الأحد، 14 أغسطس 2011

الثقيل الثاني: الرقيب








١٤ أغسطس ٢٠١١


كنت قد كتبت في مقال سابق «حسد العواذل» عن شخصية ثقيلة هي شخصية العاذل وكيف تكون مؤذية للمحب بنهيه عن من يحب وما يحب. وشخصية أخرى ذكرناها هي شخصية الواشي، فهي عاذل المحبوب لا عاذل المحب. إلا أن العاذل والواشي لا ينفردان في شأن ثقلهما على المحب، فدون المحب ومحبوبه الثقيل الأكبر وهو الرقيب.
يقول ابن حزم الأندلسي في كتابه «طوق الحمامة» عن الرقيب وأحواله إن الرقيب يكون على أقسام. فأحد أقسام الرقباء «فأولهم مثقل بالجلوس غير متعمد في مكان اجتمع فيه المرء مع محبوبه وعزما على إظهار شيء من سرهما والبوح بوجدهما والانفراد بالحديث، ولقد يعرض للمحب من الفلق بهذه الصفة ما لا يعرض له مما هو أشد منها، وهذا وإن كان يزول سريعاً فهو عائق حال دون المراد وقطع متوفر الرجاء».
ويقول عن النوع الثاني «ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطرف وتوجس من مذهبهما شيئاً فهو يريد أن يستبري حقيقة ذلك فيدمن الجلوس ويطيل القعود ويتخفى بالحركات ويرمق الوجوه ويحصل الأنفاس وهذا أعدى من الحرب وإني لأعرف من هم أن يباطش رقيباً هذه صفته».
ثم يقول عن النوع الثالث «ثم رقيب على المحبوب فذلك لا حيلة فيه إلا بترضية وإذا أرضي فذلك غاية اللذة وهذا الرقيب هو الذي ذكرته الشعراء في أشعارها ولقد شاهدت من تلطف في استرضاء رقيب حتى صار الرقيب عليه رقيباً له و متغافلاً في وقت التغافل ودافعاً عنه وساعياً له.
ويذكر في أشنع الرقباء ما نقلته في مقالي السابق «وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهي به وطالت مدته فيه ثم عري عنه بعد إحكامه لمعانيه فكان راغباً في صيانة من رقب عليه. فتبارك الله أي رقيب يأتي منه وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته».
ولعل الفنانين والأدباء والكتاب كغيرهم من أهل الهوى يبتلون في ما يعشقون من الفن والأدب بالرقيب وثقل الرقيب وغيرة الرقيب وترصد الرقيب وحتى هذا يكون كما أرى أنا لا ما يرى ابن حزم على أقسام، فمن هؤلاء رقيب عليك لخوفه مما يؤذيك ويضرك فيكره لك كفنان أو كاتب من التعرض للسخط أو السقوط في الفشل أو الإسفاف، فذلك رقيب لك لا عليك، لكنه يخشى عليك أن تكسر أحد التابوهات المعروفة دون أن تلتفت لذلك.
وتارة يكون الرقيب غير متجرد عن رأيه فيحاكم النص الذي أمامه على أساس موافقته أو مخالفته لرأيه، فهذا كالدكتاتور بل أسوأ منه، فهو بحجبه للنصوص المخالفة لرأيه يخلق ساحة ثقافية تحمل رأيه و حسب، و يمسخ المثقف فيجعله يبدو للجمهور برجل عرجاء حين تكون نصوصه ومعالجاته سطحية ومتحاملة ومن زاوية واحدة. مثل هذا يكون وبالاً على الأدب والفن والثقافة.
ولعل محمود درويش دون أن يدري وصف حال المثقف المبتلى برقيب يحرمه حريته، بل يجعله جاهلاً بالمتاح من مساحتها، مشوه السمعة، أعرج الآراء أعور النقد، ثم لا يدري متى يأخذه على حين غرة، فيقول:
وأعدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحث عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كلها زبدا...
آخر الوحي:
رقيب طالما عرف الغراما*** وقاسى الوجد وامتنع المناما
ولاقى في الهوى ألما أليما*** وكاد الحب يورده الحماما
وأتقن حلية الصب المعنى*** ولم يضع الإشارة والكلاما
وأعقبه التسلي بعد هذا*** وصار يرى الهوى عاراً وذاما
وصير دون من أهوى رقيباً*** ليبعد عنه صباً مستهاماً
فأي بلية صبت علينا*** وأي مصيبة حلت لماما

ابن حزم الأندلسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق