٢٤ أغسطس ٢٠١١
تقدم سالم لخطبة مسعدة، كان عريساً كفئا خلقاً وديناً واقتداراً مادياً. إلا أن هذا لا يكفي، فلا بد من موافقة أهل البنت، بما فيهم ابن عمها “عتريس”.
في مجتمع الصعيد المصري كما في عموم المجتمعات العشائرية، التي منها العراق أيضاً، تتركز عادات وتقاليد ضاربة في العمق ومتجذرة ليس في ممارسات الشعوب وحسب إنما كذلك في نفسياتها. فحتى لو تجاوز المجتمع هذه التقاليد تطبيقاً، إلا أن الأفراد يشعرون دوماً بالتقصير والانقياد تجاه هذه التقاليد.
ومن ضمن هذه العادات الراسخة والمتجذرة، العادات الكثيرة المرتبطة بالزواج ومنها أن البنت لابن عمها، إن شاء تزوجها، أو رضي بأن تتزوج غيره، فله الأمر في ذلك. لذا، حين يخطب الفتاة خاطب، فعلى أبيها أن يتأكد من خلو قلب ابن العم منها وعدم رغبته لخطبتها قبل أن ينظر في أمر هذا الخاطب.
مثال ذلك قبائل أولاد علي في صعيد مصر، فهؤلاء من المتعارف عندهم أن الفتاة يتقدم للزواج منها ابن عمها أو ابن خالها وإذا لم يتقدم لها الاثنان تحصل على البراءة من القبيلة ويحق لها الزواج من خارج القبيلة التي تنتمي إليها. طبعاً هذه عادات باطلة، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا أعلم إن كان استمرارها قوياً كالسابق أم لا.
أما في العراق فيزيد الأمر في بعض العشائر على ذلك. إذ يحق لابن العم أن يوقف حال الفتاة إذا رفض طلبه للزواج منها. يتصدى ابن العم بالوعيد لعمه وللعريس القادم ويعتبر موقفه في ذلك سليماً بحسب العادات العشائرية عندهم، وتسمى عادة الوقف هذه “النهوة العشائرية”.
وفي نفس هذا السياق، لم يكن “عتريس” طامحاً بالزواج من مسعدة، ولكنه قرر استغلال موضوع النهوة لابتزاز الفتاة وأهلها بأي وسيلة. كلمه والدها في الأمر، وقال له، أنت أولى من الغريب، إن أردتها فهي لك. تعذر عتريس عن الزواج منها وقال لا رغبة لي فيها، ولكن لا يمكنها أن تتزوج أحداً غيري، خاصة إذا كان من نفس العشيرة، أما إذا كان من خارج العشيرة فممكن أن أوافق.
توافق؟ ولكن على نفس القياس أبناء عشيرتها أحق من غيرهم كما أنت أحق من غيرك، هنا صاح عتريس أنه ليس لها كفؤ في العشيرة غيره، ولن يسمح بأي زيجة أخرى إلا من خارج العشيرة.
رغم أن القانون لا يسمح له بذلك، إلا أنه في المجتمع العشائري هناك قانون خاص، محكوم بالقوة والغلبة والترهيب، وهو ذاته قانون الغاب.
لا أعتقد أنه يخفى عليكم أن هذا هو نفسه حال من يحجر لنفسه حق اتخاذ القرارات أو حمل الآراء ويمنع غيره منها. ولا يهم إن كان ذلك يتعارض مع مبادئه المعلنة في بحثه عن التعددية ودعمه لحرية الرأي والمعتقد. لأنه على طاولة المصالح الفئوية الضيقة، تكون كل هذه المبادئ من قبيل الاستهلاك الإعلامي. كابن العشائر المعروف بالشهامة والمتشدق بها إلا أنه يعجز أن يكون إلا نذلاً مع ابنة عمه.
ليس في قبيل الآراء المعلنة فقط، ولكن هناك المواقف التاريخية المسبقة التي تلزمه لا نقول أخلاقياً ولكن من باب المتعارف على الأقل، فلا يكون أمرهم كنسيء الشهور، يحلونه عاماً ويحرمونه آخر.
حين يسمح الحر الديمقراطي الشريف المنادي بالعدل والمساواة لنفسه بالانزلاق في تخوين الآخرين لمجرد اختلاف في الرأي، فاعرف أن دعواه باطلة، وأنه مجرد صاحب غرض، فلو كان صادقاً لاتسقت ممارساته الحالية مع ما يعلن من المبادئ وما يسبق من ممارساته.
من اللطيف أن سالما ومسعدة لم يتزوجا، ولم يحصل عتريس على مبتغاه من هذا الابتزاز، فقط لأن ابن العم الحر الشريف هتف “زواج سالم من مسعدة باطل”.
آخر الوحي:
فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّي مَالِكـاً
مَتَـى أَدْنُ مِنْهُ يَنْـأَ عَنِّي ويَبْعُـدِ
يَلُـوْمُ وَمَا أَدْرِي عَلامَ يَلُوْمُنِـي
كَمَا لامَنِي فِي الحَيِّ قُرْطُ بْنُ مَعْبَدِ
وأَيْأَ سَنِـي مِنْ كُـلِّ خَيْرٍ طَلَبْتُـهُ
كَـأَنَّا وَضَعْنَاهُ إِلَى رَمْسِ مُلْحَـدِ
عَلَى غَيْـرِ شَيْءٍ قُلْتُهُ غَيْرَ أَنَّنِـي
نَشَدْتُ فَلَمْ أَغْفِلْ حَمَوْلَةَ مَعْبَـدِ
طرفة بن العبد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق