دائرة الأنصار. وعلى المدى البعيد قد تساعد الظروف المحيطة في الضغط على الخصم وخسارته قضيته الأساسية.
ربما يمكننا تسمية خلط الأوراق في هذا الاتجاه بمسمى استثمار المظلومية. ويمكن تشبيهها بمثال من قبيل أن يلقي شخص نفسه أمام مركبة مسرعة ليطالب فيما بعد بتعويض مجز. لو لاحظنا، فالرجل أخطأ بإلقاء نفسه أمام السيارة، إلا أنه في أكثر الحالات التي ينجو فيها يحصل على تعويض جيد وسريع ربما عبر تسوية خارج القضاء.
من الأمثلة استخدام الأطفال والنساء مثلما فعل القذافي حين قام بتجنيد النساء والأطفال ليرفع أقمصتهم المدماة فيما بعد ويتهم ثوار ليبيا بقتل الأطفال.
الشق الثاني لأزمة الضمير يتمثل في تغييب الضمير تماماً عبر الإغضاء عن مظلومية الخصم بسبب عدم أحقيته، إذ لا يجوز أن نجرد خصومنا من حقوقهم كبشر لكونهم مبطلين في دعواهم بحسب اعتقادنا.
يجب الفصل بين الورقتين دائماً لتجنب أزمة الضمير ومعاملة كل منهما كقضية منفردة، وإلا كان الحق للأدهى وليس الأحق.
لا أعتقد أن الشواهد للشقين من أزمات الضمير تغيب عن واقعنا، ولربما كان القارئ يستحضر بعض الأمثلة الآن، ولكنني بالتأكيد لا أقصدها.
سؤال يطرح نفسه، إذا كان خلط الأوراق فخاً يستخدمه أحد الأطراف، فلماذا يقع الطرف الآخر فيه، والإجابة تقول قد يقع في الفخ إما لأنه مكره على الوقوع فيه أو (وكثيراً ما يصح ذلك) برضاه لإدخال كل الأنصار المحتملين لصاحب الفخ وجرهم في أتون معركة محدودة تضمن القضاء عليهم جميعاً، فيكون انتصاراً ساحقاً يقضي على قوة هذا الخصم لأمد بعيد.
العملية برمتها مرفوضة أخلاقياً؛ لأنها تقوم على أساس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وتقوم على كسر المحظورات، وإلغاء قدسية المقدسات ونشر سوء الظن، فتقتل كل جميل في عالم البشر.
هنا يطرح سؤال آخر نفسه: الأدوات المستخدمة لخلق أزمة ضمير وخلط الورق والابتزاز فيما بعد، إنها تدفع أثماناً غير قابلة للاسترداد، لماذا يسمح المسؤلون عنها والقيمون عليها باستغلالها؟ والإجابة باختصار: إنهم يعيشون أزمة ضمير من نوع آخر!

آخر الوحي:
كفي عن الكلام يا ثرثارة
 كفي عن المشي
 على أعصابي المنهارة
 ماذا أسمي كل ما فعلته؟
 سادية
 نفعية
 قرصنة
 حقارة
 ماذا أسمي كل ما فعلته؟
 يا من مزجت الحب بالتجارة
 والطهر بالدعارة
 ماذا أسمي كل ما فعلته؟
 فإنني لا أجد العبارة
 أحرقت روما كلها
لتشعلي سيجارة؟

نزار قباني

الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

فصل الخطاب








٢١ سبتمبر ٢٠١١


بينما يقترب موعد الانتخابات التكميلية تتعالى أصوات الدعوة للمقاطعة. وبينما تجد المشاركين يصرحون بأسبابهم للمشاركة فإن المقاطعين يضعون أيضاً أسباباً قد يكون بعضها حقيقاً بالتأمل. بالنسبة لي ولجملة من المشاركين في الانتخابات، فإن المشاركة شرعاً ليست خيارا بقدر ما هي واجب لا مناص منه. ومهما كانت تسويغات الآخرين للمقاطعة مبنية على عدم جدوى الشكل الحالي من التجربة النيابية فإن من التغافل أن نغمض عما يمكن أن يحدث في غياب تمثيل كفؤ لكل فئات الشعب.
إن قلت لي أنه لا جدوى فأنت تنظر إلى المصلحة وحسب، ما بالك بالمفسدة؟ هل تحسب أن حضورك وغيابك متساويان في جميع الأحوال وإزاء جميع القضايا؟ إن كان كذلك فما قيمة أي تحرك في الدنيا، إعلامياً كان أوحقوقياً أوإقتصادياً أوإجتماعي؟ وماذا يفيد غيابك في تطوير التجربة؟ أتراها تطورت بمن قاطع في 2002 لننتظر ثمرة المقاطعة الآن؟
نعم أنت تتمنى تجربة أفضل تدفع البلاد نحو الاستقرار والتنمية، هل تعتقد أن المقاطعة هي الطريق الأمثل؟ هذا شأنك من حيث الجدوى والتفكير في المخرجات، ولكن اسمح لي أن أضعك أمام أزمة ضمير لأقول لك، من يتحمل مسؤولية فراغ التجربة من أكفاء صرحوا بتعرضهم للضغط من محيطهم الاجتماعي فانسحبوا فخسرت التجربة جهودهم، وهل يكون المقاطع أحد أسباب تأخر هذه التجربة وعدم جدواها حين اتخذ سبيل المقاطعة ودعا لها؟
أتخبرني أن الواقعية السياسية المتمثلة في الدخول تعد تخاذلاً وتسليماً؟ بربك ألم يتم اتهام المعارضة بذلك حين دخلت ضمن قانون الجمعيات، وحين قررت دخول التجربة في 2006 تحت مظلة دستور 2002؟ ولكن عند الصباح يحمد القوم السرى، ففي انتخابات 2010 كانت كتيبات مرشحي المعارضة تعج بذكر إنجازاتها من التجربة السابقة والتي استبانت إمكانية تحقيقها من تجربة الدخول بعد مرارة المقاطعة.
تقول لي أن هناك توجهات من المتشددين خلقت الإستهداف لمكون أساسي من مكونات الشعب وكان حملة هذا الإتجاه يحاربون هوية ما. لمسنا كلنا بعض ذلك، وعرف ذلك الجميع، وماعليك إلا أن تتصفح برامج التواصل الاجتماعي لتعرف أن ما تقوله صحيح جزئياً. ولكن هل لي أن أذكرك بما نسيته ولم أنسه؟ سأذكرك بتحفة التقرير المثير أوكما أحب أن أطلق عليه التقرير “اللي ما ينطرى”، هل تذكر كيف دخلت المعارضة بعيد نشره انتخابات 2006 عاقدة العزم على الدخول للتغيير والتطيير. ومنذ ذلك إلى 2010 وأنت يتراءى لك تنفيذ ما يبدو أنه من بنود هذا التقرير، هل منع هذا من الدخول في التجربة السابقة؟ كلا، بل كنت ترى ضرورة التواجد لنفس الأسباب، فماحدا مما بدا؟
تقول ان الدخول تسلق وتجاوز للآهات والعذابات والدماء التي أريقت وأنه دخول لمآرب خاصة، وأما أنا فأقول لك لم لا يكون وفاء لكل قطرة دم خلقها الله وحرم أن تراق، وسبيل هذا الوفاء في الإبتعاد عن أي مواجهة تريقها. لأن هذه الدماء الزاكية أغلى من أن تسيل لأي سبب. ووفاء لكل قطرة من قبل أن تسيل يجب أن تغمد ولا تسل سلاحاً فتظل أثمن من أي مطالب قد ينالها الناس من بعد أولا ينالونها.
لا تقل لي أني بالدخول آخذ مكاناً كان ليأخذه من هوأحق وأنني سأكون شاهد زور على إرادة الناس. فالأولى بمن لم يسد الثغر مع علمه بخطره أن لا يلوم من ينبري لسده. ثم كيف لأحد أن يشهد زوراً على إرادة الناس بدخوله إن كانت النسب المنخفضة جداً ستشهد بصوت جلي عن إمتعاض الكثيرين وعدم رغبتهم في الدخول.
هذا موقف لن يتغير طالما لي تأصيلي الشرعي الثابت للمسألة الذي لا يتغير بالمرحليات وبتلون الساحات ولا حين يتعلمن الملتحون.
آخر الوحي:
شتان مايومي على كورها ***ويوم حيان أخي جابر
الأعشى الكبير

الأحد، 18 سبتمبر 2011

الفوضى الخلاقة











١٨ سبتمبر ٢٠١١


ربما كان أول لقاء لنا بهذا المصطلح في تصريح كونداليزا رايس في عام 2006 حين تحدثت عن الشرق الأوسط الجديد الذي سيسبق ولادته نوع من الفوضى التي ستعيد تشكيل الواقع السياسي في الشرق الأوسط وتفرز جملة من التغييرات. وليس محل الشاهد عندي في كون هذه الفوضى الخلاقة هي نفسها ما أطلق عليه “الربيع العربي”. ولا أريد أن أشير إلى أن الحركات السياسية العربية منذ أواخر العام الماضي ومطلع هذا العام هي مفرزات لسياسة استخباراتية أمريكية، فذلك أجلى من أن يكتب فيه وعنه.
وإنما بيت القصيد هو في آلية عمل هذه الفوضى أو بمعنى أدق في النظرة لمثل هذا النوع من الفوضى. لأول وهلة فإن كلمة فوضى لها مدلول سلبي، إلا أن الكلمة التالية لها تسبغ عليها المعنى الإيجابي. وبمعنى آخر فإن واضع المصطلح يهيئ نفسيته لتقبل ان هذا الوضع سيئ بسبب أن نتائجه تصب في خانة المرغوب. نعم سيتجاوز عن الخطأ لأن وراءه تصحيح لوضع سيئ قائم لابد من تغييره، كل هذا بمقياس مصلحته طبعاً.
هل نستطيع أن نقول ان هذا المنطق منطق انتهازي، ينظر عبر قاعدة “المصلحة تقتضي”؟ هل من المسموح أن نتجاوز عن الخطأ لتحقيق الصواب فيما بعد؟
في لعبة كرة القدم مثلاً من السائغ أن يتجاوز الحكم عن خطأ لمصلحة فريق إذا كان هذا الفريق المستحق ينال فائدة أكبر بالتجاوز عن من أخطأ بحقه، أوبمعنى أوضح إذا كان مازال محتفظاً بالكرة رغم محاولة إعاقته المتعمدة.
وفي حين أن لعبة الكرة تستند إلى قانون وحيد، فإن لعبة السياسة تحدها الكثير من المحاور والقوانين والأخلاقيات التي يفترض أن تحدد إمكانية التجاوز عن الخطأ من عدمه. فيمكن في لعبة السياسة وصف منطق ما أوعمل ما بأنه غير أخلاقي، أوغير قانوني، أويصطدم بالأعراف الدولية بغض النظر عن كونه فنياً يعتبر ذكاء سياسياً أولا يعتبر كذلك.
في عالم السياسة، لن نتفاجأ بالإنتهازية، لكن سنتفاجأ بالتنظير للإنتهازية. فلقد وضحنا في مقال سابق بعنوان “رسالة إلى أوباما” الإزدواجية في المعايير التي تتصف بها السياسة الأمريكية إزاء الأحداث في بلدان مختلفة بحسب تنوع المصالح الأمريكية في البلدان فقد تكون مرتبطة بالمعارضات أوبالحكومات آنياً على الأقل.
ولتوضيح صورة استخدام الفوضى الخلاقة، نستطيع أن نقول أن كل لاعب سياسي يمكنه أن يمارس الإستفادة من هذه الفوضى أومحاولة الاستفادة. فالمعارضة مثلاً يمكنها التجاوز عن كل ما يتناقض ومبادئها المعلنة آنياً، على اعتبار أنها ليست هي من يتبنى هذا السلوك المناقض لمبادئها وأنها ليست مسؤولة عن توجيهه وتقويمه. يمكنها أن تترك مناطق رمادية لا توضح ما تتفق معه ولا توضح ما ترفضه من سلوك حتى يستنفذ فائدته المرجوة وبالطبع فإنها لا تستطيع تجاهله للأبد، لأنه يصل في النهاية إلى وضع فاقع يستنكره الجميع ويصير مفروضاً عليها أن تنتقده وتتبرأ منه.
وكما تستفيد المعارضات كأحزاب من تجاوزات المجاميع فإن اللاعبين السياسيين في دور الموالاة حين يكونون نوابا مثلاً فقد يتجاوزون عن سياسات حكومية خاطئة لأن هذه السياسات تحقق لهم بعض المصالح المرجوة. وبالطبع فإن نواب الموالاة لا يملكون الدهر كله ليتجاوزوا فيه، فهذا بالتأكيد يحرق اوراقهم الانتخابية في الدورات المقبلة، ولذا ستجدهم يستعجلون تحقيق الأهداف بسرعة قبل أن يضطرهم الوضع التجاوزي الفاقع لإستجواب للوزراء يبرؤون به ساحتهم بشكل استباقي على طريقة “بيدي لا بيد عمرو”. وستجدهم بعد خراب البصرة يقولون انهم لا يرضون بظلم بريء ولا إطلاق الجاني بعد أن استبقوا كل الأحكام القضائية.
الحكومات في إدارة مجاميعها قد لا تكون أفضل حالاً، فمن السذاجة أن نظن أن ما حصل في “أبوغريب” أوفي غوانتاناموحصل رغماً عن الإدارة الأمريكية. ومن البراءة أن نظن أن واقعة الحرة كانت بغفلة من الحكم في الشام. وإلا لسجل التاريخ العقوبات المشددة التي تم إيقاعها على هؤلاء المتجاوزين.
إذن فالكل يتجاوز ويهون أخطاءه وتعتبر فيما بعد تصرفات فردية، ويطلق العنان للفوضى الخلاقة لتحل مشاكله على طريقة “ذل قوم ليس فيهم سفيه”.
ومجموع الصور الصغيرة للفوضى الخلاقة يساهم بكل طريقة في تشكيل الصورة الأكبر والتي عنتها السمراء “كونداليزا رايس” حين تكلمت عن مخاض عسير وفوضى خلاقة يسبقان ولادة شرق أوسط جديد، فهل نحن كأمة عربية وكدولة عضوفي جامعتها متنبهون لذلك؟ أتمنى ذلك.

آخر الوحي:
أرح ركابك من أين ومن عثر
كفاك جيلان محمولاً على الخطر
واخفض جناحك لا تهزأ بعاصفة
طوى لها النسر كشحيه فلم يطر

محمد مهدي الجواهري

الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

المنصفون











14 سبتمبر 2011

عملة بلا شك نادرة في هذا الزمان وفي كل زمان أولئك الذين ينتصفون لك من أنفسهم أو حتى يقبلون ما يقال فيهم من مثالب قد تمحوها فضيلة الاعتراف والإقرار بها. من يستطيع أن يقف ويقول لك: نعم، أخطأت في كذا ولكنني أصبت في كذا وكذا؟ من يملك أن لا تغلبه شهوة الغلبة في الجدال، فيكون صادقاً مع نفسه قبل أن يكون صادقاً معك؟ من يملك أن يقوم لله وحده ثم يتفكر فيما اعتقده أو قاله أو فعله ليقيسه على مقياس الخطأ والصواب والعدل والظلم؟
حتماً سيكون هناك قلة لمسوا إنسانية الآخرين و يعلمون عدم زيفهم وأنهم صادقون في شكواهم مما يتألمون منه إذ عاشروهم في أفراحهم وأحزانهم وفي كل جزء من تفاصيل حياتهم. لكنه من الصعب أيضاً أن نضع أنفسنا في مكان الآخر ونحمله على أحسن المحامل رغم أن الجميع مسهم القرح والجميع يألمون، ولكن قل لي بربك من يملك في لحظات الغضب، والغضب بالذات أن يضع نفسه مكان الآخر ويحاول إحسان الظن به؟
من يملك أن يراجع نفسه ويضعها في ميزان الخطأ والصواب؟ أهو الأب الذي تجب عليه الشفقة نحو ابنه؟ أم الابن الذي يجب عليه التوقير والإصغاء. ومن أحرى بالنصح، من يستمع أو من لا يستمع؟ سيقول لك: هل ذنب كبريائي ليكسر في أنني أستمع القول؟ هل ذنب عزتي أنني الأرجح عقلاً؟ هل أجرمت إذ صبرت كثيراً؟
كل منهما لا يريد أن يستمع منك، أحدهما بأن يسد أذنه عنك ويشيح بوجهه والآخر بأن يخرسك ربما بلطمة على فاك. وعلى هذا وذاك فكلاهما يطالبك بموقف تجاه الآخر. هل تجرؤ أن تتهم أباك؟ أم ينقصك الحياء فترد على أمك؟ أنت لا ترى ندية ومنافسة بينهما، لكنهما يريانها، ويراك كل منهما ابنه، ويرى تخلفك عن رأيه عقوقاً وهجراناً، ما تراك فاعل؟
إنك بين خيارات أحلاها مر، إما أن تحاول الصلح بينهما، وإما أن تنصر أحدهما على الآخر وكلاهما ظالم لصاحبه ولك. وإما أن تهجرهما جميعاً. وأما الأولى فعسيرة جداً لعمق الخلاف وكثرة الوشاة والمفرقين. وإما تنصر أحدهما دون الآخر ولربما صرت عوناً في غير إنصاف. وأما العزلة فكما يقولون “العزلة دون عين العلم زلة”. وأما أن تهدي لكل منهما عيوبه دون أن تهدم علاقتك معه ولا مع الآخر وترجو طوال ذلك أن ترجع الأمور إلى نصابها.
البعض مع أنه ليس مع أبيه إلا أنه غير راض عن تعامل أمه. أيشهد مع أحدهما فيؤذي بذلك الآخر؟ وربما آذى نفسه مما سيلاقيه من العتب فيما بعد. وقد يكون عتباً ذاتياً أو ما يسمى بعذاب الضمير.
أسألك بالله، لو وجدت ابنك على خطأ ووجدت معه أصحابه، أتقسو عليهم جميعاً، أم تقسو على ابنك وتحذر الآخرين؟ أم لعلك تقسو على الآخرين وتقول لهم أنتم صحبة السوء لهذا الولد الطيب المهذب؟
ربما كان الجميل في ما تربينا عليه أن المحسن يحسن لنفسه والمسيء يسيء لها. وعلى نفس المنوال فإن الظالم يظلم نفسه قبل أي أحد والكاذب يكذب على عقله دون سواه.
كلمة أخيرة، رفقاً بأنفسكم وبإخوانكم وإن كانت الضغائن تعمقت في النفوس فإن ساعة تفكر وتأمل تعيد الإنسان إلى رشده فلا يتمنى خسارة أخيه أو تعرضه للأذى المعنوي أو المادي. لأنه لو حصل لأخيه مكروه فسيخسر نفسه.
كيف ذلك؟ إما أن يصحو بعد فوات الأوان فلا يسامح نفسه أبداً وإما أن يجهز على بقايا ضميره فيخنقه، عندها سيرتاح من أذى الضمير ولكنه لن يعود نفس الإنسان أبداً.

آخر الوحي:
السبت عندي والإثنين كالأحد
 وأمس واليوم في أحزانه كغدِ
وذكرياتي وآلامي وتجربتي
كأنها جمرةٌ لامستها بيدي
إذا نظرت لأمسٍ لا أرى أحداً
 كذلك اليوم ما في الربع من أحد
دعني أنوح على الماضي ولوعته
 فقد حملت به ما فت من عضدي
محمد هادي الحلواجي

الأحد، 11 سبتمبر 2011

مذبح الإعتدال









١١ سبتمبر ٢٠١١


في آخر إصدارات ويكيليكس التي نشرت في نهاية أغسطس من العام الجاري وثيقة تمثل تقريراً أرسلته السفارة الأميركية في المنامة إلى العاصمة الأميركية واشنطن في يوليو 2009. هذه الوثيقة تتحدث حول توجهات المعارضة البحرينية والتزامها بالمعارضة السلمية عبر المؤسسات الدستورية.
وضمن نفس الوثيقة إشارة جانبية تقول “ملاحظة: بعد سلسلة من الاحتجاجات وحرق الإطارات في منطقة جدحفص الحيوية، أصدر السكان بياناً في 20 يوليو يدين أعمال العنف والشغب كأفعال يقوم بها دخلاء لهم أجنداتهم الخاصة” ينتهي النص هنا وسنكتفي بمضمونه عن الذهاب للنص الأصلي في موضوعنا.
وبيت القصيد في موضوعنا أن العالم وويكيليكس وقبلهما واشنطن وسفارتها في المنامة يعلمون بوجود تيار في البحرين يرفض أعمال الشغب والمواجهات بأشكالها المختلفة في منطقة جدحفص. أما أهل البحرين فيعرفون أن جدحفص تمثل رمزية لهذا التوجه الذي يعتبر التيار الديني المحافظ أو التقليدي، ويشمل شخصيات ومجاميع في عدد من مناطق البحرين كانوا دوماً يرفضون المواجهة بين الناس والحكومة بأي شكل من الأشكال ويؤمنون بالرفق كمنهج للوصول إلى الإصلاح من التغيير والتطوير في بلادهم.
ورغم أن من ينهجون هذا المنهج - الذي سنسميه فيما بعد منهج الاعتدال - لا يستنكفون من تسميته بالمدرسة القديمة، إلا أن رؤيته للعمل الاجتماعي والحراك السياسي ليست جامدة بل ان له من الواقعية والقراءة الدقيقة للمشهد السياسي - كما سنوضح لاحقاً - أكثر من بعض الآخرين الذين يتلمسون أفقهم السياسي عبر التجربة والخطأ حتى فيما هم مقتنعون به بل تكون كثير من تحركاتهم نزولاً عند رغبة الشارع.
وقد يكون من المتوقع أن يأخذ هذا المنهج مساحة أقل من الجمهور من المناهج الأخرى بوصفه لا يعتمد على المجاميع ويرفض الحزبية بقدر ما يترك للفرد حريته الفكرية ويحترم قناعاته. إلا أنه من المتوقع أيضاً أن تنتقل قناعاته تدريجياً كالعدوى للآخرين باعتبار هذه القناعات مأخوذة من روح الشريعة التي هي عين ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. نأخذ من هذه القناعات قناعة نبذ العنف وقناعة المشاركة والإصلاح من الداخل وقناعة التواصل مع الآخر بدل الاعتزال وقناعة حرية الرأي إلى حد ما. والقائمة ستطول أكثر لوقدر لمنهج الإعتدال أن يبقى منه شئ.
رغم صغر هذه المساحة جماهيرياً إلا أن هذا المنهج كان له حضوره إلى درجة أنه كان يعتبر في تأثيره خطاً موازياً لخط المعارضة والذي كان يفترق عن خط المعارضة في المعيشيات من حيث أسلوب المطالبة وفي السياسيات من حيث رفض المطالبة بتشريع البشر وفي التحالفات بإعتزاله التيار اللاديني (ما يسمى اليوم بالتيار الديموقراطي). وفي التسعينات كانت المعارضة تبذل من الجهد لمناجزة هذا الفكر وأصحابه بمقدار ما تبذل تجاه تحقيق مطالبها وفي بعض الفترات كانت أقسى معه منها مع الدولة.
في ظل الأزمة السابقة، تساءل بعض الكتاب والسياسيين عن دور هذا المنهج المعتدل وعدم حضوره المؤثر في الساحة، ولتقلص حضوره أسباب نسرد منها في هذه العجالة: غياب العنف من سلوك المعارضة طيلة الشهر الذي يمثل جوهر الأزمة قبل قانون السلامة الوطنية. الإحباط الذي انتشر في صفوف الكثيرين من بطء التنمية مما سبب تغير القناعات حول جدوى العمل لتحقيق التنمية. التأثير للإعلام الذي صعب مهمة الداعين للحوار. وأضيف إلى كل ذلك عدم الدعم الكافي لمنهج الاعتدال عبر التعاطي الإيجابي معه خصوصاً حين أثبتت التجربة قدرة الدولة على التعامل إيجابياً مع بعض التجمعات.
أترككم مع مقطع يبين النظرة الواقعية الثاقبة لأحد أهم رواد منهج الاعتدال في التسعينات.
آخر الوحي:
وإذا جئنا إلى البحرين خاصة في هذه الظروف نجد أن الدولة - وليسمح لي رجال الدولة أن أقول ذلك - انهم لا يستطيعون أن يتخطوا عقبة مجلس التعاون الخليجي بكل ما فيه من ثقل وبكل ما تحتاجه البحرين من دعم لبعض القضايا الحدودية والخارجية من بعض دول هذا المجلس وأيضا من تأثير بعض هذه الدول على الاقتصاد في البحرين تأثيرا كبيرا مما يجعل إمكانية تحقيق المطلب في الظرف الحاضر وما لم نعمل على تلافي هذه العقبة الكأداء وتنمية الاقتصاد وتهيئة سبل العيش الذي يمكننا من اتخاذ القرار بحرية أمرا ممكنا، لذلك فإن طرح هذا المطلب من دون دراسة هذه الأمور على أقل تقدير يكون مشغلة للوقت وتضييعا للفرصة بدل المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية للشعب، وبدل المطالبة بمزيد من الحريات للشعب وبدل المطالبة بمزيد من المساواة للشعب. وهذه الأولويات كلها ستتعطل إذا نحن بقينا مصرين أو طرحنا هذا المطلب الذي نعلم من وجود العقبات الكأداء الشديدة في طريق تحقيقه. وإن تذليل هذه العقبات يحتاج إلى وقت طويل وإلى جهد كبير وإذا لم نعمل على تذليلها فلن تذلل وطريق تذليل هذه العقبات إنما هوالعمل على توفير الظروف المعيشية الصحيحة للناس.
الشيخ سليمان المدني 23 أكتوبر 1995
“موقفنا من الحياة النيابية 2”

الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

فليرمها بحجر






٧ سبتمبر ٢٠١١


جاءوا بها إلى عيسى عليه السلام، يا نبي الله، هذه المرأة جاءت أمراً فرياً، الخطيئة، أدركنا يا نبي الله. وكأن بعض القوم كانت عيونهم تلمع بجذل. وهنا وكما هو متوقع كان الحكم برجمها. ولكن روح الله طلب منهم طلباً غريباً. قال لهم من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
طبعاً لا يستطيعون الكذب قبالة رسول عالم الغيب والشهادة، ومن ينبئهم بما يأكلون وما يخزنون لأيام شتائهم ومن رأوا منه المعجزات. ويبدو أن المرأة أطلق سراحها، فإن كان مجتمعها كله خطايا فربما استحقت ما استحقوه من الرحمة والستر.
هل نحمل هذا المنطق الرائع من إصلاح عيوبنا قبل أن نفكر برجم الآخرين على خطاياهم؟ هل نملك هذه الروح الشجاعة النبيلة؟
حين نعدد عيوبهم نقول، أجهضوا الحوار، وخذلوا القيادة ولكن لنكن واقعيين، هل المعارضة وحدها أجهضت هذا الحوار؟ أم أن هناك من أراد امتطاء صهوة الحوار وحاول أخذه في اتجاه ما، قد يعلمه أو لا يعلمه، وهذه طبيعة بشرية، فكل يجر النار إلى قرصه.
مازلت أذكر كلمة أطلقها أحدهم في جريدة أخبار الخليج بتاريخ 15 مارس 2011، وهي - والله على ما أقول شهيد - مازالت تطن في أذني؟ كيف يمكن لمنصف أو عالم أو أي إنسان يحترم منطقه أن يقول مثل هذه العبارة، بل كيف لمنصف أن يسمعها فلا يرد عليه إلا لأمر من أمرين. إما أن يكون الجمهور سعيداً بالعبارة، أو أن يكون حاله “في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟”.
أرجو أن تركزوا معي في الفقرة التالية: “ان الاجتماع الذي جمعه مع عدد من ممثلي الجمعيات السياسية السبع تم الاتفاق من خلاله على طرح بعض القضايا على طاولة الحوار التي دعا إليها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، فيما تم الاختلاف على دعوة تشكيل مجلس تأسيسي وحل الحكومة ونظام الانتخاب لكل فرد صوت” انتهى الاقتباس.
كلام جميل، تلاقي ونقاش واتفاق واختلاف. والاختلاف متوقع، فتحليل القانونيين لإنشاء مجلس تأسيسي قد يفسر الأمر انه يعني قيام دولة جديدة، وهو قد يكون مبالغة في طلب الضمانات. وحل الحكومة فيمكن الاتفاق والاختلاف فيه بحسب معنى حل الحكومة ومؤداه على الأرض والتوقيت.
أما سقطة الاختلاف في حق أن يكون لكل فرد صوت فهي غير مقبولة بتاتاً. فما معنى الرفض؟ هل هو تكريس لاختلاف الحقوق والواجبات بين المواطنين، أم أن هناك درجات من المواطنين لكل منها حقوق مختلفة عن الأخرى؟
أما شرعاً فالحديث النبوي ينص “الناس سواسية كأسنان المشط” فهل أحتاج أن أخبر من تخصصه الشريعة بذلك؟!
وأما دستورياً فالدستور ينص في مادته رقم 18 على ما يلي “الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
وأما كمنطق فلا أعتقد أن هذا الأمر يحتاج إلى شرح، إلا إذا كان المنطق فوقياً استعلائياً طبقياً فعندها لا يمكنه استيعاب هذا الأمر المنطقي الذي هو لب عملية التصويت الانتخابي والعمود الفقري للتمثيل النيابي. ولولاه كمبدأ لا داعي لإنشاء مؤسسات تمثيلية بالانتخاب.
فلتمثل الجمعيات السياسية الوليدة والقديمة من تشاء إلا انها لا تمثل وحدة الوطن بأجمعه ولا تمثلني إن كانت هذه أول مخرجاتها قبل حتى أن تكون مؤسسة مرخصة قانونية. كما لا تمثلني جمعيات المعارضة ولا الكيانات الأخرى غير المرخصة. ليست جمعية طائفية باسمها وربما شمل جمهورها أطياف مختلفة من إسلاميين وليبراليين وبعثيين ويساريين، إلا أن هذا المنطق الاستعلائي يثير كثيراً من الاستفهام حول أن الطائفية يجوز ممارستها ويحرم ذكرها.
وحقيقة لو كنت أنا على طاولة حوار ونقاش وأتاني من يتكلم بهذا المنطق فلن أستطيع أن أتفق معه، وربما اتهمني الآخرون أنني أجهضت وحدي ذلك الحوار وبرءوا الآخر ولكنني سأحترم رأيهم لأن الآخر كما يبدو لا ينطق عن الهوى، بل ليس له هوىً لينطق عنه.
أرجو ممن يحمل وجهة نظر مشابهة للتي نقلتها أن يوضح لي الموضوع لأنني في حيرة بالفعل وأتصور أن ما فهمته غير صحيح.

آخر الوحي:
إذا رمت أن تحيا سليماً مـن الأذى
ودينك موفـور وعِرْضُـكَ صَيِـنّ
لسانك لا تذكر به عـورة امـرئ
فكلـك عـورات وللنـاس ألسـن
وعينـاك إن أبـدت إليـك معايبـاً
فدعها وقل يا عين للنـاس أعيـن
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
ودافع ولكن بالتـي هـي أحسـن

“الإمام الشافعي”

الأحد، 4 سبتمبر 2011

مدرسة جعفر الصادق






٤ سبتمبر ٢٠١١


الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) رائد ومؤسس مدرسة الإمامية الإثنا عشرية، حفيد أشرف الخلق محمد (ص)، وحفيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وحفيد خليفة المسلمين أبي بكر بن أبي قحافة، إذ يتصل نسبه من الأم بمحمد بن أبي بكر.
أسس هذا الإمام مدرسته مستفيداً من تخفيف الضغط عليه من الخلفاء الأمويين بسبب انشغالهم بالنزاعات في أرجاء دولتهم، مما أوجد وضعاً خاصاً لم يتوفر لآبائه ليتفرغوا لتعليم الناس علوم دينهم التي ورثوها في سلسلة قصيرة ذهبية لا مثيل لها تتصل مباشرة برسول الله (ص) ثم جبرائيل ثم رب العزة.
وكغيره من أئمة أهل البيت، لا يروي الرواة رجوعه إلى أحد في أخذ العلوم، لكنهم يضعون في قائمة من يروي عنه الآلاف المؤلفة من العلماء ومن ضمنهم أساطين العلم ورواد المدارس الأخرى كالإمام مالك وأبي حنيفة وغيرهما كما يذكر صاحب الصواعق في صواعقه. إذ يقول  “نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني”.
ولم تقتصر دروس الإمام الصادق على العلوم الدينية، فقد درس العلوم الأخرى كالطب والكيمياء فكان من أنجب تلامذته العالم الكبير جابر بن حيان. ولنا هنا وقفة مع مجموعة من التشريعات في مدرسة الصادق التي أوجدت حلولاً لمن تبناها فيما بعد من المسلمين، نذكر منها، وهذا بالتأكيد على سبيل المثال لا الحصر:
 الطلاق: مما يعرف عن مدرسة الإمامية اشتراط الإشهاد في الطلاق، ورفض الطلاق البدعي، وعدم الأخذ بالطلاق ثلاثاً في مجلس واحد، وعدم الأخذ بطلاق الغاضب أو المازح أو السكران، بالإضافة إلى تفصيلات أخرى تشدد أمر الطلاق وتمنعه من الحصول لأتفه الأسباب. فيما أقر الطلاق البدعي في مذاهب أخرى من باب “ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم”.
 ميراث البنات: ربما تفردت مدرسة الإمام الصادق بحكم ميراث البنات عند وجود الأعمام، فالبنت تحجب عمها في الميراث كما يحجب الولد أعمامه. أحب أن أؤكد هنا على أمرين لمنع اللبس، أولهما أن كل مجتهد يهمه الوصول إلى الحكم الشرعي الحقيقي الذي أنزله الله بغض النظر عمن يستفيد ظاهرياً من الحكم. والأمر الآخر أن هناك دوماً مستفيد من أي اختلاف. إلا أن هذا الحكم ليس كفيلاً –في اعتقادي- بحل بعض مشاكل الميراث وحسب، بل ربما كان عاملاً مساعداً في إنهاء ظاهرة بغض إنجاب البنات التي وجدت في شعوب عدة ومنها العرب قبل الإسلام.
     الحكم بموت الغريق المفقود: في قضية حصلت في مصر في غرق العبارة “سالم اكسبرس”، كما ينقل، بحث المفتي عن حلٍ لإشكالية الحكم بوفاة المفقودين في الحادثة، فكانت المدة التي يمكن الحكم من خلالها بموت المفقود الغريق تتراوح بين خمسة أعوام إلى ستين عاماً، هنا لجأ شيخ الأزهر الراحل المرحوم سيد طنطاوي إلى الأخذ بالمذهب الإمامي الذي يفتي بإمكانية الحكم بوفاة المفقود و لو في ساعة من الفقد إذا كانت الظروف لا يتصور معها نجاة الغريق. وتمكن بذلك من حل مشكلة التعويضات المعلقة لنفس السبب.
 أقصى مدة الحمل: يحكم الإمامية بأن أقصى الحمل سنة واحدة فيما أقله ستة أشهر، و ذا يتعلق كثيراً بقضايا الطلاق والنفقة و المواريث.
 في الأحكام الإقتصادية والمصرفية، بينما المذاهب الأخرى حسب علمي تشترط أن تكون المضاربة وغيرها من الأنشطة بين شخصين أحدهما صاحب المال والآخر صاحب العمل، يجيز المذهب الإمامي حصول ذلك بين مجموعة أشخاص وشخص، وعلى هذا لا يحتاج المصرف الإسلامي لفتح نافذة بين كل مودع ومقترض، ولذلك يمكن القول إن الصيرفة الإسلامية الحديثة قد بنيت بشكل كبير على المذهب الإمامي.  وربما كانت شهادة أهل الخبرة بذلك خير دليل على أن وضع الأسس النظرية للعمل كان السبق فيها لمدرسة الصادق عليه السلام.
وتطول القائمة في علم رجل كالإمام جعفر الصادق ملأ الدنيا علمه وفضله، كيف لا وهو من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة الذين طهرهم الله من الرجس تطهيرا، طبتم وطاب مرقدكم الطاهر في أرض طيبة المباركة.
آخر الوحي:
“أمّا بعد ، فإنّنا قد اعتزمنا بعون الله وتوفيقه أن نكتب عن الامام جعفر الصّادق، وقد كتبنا عن سبعة من الائمّة الكرام، وما أخّرنا الكتابة عنه لأنّه دون أحدهم، بل أنّ له فضلَ السّبعة على أكثرهم، وله على الاكابر منهم فضلٌ خاص فقد كان أبو حنيفة يروي عنه  ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، وكان له فضل الاُستاذيّة على أبي حنيفة ومالك، فحسبه ذلك فضلاً، ولا يمكن أن يؤخّر عن نقص، ولا يقدّم غيره عليه عن فضل، وهو فوق هذا حفيد عليّ زين العابدين (ع) الّذي كان سيِّد أهل المدينة في عصره فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهري، وكثيرون من التابعين وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جمع الله تعالى له الشرف الذاتي والشرف الإضافي، بكريم النّسب، والقرابة الهاشمية والعترة المحمّدية”.
الشيخ محمد أبو زهرة