الأحد، 18 سبتمبر 2011

الفوضى الخلاقة











١٨ سبتمبر ٢٠١١


ربما كان أول لقاء لنا بهذا المصطلح في تصريح كونداليزا رايس في عام 2006 حين تحدثت عن الشرق الأوسط الجديد الذي سيسبق ولادته نوع من الفوضى التي ستعيد تشكيل الواقع السياسي في الشرق الأوسط وتفرز جملة من التغييرات. وليس محل الشاهد عندي في كون هذه الفوضى الخلاقة هي نفسها ما أطلق عليه “الربيع العربي”. ولا أريد أن أشير إلى أن الحركات السياسية العربية منذ أواخر العام الماضي ومطلع هذا العام هي مفرزات لسياسة استخباراتية أمريكية، فذلك أجلى من أن يكتب فيه وعنه.
وإنما بيت القصيد هو في آلية عمل هذه الفوضى أو بمعنى أدق في النظرة لمثل هذا النوع من الفوضى. لأول وهلة فإن كلمة فوضى لها مدلول سلبي، إلا أن الكلمة التالية لها تسبغ عليها المعنى الإيجابي. وبمعنى آخر فإن واضع المصطلح يهيئ نفسيته لتقبل ان هذا الوضع سيئ بسبب أن نتائجه تصب في خانة المرغوب. نعم سيتجاوز عن الخطأ لأن وراءه تصحيح لوضع سيئ قائم لابد من تغييره، كل هذا بمقياس مصلحته طبعاً.
هل نستطيع أن نقول ان هذا المنطق منطق انتهازي، ينظر عبر قاعدة “المصلحة تقتضي”؟ هل من المسموح أن نتجاوز عن الخطأ لتحقيق الصواب فيما بعد؟
في لعبة كرة القدم مثلاً من السائغ أن يتجاوز الحكم عن خطأ لمصلحة فريق إذا كان هذا الفريق المستحق ينال فائدة أكبر بالتجاوز عن من أخطأ بحقه، أوبمعنى أوضح إذا كان مازال محتفظاً بالكرة رغم محاولة إعاقته المتعمدة.
وفي حين أن لعبة الكرة تستند إلى قانون وحيد، فإن لعبة السياسة تحدها الكثير من المحاور والقوانين والأخلاقيات التي يفترض أن تحدد إمكانية التجاوز عن الخطأ من عدمه. فيمكن في لعبة السياسة وصف منطق ما أوعمل ما بأنه غير أخلاقي، أوغير قانوني، أويصطدم بالأعراف الدولية بغض النظر عن كونه فنياً يعتبر ذكاء سياسياً أولا يعتبر كذلك.
في عالم السياسة، لن نتفاجأ بالإنتهازية، لكن سنتفاجأ بالتنظير للإنتهازية. فلقد وضحنا في مقال سابق بعنوان “رسالة إلى أوباما” الإزدواجية في المعايير التي تتصف بها السياسة الأمريكية إزاء الأحداث في بلدان مختلفة بحسب تنوع المصالح الأمريكية في البلدان فقد تكون مرتبطة بالمعارضات أوبالحكومات آنياً على الأقل.
ولتوضيح صورة استخدام الفوضى الخلاقة، نستطيع أن نقول أن كل لاعب سياسي يمكنه أن يمارس الإستفادة من هذه الفوضى أومحاولة الاستفادة. فالمعارضة مثلاً يمكنها التجاوز عن كل ما يتناقض ومبادئها المعلنة آنياً، على اعتبار أنها ليست هي من يتبنى هذا السلوك المناقض لمبادئها وأنها ليست مسؤولة عن توجيهه وتقويمه. يمكنها أن تترك مناطق رمادية لا توضح ما تتفق معه ولا توضح ما ترفضه من سلوك حتى يستنفذ فائدته المرجوة وبالطبع فإنها لا تستطيع تجاهله للأبد، لأنه يصل في النهاية إلى وضع فاقع يستنكره الجميع ويصير مفروضاً عليها أن تنتقده وتتبرأ منه.
وكما تستفيد المعارضات كأحزاب من تجاوزات المجاميع فإن اللاعبين السياسيين في دور الموالاة حين يكونون نوابا مثلاً فقد يتجاوزون عن سياسات حكومية خاطئة لأن هذه السياسات تحقق لهم بعض المصالح المرجوة. وبالطبع فإن نواب الموالاة لا يملكون الدهر كله ليتجاوزوا فيه، فهذا بالتأكيد يحرق اوراقهم الانتخابية في الدورات المقبلة، ولذا ستجدهم يستعجلون تحقيق الأهداف بسرعة قبل أن يضطرهم الوضع التجاوزي الفاقع لإستجواب للوزراء يبرؤون به ساحتهم بشكل استباقي على طريقة “بيدي لا بيد عمرو”. وستجدهم بعد خراب البصرة يقولون انهم لا يرضون بظلم بريء ولا إطلاق الجاني بعد أن استبقوا كل الأحكام القضائية.
الحكومات في إدارة مجاميعها قد لا تكون أفضل حالاً، فمن السذاجة أن نظن أن ما حصل في “أبوغريب” أوفي غوانتاناموحصل رغماً عن الإدارة الأمريكية. ومن البراءة أن نظن أن واقعة الحرة كانت بغفلة من الحكم في الشام. وإلا لسجل التاريخ العقوبات المشددة التي تم إيقاعها على هؤلاء المتجاوزين.
إذن فالكل يتجاوز ويهون أخطاءه وتعتبر فيما بعد تصرفات فردية، ويطلق العنان للفوضى الخلاقة لتحل مشاكله على طريقة “ذل قوم ليس فيهم سفيه”.
ومجموع الصور الصغيرة للفوضى الخلاقة يساهم بكل طريقة في تشكيل الصورة الأكبر والتي عنتها السمراء “كونداليزا رايس” حين تكلمت عن مخاض عسير وفوضى خلاقة يسبقان ولادة شرق أوسط جديد، فهل نحن كأمة عربية وكدولة عضوفي جامعتها متنبهون لذلك؟ أتمنى ذلك.

آخر الوحي:
أرح ركابك من أين ومن عثر
كفاك جيلان محمولاً على الخطر
واخفض جناحك لا تهزأ بعاصفة
طوى لها النسر كشحيه فلم يطر

محمد مهدي الجواهري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق