٢٨ سبتمبر ٢٠١١
يقال إن للمرأة أربعة أسلحة: لسانها وأظافرها ودموعها وإغماؤها. ولعل السلاحين الأخيرين أشد فتكاً بالخصم من الأولين والسبب يكمن في أنهما يفسدان لذة الانتصار مثل الخصم الذي يرفع راية بيضاء قبل أن تقصفه بمدافعك، يخلقان صراعاً نفسياً ثم يسببان هزيمة من الداخل ويجعلان الإنسان أمام أزمة ضمير لا مفر منها، ويشعر أنه اجترح ظلماً وقسوة حتى لو لم يكن الأمر كذلك.
أزمة الضمير التي تستخدم عاطفياً من قبل الابن بمكر تجاه والديه ومن الموظف تجاه رب العمل ومن المرأة مع رجلها، هي نوع من أنواع القوة المغلفة بغلاف الضعف، إلا أنها أكثر سمية وفتكاً من سلاح المواجهة؛ لأنها تدخل الإنسان في صراعه الذاتي بين مكوناته النفسية، وغالباً يكون النصر للمثل العليا على الأنا حتى وإن كانت الأنا محقة، وكانت المثل العليا في غير محلها. ربما كان هذا سبباً في ضرورة وجود الحكم أو القاضي ليمنع الغش والاستغلال أو حتى الاشتباه.
أزمة الضمير تستخدم لأكثر من غرض، فمن الممكن أن تستخدم لجمع الأنصار أو لتحييد المخالفين أو لضرب الخصم في جبهته الداخلية. وهي تحصل عبر إظهار صانعها الضعف والظلامة. هنا يجب أولاً أن نفرق بين أمرين مهمين، بين أحقيته وبين مظلوميته. هل هو محق في خصومته، هذا أمرٌ يحكمه القانون والشرع. وهل هو مظلوم في تعاطي الآخر مع حقوقه الأولية، وهذا أيضاً شأن حقوقي يمكن التقاضي فيه وإثباته. إذن، فالأمران يخضعان للاعتبارات العقلية والمنطقية ولا محل للعواطف فيهما.
عند افتعال أزمة الضمير كثيراً ما يصاحبها خلط للأوراق لإدخال عنصر العاطفة الذي يساهم الإغراق فيه إلى تضخيم جانب المظلومية. هنا تتحول القضية الثانية إلى قضية أساسية يلزم إرضاء صاحبها مما يستلزم تقديم تنازلات قد يكون من ضمنها التنازل عن الحق في القضية أصل الخلاف. على المدى القصير تنجح عملية خلط الأوراق أول ما تنجح في تحييد المخالفين القريبين أو ضمهم إلى دائرة الأنصار. وعلى المدى البعيد قد تساعد الظروف المحيطة في الضغط على الخصم وخسارته قضيته الأساسية.
ربما يمكننا تسمية خلط الأوراق في هذا الاتجاه بمسمى استثمار المظلومية. ويمكن تشبيهها بمثال من قبيل أن يلقي شخص نفسه أمام مركبة مسرعة ليطالب فيما بعد بتعويض مجز. لو لاحظنا، فالرجل أخطأ بإلقاء نفسه أمام السيارة، إلا أنه في أكثر الحالات التي ينجو فيها يحصل على تعويض جيد وسريع ربما عبر تسوية خارج القضاء.
من الأمثلة استخدام الأطفال والنساء مثلما فعل القذافي حين قام بتجنيد النساء والأطفال ليرفع أقمصتهم المدماة فيما بعد ويتهم ثوار ليبيا بقتل الأطفال.
الشق الثاني لأزمة الضمير يتمثل في تغييب الضمير تماماً عبر الإغضاء عن مظلومية الخصم بسبب عدم أحقيته، إذ لا يجوز أن نجرد خصومنا من حقوقهم كبشر لكونهم مبطلين في دعواهم بحسب اعتقادنا.
يجب الفصل بين الورقتين دائماً لتجنب أزمة الضمير ومعاملة كل منهما كقضية منفردة، وإلا كان الحق للأدهى وليس الأحق.
لا أعتقد أن الشواهد للشقين من أزمات الضمير تغيب عن واقعنا، ولربما كان القارئ يستحضر بعض الأمثلة الآن، ولكنني بالتأكيد لا أقصدها.
سؤال يطرح نفسه، إذا كان خلط الأوراق فخاً يستخدمه أحد الأطراف، فلماذا يقع الطرف الآخر فيه، والإجابة تقول قد يقع في الفخ إما لأنه مكره على الوقوع فيه أو (وكثيراً ما يصح ذلك) برضاه لإدخال كل الأنصار المحتملين لصاحب الفخ وجرهم في أتون معركة محدودة تضمن القضاء عليهم جميعاً، فيكون انتصاراً ساحقاً يقضي على قوة هذا الخصم لأمد بعيد.
العملية برمتها مرفوضة أخلاقياً؛ لأنها تقوم على أساس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وتقوم على كسر المحظورات، وإلغاء قدسية المقدسات ونشر سوء الظن، فتقتل كل جميل في عالم البشر.
هنا يطرح سؤال آخر نفسه: الأدوات المستخدمة لخلق أزمة ضمير وخلط الورق والابتزاز فيما بعد، إنها تدفع أثماناً غير قابلة للاسترداد، لماذا يسمح المسؤلون عنها والقيمون عليها باستغلالها؟ والإجابة باختصار: إنهم يعيشون أزمة ضمير من نوع آخر!
آخر الوحي:
كفي عن الكلام يا ثرثارة
كفي عن المشي
على أعصابي المنهارة
ماذا أسمي كل ما فعلته؟
سادية
نفعية
قرصنة
حقارة
ماذا أسمي كل ما فعلته؟
يا من مزجت الحب بالتجارة
والطهر بالدعارة
ماذا أسمي كل ما فعلته؟
فإنني لا أجد العبارة
أحرقت روما كلها
لتشعلي سيجارة؟
نزار قباني