١٥ مايو ٢٠١١
قديماً قال المصريون “امش في جنازة ولا تمشي في جوازة” ونقضوا هذا المثل بقولهم “يا بخت من وفق بين راسين بالحلال” وكأنما كان المثل الأول تذمراً مما يلحق بالساعي للخير من الأذى والتقريع وربما السباب. وكان المثل العربي الآخر “يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا ريحتها”. صحيح، فما كل من تسعى للإصلاح بينهما يريدان الإصلاح. ربما كان الدليل على ذلك من قوله تعالى في شأن الحكمين بين الزوج والزوجة “إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما”.
المشكلة في إصلاح ذات البين تكمن في اعتقادي في شيئين أولهما وجود من يذكي نار الخلاف بين المتخاصمين بشكل متواصل ولا يرتاح حتى يفسد اللحمة بينهما بالصدق أو بالكذب حتى روي “ان الله أحب الكذب في الإصلاح وأبغص الصدق في الإفساد”. فما بالنا إذا كان المفسد بين الاثنين من نوعية “حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم”.
والشيء الثاني في هذا الباب هو وجود النفس الأمارة بالسوء التي يذكي الشيطان تكبرها فيجعلها منكوسة الأخلاق والصفات، يشوه عليها كل جميل ويزين لها كل قبيح، وكيف ذلك؟
يصور التسامح ضعفاً، ويجعل التواضع مهانة، ويقلب الرحمة عجزاً، ويحيل المداراة نفاقاً، ويقلب حفظ العشرة سذاجة. هذه نظرة بإمكانها تقبيح كل جميل وتشويه كل حسن وتزيين كل ذميم. ثم يضخم الأنا في الموضوع فيجعل القائل يقول “نسي تسامحي معه، وتواضعي له، وأنكر مداراتي له، وخان طول عشرتي معه”. هنا الشيطان حقق أمراً آخر فلربما أحبط هذه الأعمال فجعلها شخصية بين اثنين وليس خلقاً يطلب به المرء مثوبة رب العالمين ورضاه.
ومن المفسدين بين الناس من هو ساقط لا يرتفع إلا بالخلافات ولا يظهر له ذكر إلا إذا تعادى الشرفاء، ومثله من يدفع المال ليفسد فكيف بمن يدفع له للإفساد.
ومن المفسدين من يسعى لمصالح لا ينالها إلا بتسقيط شخص أو فئة أو مجموعة، إلا أن مثل هذا حتى إن ربحت له تجارة فهو أمر لا يدوم لأنه كما ارتفع عند أقوام فقد صار مذموماً عند آخرين.
إذا لا نرجو من متمصلح من خلاف أو ساقط بين الناس أن يصلح فاسداً من شؤوننا لأنه قبل الخلاف كان أرضاً مواتاً مهجورة لا يظهر لها ذكر ولا يحصل بها اهتمام، فمثل هذه الخلافات تكون بالنسبة له فرصة ذهبية لا تضيع.
بل إنني قرأت مقالاً لأحد المفتنين أخذت منه صورة للشيطان حين يتعوذ منه المرء ويخزيه فيصير الشيطان بذلك في حيص بيص وينسحب من المشهد تماماً حتى تحين له فرصة أخرى.
ونعود للساعي للخير فقد قلنا من قبل أنه كسمكة العومة مأكولة ومذمومة، وأنه قد يتلقى الضربات من الطرفين أو الفريقين، ولكنه لا يرى ما يراه الفريقان، فهو الوحيد الذي يرى العدو الحقيقي المتربص بينما الفريقان منشغلان ببعضهما واتخذ كل منهما الآخر عدواً ويراه كل منهما ساذجاً لا يعرف حقيقة الطرف الآخر بينما هو الوحيد الذي مازال محافظاً على عقله.
آخر الوحي:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول
تنقضي أواخره لا نلتقي وأوائله
“جميل بن معمر”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق