٤ سبتمبر ٢٠١١
الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) رائد ومؤسس مدرسة الإمامية الإثنا عشرية، حفيد أشرف الخلق محمد (ص)، وحفيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وحفيد خليفة المسلمين أبي بكر بن أبي قحافة، إذ يتصل نسبه من الأم بمحمد بن أبي بكر.
أسس هذا الإمام مدرسته مستفيداً من تخفيف الضغط عليه من الخلفاء الأمويين بسبب انشغالهم بالنزاعات في أرجاء دولتهم، مما أوجد وضعاً خاصاً لم يتوفر لآبائه ليتفرغوا لتعليم الناس علوم دينهم التي ورثوها في سلسلة قصيرة ذهبية لا مثيل لها تتصل مباشرة برسول الله (ص) ثم جبرائيل ثم رب العزة.
وكغيره من أئمة أهل البيت، لا يروي الرواة رجوعه إلى أحد في أخذ العلوم، لكنهم يضعون في قائمة من يروي عنه الآلاف المؤلفة من العلماء ومن ضمنهم أساطين العلم ورواد المدارس الأخرى كالإمام مالك وأبي حنيفة وغيرهما كما يذكر صاحب الصواعق في صواعقه. إذ يقول “نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني”.
ولم تقتصر دروس الإمام الصادق على العلوم الدينية، فقد درس العلوم الأخرى كالطب والكيمياء فكان من أنجب تلامذته العالم الكبير جابر بن حيان. ولنا هنا وقفة مع مجموعة من التشريعات في مدرسة الصادق التي أوجدت حلولاً لمن تبناها فيما بعد من المسلمين، نذكر منها، وهذا بالتأكيد على سبيل المثال لا الحصر:
الطلاق: مما يعرف عن مدرسة الإمامية اشتراط الإشهاد في الطلاق، ورفض الطلاق البدعي، وعدم الأخذ بالطلاق ثلاثاً في مجلس واحد، وعدم الأخذ بطلاق الغاضب أو المازح أو السكران، بالإضافة إلى تفصيلات أخرى تشدد أمر الطلاق وتمنعه من الحصول لأتفه الأسباب. فيما أقر الطلاق البدعي في مذاهب أخرى من باب “ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم”.
ميراث البنات: ربما تفردت مدرسة الإمام الصادق بحكم ميراث البنات عند وجود الأعمام، فالبنت تحجب عمها في الميراث كما يحجب الولد أعمامه. أحب أن أؤكد هنا على أمرين لمنع اللبس، أولهما أن كل مجتهد يهمه الوصول إلى الحكم الشرعي الحقيقي الذي أنزله الله بغض النظر عمن يستفيد ظاهرياً من الحكم. والأمر الآخر أن هناك دوماً مستفيد من أي اختلاف. إلا أن هذا الحكم ليس كفيلاً –في اعتقادي- بحل بعض مشاكل الميراث وحسب، بل ربما كان عاملاً مساعداً في إنهاء ظاهرة بغض إنجاب البنات التي وجدت في شعوب عدة ومنها العرب قبل الإسلام.
الحكم بموت الغريق المفقود: في قضية حصلت في مصر في غرق العبارة “سالم اكسبرس”، كما ينقل، بحث المفتي عن حلٍ لإشكالية الحكم بوفاة المفقودين في الحادثة، فكانت المدة التي يمكن الحكم من خلالها بموت المفقود الغريق تتراوح بين خمسة أعوام إلى ستين عاماً، هنا لجأ شيخ الأزهر الراحل المرحوم سيد طنطاوي إلى الأخذ بالمذهب الإمامي الذي يفتي بإمكانية الحكم بوفاة المفقود و لو في ساعة من الفقد إذا كانت الظروف لا يتصور معها نجاة الغريق. وتمكن بذلك من حل مشكلة التعويضات المعلقة لنفس السبب.
أقصى مدة الحمل: يحكم الإمامية بأن أقصى الحمل سنة واحدة فيما أقله ستة أشهر، و ذا يتعلق كثيراً بقضايا الطلاق والنفقة و المواريث.
في الأحكام الإقتصادية والمصرفية، بينما المذاهب الأخرى حسب علمي تشترط أن تكون المضاربة وغيرها من الأنشطة بين شخصين أحدهما صاحب المال والآخر صاحب العمل، يجيز المذهب الإمامي حصول ذلك بين مجموعة أشخاص وشخص، وعلى هذا لا يحتاج المصرف الإسلامي لفتح نافذة بين كل مودع ومقترض، ولذلك يمكن القول إن الصيرفة الإسلامية الحديثة قد بنيت بشكل كبير على المذهب الإمامي. وربما كانت شهادة أهل الخبرة بذلك خير دليل على أن وضع الأسس النظرية للعمل كان السبق فيها لمدرسة الصادق عليه السلام.
وتطول القائمة في علم رجل كالإمام جعفر الصادق ملأ الدنيا علمه وفضله، كيف لا وهو من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة الذين طهرهم الله من الرجس تطهيرا، طبتم وطاب مرقدكم الطاهر في أرض طيبة المباركة.
آخر الوحي:
“أمّا بعد ، فإنّنا قد اعتزمنا بعون الله وتوفيقه أن نكتب عن الامام جعفر الصّادق، وقد كتبنا عن سبعة من الائمّة الكرام، وما أخّرنا الكتابة عنه لأنّه دون أحدهم، بل أنّ له فضلَ السّبعة على أكثرهم، وله على الاكابر منهم فضلٌ خاص فقد كان أبو حنيفة يروي عنه ويراه أعلم الناس باختلاف الناس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، وكان له فضل الاُستاذيّة على أبي حنيفة ومالك، فحسبه ذلك فضلاً، ولا يمكن أن يؤخّر عن نقص، ولا يقدّم غيره عليه عن فضل، وهو فوق هذا حفيد عليّ زين العابدين (ع) الّذي كان سيِّد أهل المدينة في عصره فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهري، وكثيرون من التابعين وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جمع الله تعالى له الشرف الذاتي والشرف الإضافي، بكريم النّسب، والقرابة الهاشمية والعترة المحمّدية”.
الشيخ محمد أبو زهرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق