الأحد، 31 يوليو 2011

أزمة ثقة







٣١ يوليو ٢٠١١


في كلمة جلالته أمام مجلس الوزراء في جلسته الاستثنائية، وضع اليد على الجرح ووصف واقعاً بصراحة أؤكد أني لم أره من قبل من أي حاكم دولة عربية بالذات  بشكل غير مسبوق. كلمة دقيقة لا مواربة فيها من ضمن ذلك الخطاب “تأتي الدعوة لهذا الاجتماع الاستثنائي لمجلسكم الموقر اليوم لنؤكد لكم فيه عزمنا الجاد على استعادة الثقة وتوحيد الرؤى بغية أن نستمر في مسيرتنا لمزيد من الإصلاح” ومن ثم في موضع آخر “وهناك اتهامات واتهامات مضادة حول أسباب ونوعية وكيفية حدوث ذلك العنف، وأصبحت حالة عدم الثقة هي السائدة، واختلفت الرؤى بمزيج من الإشاعات حولها”، أقولها صادقاً بلا تملق وبما شهد به الجميع أن تشكيل لجنة تقصي للحقائق هو خطوة إيجابية غير مسبوقة، ولكن ما أردت أن أؤكد عليه هو ليس فقط الإشادة بالعلاج المتمثل في اللجنة، وإنما حتى في تشخيص الوضع بحالة أزمة ثقة بين أطراف مختلفة في البلاد كالدولة والمعارضة، وبالصراحة المتناهية في هذا التوصيف دون مواربة أو مجاملة، وهو أمر يستحق كل الاحترام والتقدير.
إنني وكثيرين غيري منذ بداية الأزمة كنا ندعو الآخرين لعدم التسرع في إصدار الأحكام على أحد، و ضد أن يمارس الإعلام دور القاضي والشاهد والجلاد. وضد أن يخرج أي إعلام يخلق حالة من الشعور بالاستهداف، ويزيد الطين بلة ويرش الملح على الجراح. هذا الإعلام كان مما لعب دوراً كبيراً في خلق أزمة الثقة.
ومما خلق أزمة الثقة، تلكؤ بعض المسؤولين في النظر في احتياجات المواطنين والاجتهاد في تفسير أوامر القيادة تفسيراً غير صحيح أو غير ما فهم منها في حينها، أو التلكؤ في تنفيذ أمثال هذه الأوامر التي تصب في الأمور المعيشية والحياتية للمواطنين.
مما خلق أزمة الثقة أيضاً تسرع بعض الجهات الأهلية والرسمية في الرد دون التثبت والدخول برأي مسبق شديد الهجومية، في تخبط ودفاع من أجل الدفاع وهجوم من أجل الهجوم، دون اطلاع على الوقائع، مما يضعف مصداقية هذا الطرف أو ذاك.
لا شك أن إغراق الساحة بالإشاعات كان له دور مهم في هدم أجزاء كبيرة من جسور الثقة، وجعل البحريني غير قادر على تصديق ما يسمعه من هذه الجهة أو تلك الجمعية أو ذلك الحزب فيقع في حيص بيص لا ينتهي لكثرة الإشاعات المتضاربة والأقوال المتناقضة.
ليس سهلاً بالتأكيد علينا ونحن متعودون على إعلام “كل شي تمام” ومعارضة “كل شي دمار” أن نسمع من عاهل البلاد الكلام عن أزمة ثقة تعوق طريق الإصلاح والإيعاز بضرورة سرعة معالجتها. ذلك أن السياسة عودتنا أن بعض الأمور بالإمكان علاجها دون الكلام عنها بشكل علني، لكن مسألة الثقة أمر مختلف، فهي تعتمد المصارحة والمكاشفة وطمأنة الآخرين وتنقية الأجواء، وكما ينطبق هذا الأمر على الخلاف داخل البيت الصغير فهو ينطبق كذلك على الوطن الأكبر، فلابد من الوقوف أمام حقيقة وجود هذه الأزمة قبل بدء محاولة علاجها.
لقد تفاءلنا يومها وتفاءلنا أكثر بعيد تصريحات السيد بسيوني المتكررة بما طلبه من عاهل البلاد من إرجاع للمفصولين، و ما نقله مبدئياً عن استجابة جلالته لهذا الأمر، و التوجيهات التي رأيناها في هذا الصدد في صحف الأيام التالية. فلا شك أن نقل هذا الكلام على لسان رئيس لجنة تقصي الحقائق يضع مصداقية اللجنة وجدية تعامل الدولة معها على المحك مبكراً، ويدفع باتجاه سرعة تنفيذ هذه التوجيهات وتبيين ضرورتها خاصة والجميع يترقب ما ستسفر عنه هذه اللجنة من نتائج نتمنى أن تسفر عن بداية علاج ناجع لحالة عدم الثقة كما سماها جلالة الملك.
ختاماً، أهنئكم جميعاً بقرب حلول شهر رمضان المبارك، الذي نتمنى أن يحمل معه بشائر كل الخير والصلاح لبلدنا العزيز وكل العزة والكرامة والرفاه لشعبه الكريم، و يكون بحق شهراً للأخوة والمودة والتسامح، تمحق فيه كل الخلافات كما تمحق المعاصي مع صيامه وقيامه.

آخر الوحي:

عليكم وإن طال الرجاء المعول
وفي يدكم تحقيق ما يتأمل

وأنتم أخير في ادعاء ومطمع
وأنتم إذا عد الميامين أول

وماذا ترجي أنفس لا يسرها
سوى الشعب مسروراً وماذا تؤمل؟

“محمد مهدي الجواهري”

الأحد، 24 يوليو 2011

المربوط و المنفلت








٢٤ يوليو ٢٠١١


مثل يضرب لبيان خطورة الهادئ وخطورة المندفع وهويقول «ما أردى من المربوط إلا المنفلت». وللعرب حول موضوع المربوط والمنفلت الكثير من الأمثال لارتباط حضارتهم كبدو وحضر باستخدام الدواب لتسيير أمور حياتهم. ولذلك، ولأن الأمثال لا تعارض فإن استخدام مثل هذه الأمثال من تراثنا لا يجب أن يعتبر أمراً معيباً أو مهينا.
وربما أمكننا تفسير المثل بتوضيح سوء طرفي النقيض كسوء البخيل وسوء المبذر، أو سوء الجاف وسوء كثير الثرثرة، وسوء المتكبر وسوء السفيه المهين. كل هؤلاء أطراف نقيض وفي الطرفين يكون السوء وفي التوسط والاعتدال تكمن الحكمة والضبط والمراعاة.
ومن مثل هذه الأمثال المثل الذي يقول «لا تخاف الا من الساكت»، أو»سكت دهراً ونطق كفراً»، وقديماً قيل «إني أهاب الرجل حتى يتكلم»، وقيل أن»الرجل يخاف كلام المرأة والمرأة تخاف صمت الرجل»، ومابين اطراف النقائض ضعنا وضاع الاعتدال.
فبين من يريد أن يؤسس دولة جديدة بأي اسم سماها وبين من يريد أن يلغيها بدمجها قسراً مع الدول الأخرى، ناسين جميعاً أن للبلد وضعاً وأحكاماً واستقلالاً لا يجوز تجاوزها من أحد. إن ما يراه مفكرون حول الصورة التي يتمنونها للدولة وشكلها السياسي وهيكلها التنظيمي شيء والكلام من نخب أو عوام حول سيادتها واستقلالها أمر آخر.
وما دام الكلام قد كثر حول لبننة وعرقنة الوضع البحريني، فسأستعير ما قيل حول لبنان وأقول أن البحرين أكبر من أن تلتهم وأصغر من أن تقسم.
فأما الالتهام والاختطاف فهو الخطر الداهم على السيادة والهوية، لذا وجب أن تكون توافقاتنا وقراراتنا من الداخل لأن الحلول الخارجية تتبعها أثمان واجبة الدفع، ولا يجوز أن يزايد أحد لإدخالنا كرة في مباريات ونزاعات إقليمية ودولية ثم يكون ذلك على حساب سيادة البحرين واستقلالها.
وأما عن التقسيم فإن هناك من المتطرفين من يريد تقسيمنا إلى شمالية وجنوبية أو شرقية وغربية ويلبس ذلك التقسيم بلبوس وطني. وكم يستحيل على الفرقة والانقسام أن تلبس ثوبا وطنياً كما أشرت في مقال سابق بعنوان «أم الصبي».
أن تكون جزءاً من منظومة متعاونة ومتكاملة فهو بلا شك أمرٌ طيب، خاصة إذا تم هذا التكامل في السياق الطبيعي من توحيد عملة وإلغاء جمارك وفتح المجال أمام التجارة البينية ومنع تكرار المشاريع الحيوية بين الدول الأعضاء والسماح بالتعاون وليس التنافس الاستراتيجي. إن حدوث ذلك بتدرج طبيعي في سياق منطقي حتى يصير كل مواطن في هذه المنظومة يشعر بكونه جزءاً منها ويعتز بها، وليس بين عشية وضحاها ولا بتلكؤٍ فيصير بين قرن وآخر والأهم أن لا يكون حباً من طرف واحد، لأن الحب من طرف واحد مذل دوماً. حال هذا الحب ليس خيراً من قول الشاعر:
أمر على الأبواب من غير حاجة
لعلي أراهم أو أرى من يراهم
ولا هو خير من قول الشاعر:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
فحين نسمح بتملك الأشقاء في ديارنا يجب أن يشمل هذا القرار تملكنا في ديارهم وإلا صار عقارنا حكراً على المستثمر بينما يضيع المواطن بحثاً عن سقف يظله أو أرض تقله.
هذا مثال طرحته في هذا الخصوص لتبيين ضرورة السياق المنطقي والتدرج الطبيعي، وأما مسألة السيادة والكونفيدرالية وكل ما يمس تشكيل وطن جديد فهو أمر لا يجوز الدعاية والتسويق فيه بل أرى أنه شأن حساس يجب التروي فيه ونقاشه على مستوى أهل الاختصاص والنظر في التاريخ وقراءة المستقبل. والله من وراء القصد.

آخر الوحي:
كانت وكنت وكان الحب ثالثنا
متى التقينا تشب النار في الحطب
سرت بكل عروقي لهفة وهوىً
شيئاً فشيئاً كمشي السقم في الركبِ
وأغرقتني ببحرٍ لا قرار له
هو الجحيم بلا نارٍ ولا لهبِ
حتى إذا استحكمت مني بفتنتها
وآيس القلب من عتقٍ ومن هربِ
ألقت به في مهاوي الحزن عامدةً
كأنها عشقت عمداً لتوقع بي
«محمد هادي الحلواجي»

الأربعاء، 20 يوليو 2011

ضحك الثكالى: “السفارة في العمارة”






٢٠ يوليو ٢٠١١


في فيلمه الممتع “السفارة في العمارة” يعود المهندس العربيد من الخليج ليستقر في مصر، فيجد شقته جاورت الشقة التي تحوي السفارة الإسرائيلية في مصر. الرجل لم يكن سياسياً، لكنه تأذى بسبب حاجته لتصريحات أمنية لدخول زواره وزائراته وكل ذلك بسبب سكناه بجوار سفارة الدولة اليهودية.
هنا حاول الرجل بطبيعته المسالمة أن يتخلص من الشقة ببيعها لسمسار، إلا أن الأخير ما إن علم بموقعها، رفض وقال له بالحرف الواحد “دي ما تساويش جنيه”. لجأ بطلنا شريف خيري لصديقي المحامي الذي أخبره أن حق الاتفاق مع الجار الذي يقره القانون مسلوب منه، ويكفي لطرد السفارة من العمارة أن يثبت تعرضه للضرر من جراء هذا الجوار المشؤوم.
بعد رفع القضية تحول المغامر الخمسيني إلى بطل قومي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد بدا كأنه المنقذ للشعب من فخ التطبيع مع الأجنبي ومع العدو ومع قتلة الأطفال كما يسميهم الفيلم. تحول إلى “شريف خيري رمز الصمود” بعد أن كان صفراً في أي معادلة سياسية أو وطنية.
لقد وصل به الحال أن يعيش الدور فعلاً وأن يقف متقدماً المظاهرة هاتفاً “يانا يا السفارة في قلب العمارة”، وبدا الأمر للجمهور وكأن الرجل بقي عليه يومان ليسحب السفارة من مصر كلها. طبعاً الرجل كان مزايداً فقط لأن فتاة تعجبه كانت من الاتجاه الثوري في أحد الأحزاب اليسارية الديناصورية.
وانتهى الصراع بسحبه للقضية من المحكمة إثر تهديدات لا يستطيع مجابهتها. طبعاً لو كان هذا الحال عندنا في البحرين، وادعى مدعٍ أو مثل ممثل بأنه سيتصارع مع سفارة العم سام أو مع سفارة صاحبة الجلالة، وأنه سيطرد السفير فإن الرد عليه سيكون بالضحك أولاً ثم بعبارة “من صدقك؟” وعلى رواية أخرى “من صجك؟” بحسب اختلاف اللهجة. ذلك لأن البحرينيين أكثر واقعية من أن يشتروا مثل هذه اللغة السمجة من الضحك على ذقون العامة وارتداء ثوب البطل لمن يختلف عن البطل في القياسات.
يذكرني موقف عادل إمام في هذا الفيلم بالنحلة حين حطت على الجبل، ثم قالت للجبل، تنبه فإني سأطير الآن، فأجابها الجبل أنه لم يشعر بها حين حطت لينتبه لها وهي تطير.
الواقعية السياسية، مطلوبة إن لم يكن هناك مآرب أخرى للمواقف، لأن المواقف المشابهة تدخل أكثر ما تدخل في وارد الفكاهة الساذجة التي تستغفل الناس. الفيلم جميل ويرينا الكثير من واقع وعي الشعوب العربية وانجرارها خلف أي نصاب يجيد الرقص على الكلمات. مشاهدة ممتعة.

آخر الوحي:
وهذي القدس تشكركم،
ففي تنديدكم حينا،
وفي تهديدكم حينا،
سحبتم أنف أمريكا،
فلم تنقل سفارتها،
ولو نقلت ــ معاذ الله لو نقلت ــ لضيعنا فلسطينا
“أحمد مطر”

الأحد، 17 يوليو 2011

ورثة الأنبياء





١٧ يوليو ٢٠١١


في الأثر أن مداد العلماء خير من دماء الشهداء، وأن لحومهم مسمومة، وأن ركعتين من عالم خير من سبعين من جاهل، وأن الملائكة تضع أجنحتها لهم وأنهم على منابر لهم من نور يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من المآثر والمقامات.
لكن هناك خللا ما عدنا ننظر لدور العالم، فعالم الدين من المفترض أن دوره يقع في تبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الناس إليها والإفتاء، والنذارة، والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من الأدوار.
إلا أن عالم الدين عندنا صار تخصصه الوحيد السياسة، وأما باقي الأدوار فتأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة. نعم فما عاد الناس يذكرون عالماً بعلمه وفضله إنما بمشاركته الفعالة في السياسة ومطالبته بحقوق الخلق الدنيوية.
أقول انني لا أرى عيباً في أن يتصدى العالم للسياسة أو الدخول في العملية التشريعية والرقابية، إلا أن ثغرات كبيرة تصير مفتوحة لو تخلى عن دوره في حفظ العقيدة وتوعية الناس وحثهم على الالتزام بدينهم وتبيين المنافع من ذلك والتحذير من مغبة المخالفات الشرعية.
بل ربما كان الأمر اليوم معكوساً، فشخص ما كما يبدو، أقنع عموم علماء المسلمين أن دورهم الأهم هو السياسة، ربما عملاً بـ “إذا صلح الراعي صلحت الرعية” ولكن هل يعقل أن يذكروا هذه المقولة وينسوا حديث “كيفما تكونوا يولى عليكم”؟! أم أن العلماء صاروا كلهم متخصصون في وعظ الكبراء فقط ونسوا أننا جميعاً نحتاج لمن يعظنا ويرشدنا؟
حين أتصفح حياة العلماء الماضين، أجد عمومهم زاهدين في السياسة لأسباب قد تكون غير مفهومة اليوم بعد تغير نظرة الناس لدور العالم والمطلوب منه وما هو المقام الذي له وما هو الواجب عليه وما يتوقعونه منه.
العالم صار مطلوباً منه أن يعمل على طريقة “ما يطلبه المشاهدون” أو طريقة “الجمهور عاوز كده” وليت شعري هل عكست الآية وصار المتبوعون أتباعاً من حيث لا يدرون؟
لم يعد للعلماء دور في التصدي لتنزيه المواكب من الحضور النسائي، و لم يعد لهم دور في محاربة المد اليساري، و لم يعد لهم دور في تنزيه المدائح والمراثي من الألحان الطربية، ولم يعد لهم دور في تبيين الأحكام، ولا في محاربة الظواهر الاجتماعية الخاطئة. ربما قيل لك لا داعي لذلك، فالناس تعرف أحكامها، فإن كان كذلك فذكر إنما أنت مذكر، أو فاجلس في بيتك إن زعمت أن الناس صاروا جميعاً بحمد الله فقهاء.
الدليل على ذلك أنك تسمع الناس تتناقل ما قاله العالم الفلاني في السياسة، إلا أن لا أحد منهم ينقل فتواه في مسألة معينة، ولعل ذلك العيب من الناس بأن الدين صار آخر همهم، إلا أن العلماء يجب أن يخلعوا عنهم بدلة السياسي التي ألصقت بهم زوراً وبهتاناً.
نعم، نحن نحتاج لهذا النموذج الذي يطلق عليه العلماء العاملين، ولكن لن ينفعونا إن كانوا جميعاً يتخصصون ويحصرون أنفسهم في العمل السياسي، الذي ربما ليس شرطاً أن يكون كل معمم أقدر من غيره في التصدي له.
أعتذر لكل آبائنا من العلماء الذين نتشرف بهم، ولكن هي كلمة موجهة لطلبة العلوم الدينية، نستجدي فيها منهم أن يعم نفعهم على المجتمع وعلى حياة الناس بكل مناحيها، فلا يقصروها على سلعة قد تكون كاسدة، قد تكون آخر ما ينظر إليه في أعمال الإنسان.
آخر الوحي:
الحق مهتضم والدين مخترم
وفيئ آل رسول الله مقتسم
والناس عندك لا ناس فيحفظهم
سوم الرعاة ولا شاء ولا نعم
إني أبيت قليل النوم أرقني
قلب تصارع فيه الهم والهمم
وعزمة لا ينام الليل صاحبها
إلا على ظفر في طيه كرم
“أبوفراس الحمداني”

السبت، 16 يوليو 2011

موازنات غائبة







١٦ يوليو ٢٠١١


لما نظرت إلى واقعنا المعاش وموجات التطرف التي تكتنف الأمة من شرقيها إلى غربيها، وسألت نفسي عن الأسباب التي تؤجج لفكر التطرف وتشحن به القلوب والضمائر، لم أجد شيئاً غير مفاهيم معوجة وانحرافات قائمة، لوتم التصالح معها لوجدت ثقافتنا مفاتيح بعض الرتج المغلقة عليها، لتسير في مسارها الصحيح. هذه الإنحرافات في المفاهيم خلفت لنا تطرفاً في تبني الأفكار ينبغي علاجه وإلا صارت عقولنا مبرمجة على السير في غير فطرتها فقط لتتلافى الإصطدام بمعتقد قد يحمل من الغلوشيئاً لا يحمد.
لا فرق ذلك بين مذهب وآخر ودين وآخر، كلنا نغيب التوازن ونحمل الشيء ونقيضه دون أي حرج في ذلك والسبب في ذلك الحاجة لإيجاد مخارج شرعية لما نريد القيام به أوفعله.
ولأني لا أحب من ينظر لعيوب الآخر قبل أن يصلح نفسه، فإنني أرى توازناً مهماً مفقوداً عند كثير من معتنقي مذهب التشيع، يكاد يجنح بهم إلى الفكر الزيدي عوض الفكر الجعفري، وإن عد ذلك عجيباً فأعجب منه التوازن المفقود والمرتبط بهذا الجنوح والميل.
التوازن بين كفتي ميزان مهمتين في المذهب الجعفري خاصة بسبب كونه يقر بالإمامة الإلهية كأصل من أصول العقيدة، وهاتان الكفتان هما الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام. وهذان الإمامان بالذات يعنيان الكثير والكثير جداً لعموم المسلمين، فهما سبطا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وسيدا شباب أهل الجنة، كما أن من أهل السنة من يعد الحسن عليه السلام الخليفة الخامس للمسلمين.
يقول عنهما الحديث الشريف “الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا” فيلزم الأمة باتباعهما، كما يشير وصفهما بسيادة شباب الجنة إلى مرتبتهما العالية التي لم تقتصر على تبشيرهما بالجنة وحسب بل بسيادتهما فيها على عموم شباب أهل الجنة، وليس في الجنة إلا الشباب.
الحاصل أن الحركات الثورية القديمة منها والحديثة أرادت استغلال قضية الإمام الحسين ومقتله في كربلاء للتنظير لمشروعية عملها وهومما يؤسف له. فإن المتاجرة بالموروث بغرض الوصول إلى المنصب الدنيوي مهما كانت الذرائع تخرج مقترفها من خانة الأولياء إلى خانة عشاق الدنيا الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً.
ولعل الحديث يطول في هذا المقام لتوضيح المطلب، الذي تطرق له الشيخ حسين البلغة في مقال قيم، يوضح فيه بجلاء أن قضية الإمام الحسين تمثل انتهاكاً سافراً لحرمة أهل البيت وسفكاً لدمائهم، ولا تمثل بأي حال من الأحوال ثورة أوحركة هادفة لبلوغ الحكم، والشواهد على ذلك من حياة الإمام الحسين أو من خلال الموازنة مع قضية الإمام الحسن هي أكثر من أن تحصى.
ومن ذلك تشدق كثير من ثوريي هذا الزمان بمقولة بائسة هي قولهم “نحن حسينيون ولسنا حسنيين” ولا أدل من ذلك القول على أنهم لم يحاولوا فهم ما جرى من الإمام الحسين وعليه وإنما أرادوا استحضار ما جرى عليه ليلبسوا قميص الحرب المقدسة في الدفاع عن الدين بينما هي في واقع الأمر رغباتهم السياسية ومطالبهم الدنيوية وأمانيهم السلطوية.
كيف يفسر هؤلاء الثوريون موقف الإمام الحسن، وهل يضطرون للدفاع عنه والتبرير له وهوغني عن ذلك، أم يضطرون للبراءة من موقفه؟
هل تراهم يضطرون للتبرير بالمرحليات، وأن لكل مرحلة تكليفاً، فكيف يقيمون تكليفهم الذي هم قاصرون عن الوصول إليه؟ ثم أن مواقف الإمام الحسين المتعددة في الإشارة لمصرعه وفي طلبه من أعداءه الفرصة للرجوع إلى المدينة أوالذهاب لأحد ثغور المسلمين أوغير ذلك هودليل على أنه لم يكن يريد المواجهة بأي حال من الأحوال.
بل لعل نظرة بسيطة إلى سير عموم أئمة أهل البيت (ع) توضح أن الإمام لا يسعى للوصول للحكم، وأنه من تكليف الناس أن يجعلوه دليلاً لهم وقائداً وليس من تكليفه هو، ما خلا المهدي المنتظر والذي لا تنفرد الشيعة برواياته والإخبار عنه. والله من وراء القصد.

آخر الوحي:
وجع الرؤيا ونزف المعرفة
حرم فيه ابتهالات تطوف
كل نصر في المرايا المنصفة
هو عمر آخر بعد الحتوف
يقتل الأحلام صحو الأرغفة
ونسمي مارد الخوف ظروف
أمة تقتات قشر الفلسفة
وهي تخشى بوح صمت الفيلسوف
أدمنت كل فنون الزخرفة
بعدما اغتالت أحاسيس الحروف
“حسين علي خلف”

الأحد، 10 يوليو 2011

مرضى السياسة





١٠ يوليو ٢٠١١



رغم أني قد أكون أحدهم، إلا أنني صرت أتجنب الكتابة في السياسة وأميل أن أطرق منها بمقدار ما يمس شأننا العام وحياتنا اليومية، وإلا فإني أفضل الكلام بشأن الأدب والاجتماع والمفاهيم التي أرى الحاجة إلى تصحيحها، أصيب مرة وأخطئ مرات، إلا أنني أرجو لنفسي التوقي من الزلل الذي إن كثر فإنه يكثر من باب “من كثر كلامه كثر خطؤه”.
نعم أهرب من السياسة قدر المستطاع، وصرت منها أكثر هروباً، فهي باب مناكفة لا يسد، وفيها يصدق بحق قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساوئا.
كما أن مما زاد هروبي منها أننا وللأسف وهذه حقيقة لا مناص منها، أننا لا نرضى بحقيقة إمكانية وجود رأي آخر، وكأننا نعيش في كوكب منعزل منفردين عن الآخر، ولا فرق في ذلك بين العالم والجاهل والمثقفين والعوام بل حتى الكبراء وعلية القوم. كل يعبر عن عدم قناعته وعدم رضاه بالآخر فضلاً عن رأيه، وتصل بعد ذلك إلى شخصنة الأمور والشتم والسباب المقذع وتسليط السفهاء.
ومما زاد نفوري من السياسة تغلغلها في كل شيء حتى أفسدت كل جميل، وصار تبغيض أجمل الأشياء فناً يتداوله الجميع. صارت السياسة هم الكبير والصغير، كل دخل إليها من باب مختلف، بعض من باب الطموح إلى المنصب، وآخر طلباً لما يرى أنه حق له، وآخر يغتسل في نهر السياسة من عقده وأمراضه.
ومما أمرضني في السياسة فرضها تأليه بعض الرجال وجعلهم في مصاف الأنبياء وتسقيط آخرين ووضعهم في مصاف الشياطين.
ولعل من أكثر ما ساءني في السياسة تسييس بسطاء الناس من كل اتجاه واستخدامهم وقوداً لمعارك سياسية طاحنة، تعصف بأخلاق المرء قبل أعصابه ونفسه، وتجنده في قبالة أخيه الإنسان، فتجد المعركة حقيقة اختلافاً بين اتجاهين إلا أن هذا الاختلاف يتحول إلى خلاف يعصف بالآلاف فتسود القطيعة في كل المجتمع.
من منا لا يتوق للاستمتاع بحياته بسلام، يحس بمتعة كل شيء صغير فيها، ويحمد الله على كل نعمة أنعمها عليه؟
من منا لم تؤلمه السياسة وتزرع في صدره سكاكين الحقد والعداوة والبغضاء؟ من منا لم يفقد أعزاء على قلبه يوماً بعد يوم كما يحسب بسبب اختلاف الرؤى السياسية، وصراع الأنا المتغلغل في هذا المجال؟
هل نحن مخلوقون لهذا الشقاء والعناء، أم مخلوقون للسلام والإخاء؟ لكم أتخيل أننا سنحمل قريباً قروناً ومخالب وأنياباً بسبب مانعيشه من المشاحنة و العداوة وقلة المداراة.
ومما أثار اشمئزازي من عالم السياسة، إدخالها العصبية الطائفية والعنصرية اللذين هما السلاح الأساسي في الصراعات البشرية وتجميع الأنصار التي يقول عنها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم “ذروها فإنها مذمومة”.
لقد أمرضتنا السياسة يا سادة، ولا مناص وهي تحاصرك في البيت والشارع والمدرسة والعمل.
ولا أخفيكم أن مما يبعدني عن الخوض في السياسة هو خوفي، فمن سلم مقاله من مقص الرقيب قد لا يسلم من أن يثير غيظ آخر لا يؤمن بالرأي والرأي الآخر وما أكثرهم. فلم نعد نعرف المساحة المتاحة للأصابع الخمس، وهي مساحة تضيق وتتسع وما أضيق الصدور في أوقات الأزمات.

آخر الوحي:
وأعدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحث عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كلها زبدا...
“محمود درويش”

الأربعاء، 6 يوليو 2011

هي فوضى!!







٦ يوليو ٢٠١١


مهما قالها وكررها المخرج المصري خالد يوسف، فلن أصدقه. فهو يقول انه لم يتنبأ بالثورة المصرية، فكيف بي وأنا شاهدتها منذ عام 2010 وربما قبل ذلك في فيلمه “هي فوضى”. هذا الفيلم الذي أخرجه مع أستاذه يوسف شاهين فكان من أفضل ما قدمه ولعله الأفضل على الإطلاق.
قصة الفيلم تدور في إحدى مناطق مصر، التي يحكمها أمين شرطة يدعى حاتم. وحاتم هذا يملك من السلطة على السكان الشيء الكثير رغم كونه فعلياً أكبر مجرم في المنطقة. فهو رغم ما يفترض بوظيفته من النزاهة والشرف إلا أنه متورط حتى أذنيه في الفساد والرشوة والمحسوبية. فهو يتناول وجباته في المطاعم مجاناً ويتنقل بسيارة الشرطة أو بالدراجة النارية اللتين تزيدانه امتيازاً على امتياز في إخضاع الرقاب وإذلال الناس.
الفيلم يريك في كل مشهد ما تتمتع به البزة الرسمية من قوة ونفوذ، وما تبسطه من انضباط على عامة الشعب وكل فئاته المطحونة في هذا الفيلم وفي واقع الأحياء المصرية. وكعادة خالد يوسف فسوف يريك مشاهد الأحياء الفقيرة أو العشوائيات، في تركيز شديد ومحرض لرفض هذا الواقع الأليم.
وأنت تشاهد بدايات الفيلم تحسب أن كل شيء في الدنيا مسخر لحاتم، وأنه لا أقوى من حاتم ولا أبطش منه ولا أدهى منه. إلا أن قلب هذا الفتى مشغوف بابنة الجيران المعلمة نور التي تبادله مشاعره الودودة المولعة بمشاعر احتقار وكره واستصغار.
حاول معها كل الوسائل لإقناعها بالزواج منه، فبين الأعمال السحرية تارة وبين حلقات الذكر الصوفية والصلاة في الكنيسة، لم يجد أي شيء يقربه منها. بل انه وضع باروكة مبتذلة لإخفاء صلعته الملساء.
ما يلبث الرجل أن يقتنع أن طريقا مسدودا مع هذه الفتاة فيلجأ لخطفها بمساعدة أحد (مسجونيه)، حيث تتمكن من الفرار منه لاحقاً وتلجأ لوكيل النيابة ابن مديرة مدرستها. في هذه الأثناء ومع انتشار قصة الاختطاف في الحي تخرج نساء الحي من بيوتهن مشكلين حلقة حول أم الفتاة ويقدن مظاهرة نحو قسم شرطة المنطقة.
ولكون حاتم لم يسلم من شره أحد، تخرج المنطقة عن بكرة أبيها نحو المخفر، صائحين بالويل والثبور وبالشعارات المناهضة للظلم. فلقد استفزتهم صرخات النساء وأشعلت حميةً يتمناها مخرجنا أن تستيقظ بعد طول سبات. حتى يتم اقتحام المركز وتفتيشه وتثبت التهمة بل التهم على حاتم فينتحر في آخر الفيلم ويمضي غير مأسوف عليه.
مشاهد قسم الشرطة تظهر المعذبين والمنسيين داخل الأقسام، وتريك الاستغلال البغيض داخل هذا العالم المنسي الذي تختفي فيه إنسانية الإنسان سواء كان نزيلاً أو رجل سلطة. فبين مشاهد التعذيب وبيئة السجن القاتلة والخالية من أي مقومات الحياة، إلى استغلال النزلاء في شتى أنواع الجرائم.
في الجانب الآخر يظهر الأمل عبر الرجل الآخر وكيل النيابة وغريم حاتم في كل شيء، في ود تلك الفتاة وفي بغضه للظلم وتصديه لما يخفيه قسم الشرطة من مصائب ما خفي منها كان أعظم.
أحياناً أفكر في الفيلم، وأحسب أنه يسيء لصورة رجل الأمن، إلا أنني أرجع وأقول ان الفيلم يركز على معالجة الجانب المظلم مع تركيز على الجانب المضيء لا يخفى على المشاهد. فلجنة التحقيق التي بدأها وكيل النيابة استطاعت أن تقضي على حاتم وأن تنصر المظلوم وتغيث الملهوف.
إن لكل سلطة أو نفوذ كوة قد يدخل منها سوء الاستخدام والظلم والتعسف وانتهاك حقوق الآخرين. إلا أنه حين تتوافر الرغبة في إحقاق الحق على أعلى المستويات فإن صنع الشفافية عبر الرقابة المستمرة أو اللجان المؤقتة وتكريس مفهوم أن أصحاب السلطات في خدمة الشعب سيكون من سبل ترشيد هذه السلطة وجعلها قوية في الحق فقط.
اليوم نجد بلادنا أمام فرصة ذهبية لمسح هذه الصورة المظلمة عن عموم أجهزة الأمن في العالم العربي، بإظهار أجزاء مهمة من الصورة الحقيقية، والكشف عن أي تجاوزات أو انتهاكات حصلت في الفترة الماضية.
تتمثل هذه الفرصة في اللجنة التي يترأسها السيد محمود بسيوني التي جاءت بإرادة ملكية شجاعة وغير مسبوقة وتكونت من شخصيات يشهد لها بالكفاءة والخبرة على أعلى المستويات العالمية. نتمنى من جميع ذوي الشأن التعاون مع هذه اللجنة ومساعدتها في رسم الصورة الحقيقية للحاصل في البحرين في الفترة الماضية، مما سيسهم مباشرة في صناعة صورة مستقبلية أفضل في جميع الأحوال. والله من وراء القصد.

آخر الوحي:
إذا قلتُ: ما بي يا بثينـة قـاتـلـي
من الوجـد، قالت: ثابت ويزيد

وإن قلتُ: ردّي بعض عقلي أعش به
مع الناس، قالت: ذاك منك بعيد

فمـا ذُكـر الخـلان إلا ذكـرتـهـا
ولا البخل إلا قلتُ: سوف تجود

إذا فكرَتْ قـالـت : قد أدركـت ودّه
وما ضرّني بخـلٌ ففيم أجـود