الأحد، 29 مايو 2011

أم الصبي






٢٩ مايو ٢٠١١


يقال إن امرأتين احتكمتا إلى قاضٍ ليحكم بينهما في صبي كل منهما تدعي أمومته. وبعد أن أعيت السبل القاضي في حل النزاع اقترح عليهما أن يجلبا منشاراً. فلما سألاه عن السبب، أجاب أن عليه شق الصبي ليعطي كلاً منهما شطره ويحل الإشكال. هنا صاحت إحداهما متألمة وواهبة نصيبها للأخرى.
كانت تتنازل عن حقها لأجل أن يسلم الطفل، وهذا وحده ما عبر عن أمومتها لهذا الطفل. إن خوفها عليه بينما تتمطى الأخرى فرحة بهذا الحكم كان الدليل الوحيد أنها أم هذا الطفل.
وجدت هذه القصة مروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ووجدتها في مصادر أخرى عن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام، إلا أن المضمون واحد، وهو أن أم الصبي خافت عليه وتنازلت عنه ليظل حياً.
هذا الصدق في الحب غير المشروط، ونكران الذات، والقبول بالمكاره لأجل المحبوب، صعب أن يوجد في غير الأم، ويستحيل إن وجد أن يكون بنفس المستوى كما هو عند الأم.
هذه القصة نموذج من عدة نماذج وأمثلة في التراث العربي والإسلامي على قيمة عليا صار الناس يتناسونها في خضم صراعاتهم، هذه الصراعات التي ينسون فيها قيمة العنب ويتوجهون بكل وسيلة لاستعراض عضلات مع الناطور. من من سياسيينا مستعد ليضحي بمآربه وأهدافه الآنية في سبيل حفظ السلم الأهلي؟ وكم من سياسيينا من لا يعبأ أن يشق الطفل نصفين ليحصل على حد أدنى من المكاسب متمثلاً بالمثل «راعي النصيفة سالم»؟
من يهمه أن لا تقسم البلد نصفين أو أثلاثاً وأرباعاً، فيتجاوز بذلك قيوده الإثنية والطائفية والقومية والقبلية؟ من هو أم الصبي إذا كان الصبي هو البحرين التي تجري في عروق الجميع؟ من لا يهمه ما يناله من شتائم بعض قومه إذا كان هدفه توحيدهم مع البعض الآخر.
إنهم كثيرون، لكنهم كما وصفهم أحد الكتاب قلة في كل منطقة وجهة ودائرة إلا أن مجموعهم كثير ولا يستهان به.
فمنهم الوزير ومنهم الشيخ ومنهم النائب ومنهم قبل الجميع رجل الشارع، ذلك المواطن البسيط الذي مازالت ابتسامته توزع رسائل المحبة للجميع بلا استثناء.
تحية مني إلى وزير العدل البحريني الشيخ خالد بن علي آل خليفة على مسجاته الأخوية للجميع على التويتر. يقول في أحد مسجاته «إذا لم نحترم التعدد والاختلاف في الرأي والأصل والجنس والعقيدة والمذهب فقد فقدنا احترامنا لديننا ووطننا، بل قد نفقد انسانيتنا».
وتحية إلى النائب السابق الشيخ ابراهيم بوصندل على مقاله «حرية أولى من غيرها» الذي من ضمنه «البحرين
تجتاحها كغيرها موجة التغيير، وتمر بمرحلة حساسة لا يحلها العنف، ولا إثارة النعرات ونخوة الثارات، ولا التحشيد، ولا التوجيه الطائفي، ولا السب ولا الشتم، وسوف نتخطاها بإذن الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح وبالصبر والحق والإصلاح الحقيقي، وما هو أنفع للوطن والمواطنين».
وتحية أخرى إلى الكاتب الأستاذ غسان الشهابي على مقاله الرائع «عن الخيانة والخونة: فتح وشاف الديك» الذي انتقد فيه ظاهرة التخوين البغيضة.
والتحايا تمتد إلى جميع من وصمتهم المنتديات ومواقع التواصل بالمطبلين حين دعموا مشروع سمو ولي العهد للحوار، وتمتد لكل من حاول إصلاح ذات البين فرجمه جهال قومه بالحجارة كدأب الشجرة المثمرة.

آخــــــر الوحــــي:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
 ولا أهل هذاك الطراف الممدد
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
 فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
 وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة
 كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبا
 كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
 ببهكنةٍ تحت الطراف المعمد
طرفة بن العبد

الأحد، 22 مايو 2011

ألها اسم غير هذا؟؟






٢٢ مايو ٢٠١١


قلت له: استحضار مفاهيم الآخر الدينية في تحليل سياسي بحت يصيبني بالدوار. فما دخل موضوعك بعقائده  وأحكامه إن لم تكن طائفياً؟ مالك ولتقيته ومتعته وإسباله ليديه ومهديه المنتظر؟ هل هذه هي أساليب العمل السياسي والنقاش السياسي والتحليل السياسي.
أنت حانق عليه لموقف سياسي أم أنك في صراع عقائدي معه. فلنسلم أنه طائفي وأنه كان يدعو لطائفته وملته وأنه مرتبط بأجنبي على نفس الملة، ألست بهذا الكلام أنت أيضاً طائفيا؟
بل إن الإنسان المهذب لا يرضى أن يستخدم النبز حتى في النقاش العلمي، فكيف بك وأنت تجر العقائدي للسياسي؟
إن لم تكن تدري فهي طائفية، تنفرني منك حتى إن كنت أقرب إليك سياسياً منه، تعرف لماذا؟ لأنك تحمل موقفاً مسبقاً منه يجرده ويجردك معه من الإنسانية.
ربما كنت تكفره، ولكن حتى لو صح ذلك فأنا لا أعذرك في خطابك معه، ألم تقرأ قوله تعالى “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم”.
ما بال أحدنا يخلط حقه بباطله فيضيع ما كان فيه محقاً ولا يبدو للناس إلا باطله. فليجعل كل منا غضبته في الله لا تخرج عن حدود ما أمر الله به وما نهى الله عنه.
لا يخدعنك من طبع الله على قلبه وعلى سمعه غشاوة، فكما للسياسة أهدافها ومقاصدها فلا يجب أن يجرنا ذلك إلى التكفير الذي هو مقدمة لبلايا وآفات ليس لها أول ولا آخر. وتذكر قوله تعالى:
“وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما” فكيف بنا ونحن نذكي تلك الفتنة ونجرها جراً للطائفية.
ولا أملك هنا إلا أن أقف عند كلمات صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر، إذ ذكر مرة بعد مرة بما نشر منذ أيام في الصحف بقوله “إن محاولات اللعب على التفرقة في الدين والمذهب والفكر والعقيدة لن تجد لها طريقها للنجاح فالمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله”.
هذه هي آدابنا وهذه هي أخلاقنا وهذا هو تراثنا من آبائنا وما سنورث لأبنائنا، بأن نحترم المعتقد الذي هو فوق الرؤوس ولا نسمح للسياسة أن تشوهه لأن السياسة آنية والدين والمذهب باقيان كما يقول سمو ولي العهد الأمين.

آخر الوحي:
وأول ما قاد المودة بيننا بوادي بغيضٍ يا بثين سباب
فقلت لها قولاً وجاءت بمثله لكل كلام يا بثين جواب

“جميل بثينة”.

الأربعاء، 18 مايو 2011

هي و العدل الإلهي





١٨ مايو ٢٠١١


أضع أصابعي اليوم على وتر يحمل من الحساسية شيئاً لا يقل أبداً عن حساسية الكلام في السياسة. إلا أنني درجت على محاولة مقاربة قناعاتي وتصحيحها وتهذيبها، وعدم الاكتفاء بالتشدق بها مفرغة من محاولة فهمي الكامل لها وتشرب نفسي بها. قد يكون ذلك بحثاً عن الرضا ممزوجاً بالبحث عن تطبيق متوازن للشريعة يتحمل تأدية الواجبات مع مطالبته بحقوقه.
عبارة نرددها نظرياً بشكل متكرر أن الإسلام رفع مكانة المرأة وحفظ لها إنسانيتها وجعل لها ما جعل من الحقوق كابنة وزوجة وأم ما لم يجعله أي قانون أوشريعة. إلا أننا على المستوى العملي نجد أي خلاف بين زوجين لا يتفق على أبجديات القوامة ولا أساسيات الولاية ويعود الكلام عن ما يحق لك وما يحق لها.
لا أتحرج من أن أقول إن هذا ليس مرده فقط ما خرجت به حركات التحرر النسائي في الغرب، والتي بدأت بشعارات عنيفة وتصرفات رمزية من ضمنها إلقاء المشدات في النار؛ للتعبير عن الرفض للظلم الذكوري الناجم عن التمييز بين الرجل والمرأة في مختلف الميادين. نعم، كانت هناك نظرة ضاربة في القدم وموغلة في التاريخ تتكلم عن حالات مشابهة، منها في صدر الإسلام القضية التي أذكرها كما تروى أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله، فسألته عن حق الزوج على المرأة، فأخبرها، ثم قالت فما حقها عليه؟ قال: يكسوها من العرى، ويطعمها من الجوع، وإن أذنبت غفر لها، فقالت: فليس لها عليه شيء غير هذا؟ قال: لا، قالت: لا والله لا تزوجت أبدا، ثم ولت، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ارجعي فرجعت، فقال: إن الله عز وجل يقول: «وأن يستعففن خيرا لهن».
آثرت هذه المرأة في الرواية أن تبقى بلا زواج على أن تكون في عصمة رجل له عليها من الحق كما ترى أكثر مما له عليها، رغم ما جعله الإسلام للمرأة من حقوق بخلاف حالها في الجاهلية. أما عند الكلام على منطق المساواة المطلقة والذي يفترضه دعاة الحقوق، فعند تحليله يوجب تساوي الرجل والمرأة في جميع الحقوق والواجبات بلا استثناء، فهل هذا هوالحل؟!
واقعاً، فإن الكلام على عواهنه لن يوصلنا للمطلب إلا أن توضيح الصورة يقتضي التبسيط بالأمثلة التي قد تقرب وتبعد. خصوصاً والحال أننا لا نستطيع أن نمثل علاقة المودة والرحمة بعلاقات أخرى إلا للتوضيح، حيث تحمل خصوصية بالغة. ولكننا نفترض جدلاً طلب التساوي في الحقوق والواجبات في كل علاقة ونمثل لذلك بحقوق الوالدين.
في القوانين الغربية للطفل حقوق الرعاية والأمان والتعليم والصحة على الوالدين وحقوق أخرى كثيرة طالما كان الطفل دون سن البلوغ الذي قد يكون سن الثامنة عشرة، فماذا للوالدين من حقوق مماثلة من الطفل؟ لا يوجد. إذن، فما للوالدين على الابن من حقوق بعد بلوغه؟ لا يوجد، إنه غداء مجاني يحصل عليه الطفل من المجتمع ليعيده لأطفاله فيما بعد دون أن يكون للوالدين أي حق.
طبعاً في الإسلام حقوق الوالدين أعظم بكثير من حقوق أي إنسان آخر ويمتد حق البر طوال حياة طرفي العلاقة دون انقطاع مطلقاً، بل يستمر حق البر للوالدين حتى بعد وفاتهما. ترى هل سيهب أطفالنا يوماً ما هاتفين بأن للابن على أبيه الحقوق نفسها؟ غير منطقي بحسب منطق المسلمين، بينما هرب الغربيون من ذلك كما يبدو بعدم تقنين هذه العلاقة بعد بلوغ الطفل.
وهل نفترض أن أي علاقة بين طرفين يجب أن تكون متماثلة الحقوق والواجبات على الطرفين؟ ذلك غير ممكن عقلاً؛ لأن المشتري يبحث عن بائع وليس عن بائع مثله، ورب العمل يبحث عن أجير، والطبيب يبحث عن مريض، وهكذا.
وعودة إلى مساواة المرأة والرجل في إطار الزوجية في الحقوق والواجبات، فخروج الزوجة للعمل هو ما بدأ بطرح هذه الإشكالية التي لا يواجهها المسلم حين يأخذ بمبدأ أن المرأة «ريحانة وليست قهرمانة». وبالفعل، فإن الإسلام كذلك لم يوجب على الزوجة شؤون البيت وإن ندبها لذلك واشترط لها أجرة حتى على رعاية الطفل إن تراضت مع والد الطفل على ذلك. وحتى عند الالتزام بالتقسيم التام لكل الوظائف المنزلية والخارجية المالية منها والأسرية، فهل هذه هي حقيقة المشكلة؟
حقيقة المشكلة تكمن كما أفترض في تقبل القوامة أياً كان تعريفها، فالإنسان بطبعه لا يقبل بوجود رأي أكثر أولوية من رأيه في تحديد شؤونه أو بعضها. نجد هذا الموقف موجوداً في علاقات العمل والأبوة والزواج. رغم أن مسألة وجود راع ورعية هي من أبجديات الحياة التي أقرها الإسلام موافقة لفطرة إنسانية كما في الحديث (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
وللحديث صلة.

الأحد، 15 مايو 2011

الصلح خير






١٥ مايو ٢٠١١


قديماً قال المصريون “امش في جنازة ولا تمشي في جوازة” ونقضوا هذا المثل بقولهم “يا بخت من وفق بين راسين بالحلال” وكأنما كان المثل الأول تذمراً مما يلحق بالساعي للخير من الأذى والتقريع وربما السباب. وكان المثل العربي الآخر “يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا ريحتها”. صحيح، فما كل من تسعى للإصلاح بينهما يريدان الإصلاح. ربما كان الدليل على ذلك من قوله تعالى في شأن الحكمين بين الزوج والزوجة “إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما”.
المشكلة في إصلاح ذات البين تكمن في اعتقادي في شيئين أولهما وجود من يذكي نار الخلاف بين المتخاصمين بشكل متواصل ولا يرتاح حتى يفسد اللحمة بينهما بالصدق أو بالكذب حتى روي “ان الله أحب الكذب في الإصلاح وأبغص الصدق في الإفساد”. فما بالنا إذا كان المفسد بين الاثنين من نوعية “حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم”.
والشيء الثاني في هذا الباب هو وجود النفس الأمارة بالسوء التي يذكي الشيطان تكبرها فيجعلها منكوسة الأخلاق والصفات، يشوه عليها كل جميل ويزين لها كل قبيح، وكيف ذلك؟
يصور التسامح ضعفاً، ويجعل التواضع مهانة، ويقلب الرحمة عجزاً، ويحيل المداراة نفاقاً، ويقلب حفظ العشرة سذاجة. هذه نظرة بإمكانها تقبيح كل جميل وتشويه كل حسن وتزيين كل ذميم. ثم يضخم الأنا في الموضوع فيجعل القائل يقول “نسي تسامحي معه، وتواضعي له، وأنكر مداراتي له، وخان طول عشرتي معه”. هنا الشيطان حقق أمراً آخر فلربما أحبط هذه الأعمال فجعلها شخصية بين اثنين وليس خلقاً يطلب به المرء مثوبة رب العالمين ورضاه.
ومن المفسدين بين الناس من هو ساقط لا يرتفع إلا بالخلافات ولا يظهر له ذكر إلا إذا تعادى الشرفاء، ومثله من يدفع المال ليفسد فكيف بمن يدفع له للإفساد.
ومن المفسدين من يسعى لمصالح لا ينالها إلا بتسقيط شخص أو فئة أو مجموعة، إلا أن مثل هذا حتى إن ربحت له تجارة فهو أمر لا يدوم لأنه كما ارتفع عند أقوام فقد صار مذموماً عند آخرين.
إذا لا نرجو من متمصلح من خلاف أو ساقط بين الناس أن يصلح فاسداً من شؤوننا لأنه قبل الخلاف كان أرضاً مواتاً مهجورة لا يظهر لها ذكر ولا يحصل بها اهتمام، فمثل هذه الخلافات تكون بالنسبة له فرصة ذهبية لا تضيع.
بل إنني قرأت مقالاً لأحد المفتنين أخذت منه صورة للشيطان حين يتعوذ منه المرء ويخزيه فيصير الشيطان بذلك في حيص بيص وينسحب من المشهد تماماً حتى تحين له فرصة أخرى.
ونعود للساعي للخير فقد قلنا من قبل أنه كسمكة العومة مأكولة ومذمومة، وأنه قد يتلقى الضربات من الطرفين أو الفريقين، ولكنه لا يرى ما يراه الفريقان، فهو الوحيد الذي يرى العدو الحقيقي المتربص بينما الفريقان منشغلان ببعضهما واتخذ كل منهما الآخر عدواً ويراه كل منهما ساذجاً لا يعرف حقيقة الطرف الآخر بينما هو الوحيد الذي مازال محافظاً على عقله.
آخر الوحي:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
 لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى 
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول
تنقضي أواخره لا نلتقي وأوائله
“جميل بن معمر”.

الأربعاء، 11 مايو 2011

كتاب جنبلاطيون










١١ مايو ٢٠١١


السياسي اللبناني السيد وليد جنبلاط ظاهرة مثيرة للجدل، فقد تحول في مشواره السياسي بين اليسار واليمين أكثر من مرة ربما بسرعة تفوق سرعة الصاروخ وبتحولات غير متوقعة لا من أشد الخصوم ولا من أقرب الحلفاء. تحوله يقلب المعادلات ويجعل من الأقلية اللاعب المحوري. إلا أنه كما يقرأ المرحلة ويحسب تأثيرها عليه، يحسب أيضاً تأثيره عليها ومتى يكون موقفه ذات قيمة سياسية له وللفريق الذي سينتسب إليه.
من ينسى كيف وصل في خصامه لسوريا وباقي خصومه السياسيين إلى نقطة حسبها الجميع نقطة اللاعودة. حينها قال فيه بعض قيادات المعارضة اللبنانية: “بأنه الرئيس الفعلي للحكومة اللبنانية ورأسها المدبر، وأنه لص وكذاب وقاتل” ومن ينسى حينها ردة فعله بما اعتبر هجوماً نارياً على خطاب المعارضة؟
من ينسى هجومه المتكرر على سوريا آنذاك ووصفها بالشر الأسود وبأوصاف أخرى واتهامات كثيرة؟
لا أعتقد أن ذلك طوي من صفحة الذاكرة، ولكن في عالم السياسة تكتشف أن الثوابت لا محل لها، وأن صفقة سياسية ما أو تحولاً معيناً من الممكن أن يغير كل المواقف ويحيل الجميع إلى ما يسميه البعض بالواقعية السياسية وما يسميه المتشددون بالانبطاحية والركون والتذلل.
والمربك في موضوع الواقعية السياسية، أن المتشددين الذين يصفونها بأبشع الأوصاف هم أنفسهم من يضطرون إليها وبصورة تخالف كل خطاباتهم الحماسية. ومن ذلك فإن عملية إعادة الحسابات ما هي إلا اعتراف بصدمة بمعطيات جديدة تفرض على الجميع التعاطي معها بصورة تتناسب والمرحلة.
بالطبع إن الحسابات الآنية يجب أن لا تصطدم بالمبادئ والثوابت وإلا أضاع المرء مشيته فلا هو في مشية الحمامة ولا مشية الغراب. ولكن قديماً قيل “أحبب حبيبك هوناً ما فربما صار بغيضك يوماً ما. وابغض بغيضك هوناً ما فربما صار حبيبك يوما ما”.
من الكتاب من يشطح به القلم عن الواقعية بل وعن الأدب والذوق والأخلاق، فتراه يخاطب الكبير مخاطبة السفهاء، ويتهم الحكيم بالجهل والسفاهة، ويصادر الحق والحقيقة، فهو المحنك الذي يحتك بالناس، وهو العالم بما تكنه الصدور وتخفيه السرائر. أما الآخرون فعند هذا الكتاب مهما علوا فهم متساهلون متغافلون لا يرون أبعد من أكفهم. بل ويهدد الجميع بالويل والثبور وعظائم الأمور وكأنه صار الكاتب والمصلح والسياسي وعالم الدين وربما رب الأرباب.
إن النصيحة الصادقة والكلمة الطيبة إن لم يكونا محوراً لكلام الكاتب ومنطقه وأسلوبه فهو مهما علت شهرته ظاهرة صوتية تنتهي بانتهاء مرحلة واحتراق ورقة، لأن الله قال في محكم كتابه العزيز:
“فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَال”.
يبقى أن الأصابع ليست متساوية، وأنه كما توجد وجوه جنبلاطية متطرفة فهناك اصوات العقل والحكمة والترفع عن الصغائر وهم كثيرون.
عوداً على بدء فقد تحول جنبلاط مرة أخرى بعد انتخابات 2009 وقام بزيارة إلى سوريا وانسحب من فريق 14 آذار. وهكذا تدور الأيام مداولة بين الناس في سنة كونية يبقى فيه الخير ويذهب منها الزبد ويضطر المتشددون لتغيير خطاباتهم وثيابهم كما يتبدل خطاب نديم الباذنجان في قصيدة أحمد شوقي المشهورة بعد أن زايدوا على غيرهم في أبسط الأشياء وصادروا منهم حتى الإنسانية. والله من وراء القصد.

الأربعاء، 4 مايو 2011

قراءة في كتاب: المؤمن الصادق ٢





٤ مايو ٢٠١١


لعلني أشرت في المقال السابق إلى دوافع الحركات الجماهيرية ما بين رغبة في تغيير الواقع المعاش وما بين رغبة في إيجاد تحول في شخصية ونفسية الإنسان الحركي أو المؤمن الصادق أو كما عبر الكتاب بالرغبة في إيجاد البدائل. كما قلت ان إثارة النزعات الإثنية على مختلف انواعها كفيلة بإعطاء الشرارة والمحرك لأي حركة جماهيرية والشواهد التاريخية أكثر من أن تحصى.
وكما أكدت في مقال سابق فإن طبيعة الشخص المنتمي لحركة جماهيرية هي الفيصل وليس أفكار الحركة. فالمؤمن الصادق يبحث دوماً عن حركة تحتضنه وقد ينتمي إلى النقائض الواحد تلو الآخر فينتقل من النازية إلى الشيوعية حسب أمثلة الكتاب، أو ما بين العلمانية والتدين أو أي اتجاهين قد يبدوان نقيضين.
يشير الكتاب إلى نقلة يستغربها بين اتجاهين، وهي حين يقرر إنسان ما الهجرة من بلد إلى آخر هرباً من واقعٍ يعيشه. نعم، الهجرة تمثل إحدى الحركات التي ينضم لها الإنسان، فهي تزوده بالأمل في التغيير والبداية الجديدة. ولعل من المثير للاهتمام الإشارة إلى أحد عناوين الصحف في أحد تصريحات القيادة بأنه ليس من المقبول أن يشعر مواطن أو فئة أن لا مكان له في بلده. بل انني عند رجوعي لبعض خطب الجمعة في التسعينات، وجدت أكثر من خطبة تنهى عن ما يسمى بالتعرب بعد الهجرة وهو مصطلح إسلامي يعني الانتقال إلى البلد الكافر للإقامة والإستيطان. يقول المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم.
مما سبق أذهب إلى مذهب الكاتب أن الهجرة هي إحدى بدائل التغيير ولكنه بديل انهزامي سلبي ربما أفضل من التصادم ولكن لا يرقى إلى مستوى المشاركة الإيجابية الحضارية التي نؤمن بها التي تكون من الداخل مع بناء جسور الثقة والسعي لتأليف القلوب وتقريب وجهات النظر.
الأتباع المتوقعون لأي حركة جماهيرية لا يكونون بالضرورة سياسيين مخضرمين، فمجمل الحركة الجماهيرية تحتاج وقوداً مخلصاً لمبادئها وقياداتها لا أكثر، لأن هذا يسهل مهمة القيادة، ولذلك نذكر الأنواع الأكثر إنجذاباً للحركات الجماهيرية وهم: المنبوذون، الفقراء، العاجزون عن التأقلم، الأقليات، المراهقون، شديدو الطموح، العاجزون، المفرطون في الأنانية وأنواع أخرى.
ربما من الصادم أن يفرد الكتاب فصولاً لمناقشة الطبيعة النفسية لكل نوع من المذكور أعلاه وأسباب انجذاب هذه الفئات للحركات الجماهيرية، ولعل ما يزيد وقع الصدمة أن الكتاب بحث فئات تعيش حالات سلبية إن لم تكن مرضية، على توقعنا أن يقول الشرفاء، الأحرار، الغيورون...الخ.
مطلقاً!! فالكتاب حين يتكلم عن المؤمن الصادق يتكلم عن من يؤمن بالحركة بشكل عاطفي ويندمج معها ويعيشها كقضية مقدسة، وقليلاً ما تكون قضية جماهيرية كذلك!!
ويسهب الكتاب في الكلام عن مزايا المؤمن الصادق فيذكر أنه مستعد للتضحية من أجل قضية بكل شيء حتى بالنفس. ثم يذكر العوامل التي تشجع على التضحية بالنفس من التماهي في المجموع، الخيال، احتقار الحاضر، والعقيدة. كل ما سبق من عوامل تشجع على التضحية قد نتعرض لها بتفصيل أكثر لاحقاً.
كثير من العوامل التي تشجع العمل الجماعي وتزيد وتيرته تتراوح بين الكراهية والتقليد والقمع مع ما للقيادة القوية الجاذبة من دور لا يمكن إغفاله. حول الكراهية أنقل هذا المقطع:
“أكثر الطرق فاعلية لخنق تأنيب الضمير إقناع أنفسنا والآخرين أن الذين أخطأنا بحقهم هم، بالعقل، مخلوقات شريرة تستحق أقصى العقوبات بما فيها الإبادة، ليس بوسعنا أن نشفق على الذين ظلمناهم، ولا أن نتصرف إزاءهم بحياء. لابد أن نكرههم ونضطهدهم وإلا أبقينا الباب مفتوحاً أمام احتقار النفس”.
بعين هذا المنطق أعلاه تتصرف غالبية الحركات المتطرفة وربما كان من نافلة القول أن نشير هنا إلى منظمة القاعدة التي كان يرأسها أسامة بن لادن حتى مصرعه مؤخراً بحسب ما أعلن. إن إذكاء الحقد تجاه الآخر سواء كان مخالفاً في العقيدة أو في التوجه أو في العرق بالصورة المذكورة وتذكير النفس دوماً أن الآخر كائن شرير لا يجب التعاطف معه بذرة من الشفقة أو الود هو السبيل الوحيد لمحافظة المتطرف على احترامه لنفسه.
أستذكر هنا بيت نزار قباني إذ يقول:
وأنا أسير وراء نعشي ضاحكاً
يرضى القتيل وليس يرضى القاتل
وللحديث صلة...

الأحد، 1 مايو 2011

قراءة في كتاب: المؤمن الصادق ١




١ مايو ٢٠١١


كتاب المؤمن الصادق هو من تأليف المؤلف اريك هوفر الذي ألفه في أربعينات القرن العشرين ولم يصل إلينا إلا في هذا القرن بعد أن قام بترجمته الأديب الراحل الدكتور غازي القصيبي. هذا الكتاب يتكلم عن الحركات الجماهيرية وأسباب وعوامل نشأتها ومواصفات أتباعها، ويركز على الأتباع المخلصين لها ووقودها والذين يطلق على كل منهم لفظ المؤمن الصادق.
الدكتور القصيبي كان يبحث عن إجابة تشغل باله عن سبب كون الإرهابي إرهابياً، فوجد ضالته في هذا الكتاب الذي يركز بشدة على التطرف وأسبابه.
وقد سمعت الكثير عن الكتاب من الأصدقاء منذ أشهر، إلا أنني لم أبدأ في قراءته إلا منذ أيام على إثر بعض النقاشات حوله وحول موضوعه الأساس.
ومعالجة التطرف وأسبابه في نقاش موضوعي، ستجعلنا قادرين على الأقل على فهم منطق التطرف ووضع اليد على سبل علاج الوضع الذي يفرزه.
في القسم الأول من هذا الكتاب الممتع، يتكلم الكاتب عن الرغبة في التغيير، والرغبة في البدائل كأسباب للدخول في حركة جماهيرية، ومن ثم يتكلم عن تبادلية الحركات الجماهيرية وقابلية انتقال الأفراد من حركة لأخرى ومن فكر لآخر.
أسباب الدخول في الحركة الجماهيرية لا تبدو ترجمتها واضحة لتبيان الفرق بين الرغبة في التغيير والرغبة في بدائل، ففي العربية لن يكون هناك فرق واضح بين التغيير والتبديل، ولذا نوضح هنا، فنقول:
الكلام عن الرغبة في التغيير هو بحث في التوجه لتغيير الواقع المعاش، فالمنظمون للحركات الجماهيرية والثورية يرغبون في تحقيق تحول في أوضاعهم المعيشية. الانفعال والحماسة ضروريان لصنع حركة تقوم بإحداث تغيير سريع وكبير، إنهما الشرارة والدينامو المحرك لأي حركة، ولذلك فلا بد من إبقاء هذه الحماسة مشتعلة باستمرار.
إن كثيراً من الحركات السياسية التي قامت احتاجت هذا المحرك، فقامت بإيجاد معامل تخرج بهذين المنتجين (الحماسة والانفعال) واعتمدت في ذلك على النزعات القومية والدينية كما حدث في الثورة الفرنسية والروسية واليابانية. يتم زرع هذه الرغبة بخلق التذمر وتأكيد القدرة على التغيير وصنع صورة جميلة للمستقبل في حال نجحت الحركة.
في الكلام عن البدائل، يقول الكاتب أن المحبطين يجدون في الحركات الجماهيرية بدائل إما لأنفسهم بأكملها أو بعض مكوناتها. إذن التغيير كان يشير إلى تغيير الواقع. أما البدائل، فالكلام عما تحققه الحركة من تغيير نفسي لكل ثائر أو متطرف، واستعرض هنا بعض المزايا التي تحققها الحركة كبدائل:
1 “إن الإيمان بقضية مقدسة هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا” نعم، أقول إن الثورات هي نهر غانج كبير يتطهر فيه الثوار من خطاياهم، ويرون أنفسهم تتسامى وتتخلص من أدرانها، إن التضحية التي سيقدمها اليوم، هي كما يرى بلا شك ستخلصه من إحساسه الدائم بعدم النقاء.
2 “كلما استحال على الإنسان أن يدعي التفوق لنفسه، كلما سهل عليه أن يدعي التفوق لأمته أو لدينه أو لعرقه أو لقضيته المقدسة” هنا، يرى الكاتب لجوء الأفراد لاستثمار الأنا الكبيرة والتي تتوفر لكل فرد من المجموعة، فتكمل نقصه وتعطيه قيمة لنفسه.
طبعاً قراءتي لهذا الكتاب معكم لا تعني أكثر من دراسة أسباب التطرف بشكل عام دون أي إسقاط على أي أحداث تقع في بلادنا العربية أو بلاد العالم حالياً، خاصة وأن الكتاب قد كتب في عصر سابق، فلم يدرك المتغيرات الحاصلة.
يضاف إلى ذلك أن لكل حركة أسبابها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تدخل فيها وسائل الإعلام وأجهزة الاستخبارات، وكل فيها يغني على ليلاه.
وما يهمني حقاً في هذه السلسلة هو توصيل نبذة للناشئة عما تستغله الأحزاب والحركات لنيل مقاصدها، فنتجنب بذلك أن يدخل شبابنا كحطب للمحارق ووقود لألعاب إستراتيجية دولية.

وللحديث تتمة..