الأحد، 25 ديسمبر 2011

السحلية









الأحد 25 ديسمبر 2011

لسنوات متواصلة، كان في خطبة الجمعة يتكرر ذلك الحديث الذي يدعو إلى عدم الاغترار بالمظاهر الكاذبة و التقوى الزائفة، و أن الرجل يحسن سمته و يطيل صلاته فتحسبه نعم الرجل، فاختبره في المال و النساء و حب خفق النعال و الصيت و الشهرة، فإن سلم منهن فقل عنه نعم الرجل. و كنت أتخيل الحديث يتكلم عن نوع معين من الملتزمين المتمظهرين  بالالتزام، إلا أنني لم استطع تصوره كما بعد مشاهدة ذلك الفيلم الفارسي المترجم و الذي يحمل عنوان “السحلية”.
هذا الفيلم يتكلم عن لص اشتهر بمهارته في تسلقه للمنازل حتى سمي بالسحلية، و لكن بداية هذا الفيلم تعرض القبض على هذا اللص المخادع و إيداعه السجن. و بسرعة يتمارض هذا السجين فيرسل إلى المستشفى. و من محاسن الصدف أن يكون زميله في الغرفة عالم دين يعظه ببعض المواعظ لعله يهتدي من ضلاله القديم. إلا أن بطلنا الزاحف ما أسرع ما يقتنص فرصة دخول الشيخ للحمام ليغتسل، فيبادر بسرقة ثيابه و ارتدائها و وضع نظارة سوداء تخفي هيئته الإجرامية، فيفر من المستشفى لا يلوي على شيء.
و تأخذه غريزة الخطر و حب البقاء و خبرته كمجرم إلى محطة القطار فيستقل الرحلة المتجهة إلى أبعد قرية حدودية، ليبتعد عن الأنظار و المطاردين. و حين تحط قدماه في تلك القرية، يستقبله أهاليها البسطاء بالتهليل و الترحيب، فهم منذ سنين يطالبون الدولة بإرسال إمام جماعة يعينهم في شؤون دينهم، و ما أخطر تعطش الناس للدين حين يختبئ تحت العباءة لص، المشاهد وحده يعلم بحقيقة هذا اللص، و لا يعلم بحقيقة اللص خارج الفيلم إلا الله عز و جل.
وربما كان من سوء حظ السحلية أن رفع أذان الظهر عند استقبال الناس له، فطالبوه بأن يكون إمامهم للصلاة. الرجل لا يعرف الصلاة فضلاً عن الإمامة، إلا أنه تحت وطأة الضغط تقدمهم و كبر و عينه تنظر للخلف لترى كيف يتصرف الجمهور ليتصرف بما يناسبه، كان يكبر ثم ينظر فإذا ركعوا ركع أمامهم و إذا سجدوا سجد بعدهم، حتى فرغ من صلاته. هنا طالبه الناس بخطبة يعظهم فيها و حاول التعذر، إلا أن شوقهم لكلامه  و ضغطهم عليه و خوفه من افتضاح جهله جعلاه يرقى منبراً ليس أهلا له، فصعد ثم تذكر بعض ما سمعه من الشيخ في المستشفى من أن طرق التقرب لله كثيرة كعدد خلقه، فأعادها على مسامعهم و طلب منهم التأمل فيها ثم ختم خطبته.
ليلاً خرج من داره في ثيابه الإفرنجية و ذهب يبحث عن منزل زميل له يحترف تزوير الأوراق الرسمية ليعينه في الهرب من البلاد، فكان أن اثنين من بسطاء معجبي شخصيته الدينية كانا يراقبانه يجول بين المنازل بحقيبة كبيرة، فظنا أنه يتنكر ليلاً لتوزيع الصدقات. انتشرت هذه الإشاعة فقرر أهل القرية جميعهم المشاركة في أعمال البر.
وهكذا كان كل ما يقوم به الرجل يفسر بطيبة الناس تديناً و يدفعهم إلى مزيد من الإلتزام، و ربما يصلح في نفس هذا اللص شيئاً.
ربما كانت ميزة هذا اللص أنه كان صامتاً و منقاداً لأناس كانوا يريدون الخير و يبحثون عن القدوة الصالحة. ترى هل لو كان هذا اللص رجل دين حقيقياً، يأمر الناس بما ترفضه أنفسهم من مر الحق، و ينهاهم عما يهوونه من الباطل، أتراهم كانوا أحبوه؟ لو فعلوه في حينه، لكان أمراً عجباً يخالف طبيعة البشر، الذين ينقادون لأدعياء العلم و يرفضون نصيحة الناصح، فيضطر إمامهم أن يكون مأموماً في كل شئ عدا الصلاة.

آخر الوحي:

أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه            حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا      وحب الشجاع الحرب أورده الحربا
و يختلف الرزقان و الفعل واحدٌ       إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا

أبو الطيب المتنبي

الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

خليجنا واحد






الأربعاء ٢١ ديسمبر ٢٠١١


في تغريدة لي قبل أيام على التويتر، قلت أن مشروع الوحدة الخليجية يحتاج إلى خطوات رصينة من القيادة ليتحقق. و حين أتكلم عن خطوات رصينة، فإنني أؤكد على ضرورة وجود تكامل في الموارد و القدرات الإقتصادية و العلمية و الإجتماعية و السياسية. إذ أنه على الرغم مما قد يكون في تقديرنا أن الخطر الإستراتيجي و العسكري كبير على دول المنطقة، إلا أن تحديات التنمية و تطوير نماذج المشاركة السياسية لا تقل خطورة عنه. ذلك أن قصور فهمنا للمتغيرات في الخارج و العجز عن مواكبتها أثبت أنه موجود كقصورنا عن فهم المتغيرات في الداخل، من حيث طموح الشعوب في زيادة مستوى المشاركة السياسية و إيصال أصواتها في تقويم عيوب التنمية في دولنا.
 لقد بدا واضحاً من خلال الربيع العربي أو الفوضى الخلاقة، أن دول العالم العربي و الإسلامي في أغلبها ليست بعيدة عن مهب رياح التغيير، و أنها لا تقف اليوم على أرضية صلبة من حيث رسوخ أنظمتها السياسية، مما سبب مطالب التغيير و الإصلاح التي هبت على دول المغرب و المشرق العربي و الحبل على الجرار.
 و لو تساءلنا عن كم التحديات التي تواجه دولنا العربية لوجدنا الأمن الغذائي و شح المياه و شح الثروة الحيوانية، من ناحية أخرى سنجد تأخراً في إيجاد الطاقات البديلة رغم اعتمادنا في التصنيع على الواردات من دول الشرق و الغرب. و في التنمية الإنسانية سنجد تأخراً في تصنيف جامعاتنا و معدلات مرتفعة من البطالة و دولاً تحت خط الفقر و انخفاض معدلات الدخل في أغلب الدول العربية متواكبة عن مشاكل إسكانية مزمنة. و في النموذج السياسي تغيب المشاركة السياسية الفعالة عن أكثر الدول العربية، و من حيث الشفافية تحتل دولنا مراكز متدنية و تتصدر مراكز متقدمة في الفساد الإداري و المالي.
 واقعٌ صعب، لن يغيره مجرد خطوة إعلان الوحدة الخليجية رغم ترحيبنا الكبير بها. إلا أن هذا الواقع الصعب يفرض علينا أن نعيد النظر فيما عجز عنه مجلس التعاون الخليجي في 30 سنة من إيجاد سوق مشتركة و عملة موحدة و تكامل اقتصادي يحقق أقصى استفادة من الموارد المتوفرة لكل دولة من دولنا.
 وفي مقالٍ مرت عليه سنة بالتمام و الكمال بعنوان “والله حالة” قلت بالحرف الواحد:
“إن توازن القوى في المنطقة يلزمه سياسة خارجية منسقة ومنسجمة، وتقارب ومصارحة بين دول المنطقة يتناسب مع التقارب الجغرافي والفكري والديني. وإنه سواء على مقياس المواطنة أو العروبة أو الدين التي أدعي أنها لا تختلف في ضرورة أن نواجه العالم الخارجي بجبهة موحدة خلف قيادة وطنية ومشروع وحدة إسلامية وعربية مع حفظ حقوق الشعوب والدول من دون تعد على سيادة أي دولة”. اليوم أصبح هذا الكلام في سياقه لنواجه العالم الخارجي بجبهة موحدة و نواة مشروع وحدة عربية، لكنني أكرر على ضرورة قراءة التحديات بصورة صحيحة نحسن فيها التعامل مع كل معطياتنا لتخرج الدول في إتحادها بأقصى الفوائد التي تعود على شعوبها و على الأمتين العربية و الإسلامية.
 يبقى أن أشير إلى أن ما أعلن من توجه لتفعيل اتحاد خليجي لم يكن أمراً مستغرباً ولا خارجاً عن طموحات و تطلعات شعوب المنطقة، حيث يتكلم فصل كامل من ميثاق العمل الوطني عن العلاقات الخليجية، تتوضح منه نظرة البحرينيين قيادة و حكومة و شعباً للمستوى المأمول للعلاقات الخليجية. و أذكر من الفصل السادس “العلاقات الخليجية” هذا النص:
 “وسوف تواصل دولة البحرين مع شقيقاتها الدول الأعضاء في المجلس العمل لتحقيق المزيد من التنسيق و التقارب و التكامل في كيان المجلس خاصة في المجالات التي مازالت تتطلب تنسيقاً أكثر فعالية كالتكامل الإقتصادي و التعاون الدفاعي و التنسيق الإعلامي، هذا بالإضافة إلى الإهتمام بتطوير هيئة المشاركة الشعبية ضمن مؤسسات المجلس”
تتكلم هذه الفقرة بوضوح عن المجالات التي ينبغي زيادة التنسيق فيها، مما لا يترك مجالاً للشرح سواء تطلعات تنمية المشاركة الشعبية أو المجال الإقتصادي و الدفاعي الخارجي أو الإعلامي.
 نتمنى أن تكون هذه الخطوة التي تثلج الصدر بداية للتعرف على مشاكلنا و حلها، لأن التكاتف حين يكون بنية صادقة و بعزمة قوية و قلوب متصافية يمكنه أن يحل الكثير من مشاكلنا. والله من وراء القصد.

آخر الوحي:

أفتيان الخليج ولا خيارٌ
وإن زعم الدعاةُ ولا محيـدُ
و ليس هناك إلا من يطاطي
إلى المستعمرين و من يـذودُ
وما لضياعنا أملٌ يُرجّـى
سوى أن يُجمعَ الشملُ البديـدُ
فيالك أمةً قُسمت ثلاثاً
وعشريناً وتسألُ هل مزيـدُ ؟

محمد مهدي الجواهري

الأحد، 18 ديسمبر 2011

الضوء الأحمر







الأحد ١٨ ديسمبر ٢٠١١


في فيلمه المعبر (التجربة) يقدم لنا المخرج باول شورينج تجربة نفسية فريدة حول نشأة السلوك الإنتهاكي عند رجل القانون و مراحل تطوره مقروناً بالأسباب و الظروف. يدور الفيلم حول مجموعة من الأشخاص يتقدمون للإشتراك في تجربة بحثية يحصل المشاركون فيها على مكافأة مجزية في حال نجاحها. يتقدم هؤلاء و آخرون لسلسلة من المقابلات التي يجيبون فيها على الكثير من الأسئلة التي تستقصي طبيعتهم النفسية و مدى ملاءمتهم للإشتراك في التجربة.
يتم اختيار 26 رجلاً للتجربة التي تستغرق 14 يوماً في ظروف مشابهة لظروف السجن و يتم توزيع الأدوار بين المجموعة يكون بعضهم فيها سجانين و البقية سجناء. يلتزم الجميع بمجموعة من القواعد من ضمنها تنفيذ أوامر قائد السجن، النوم في وقت محدد، تناول وجبة الطعام المقدمة بالكامل مهما كانت سيئة، عدم التعدي على السلامة الجسدية لبعضهم البعض، و فيما تخضع جميع الغرف للمراقبة بالكاميرات، فإن ضوءاً أحمر معلقاً في الأسقف يضئ في حالة تجاوز القوانين معلناً انتهاء التجربة و خسارة كل المشاركين.
من ضمن قواعد السجن أن كل إساءة أو أذى يبدر من السجناء نحو سجانيهم يجب أن لا يمر دون عقوبة تأديبية. و رغم كون العلاقة الودية في البداية فإن إصابة أحد السجناء لسجانه عرضياً بالكرة تدمي شفتيه، و رغم علم الجميع أن الإصابة غير مقصودة فإن خوف السجان من الضوء الأحمر يجعله يعاقب السجين المسن بالقيام ببعض التمارين.
و مع تطور الأحداث و قيام بوادر تمرد من السجناء، يبدأ السجانون في تجربة أنواع العقوبات المذلة من تبول على السجين، و غمس لوجهه في المرحاض و حلاقة لشعره، ثم تصل إلى الأذى الجسدي المباشر. حين تخف وطأة خوف السجان من الضوء الأحمر الذي يبدو أنه ليس بالحساسية المتوقعة، و مع تضخم الأنا للمجموعة المكلفة بالعملية، تبدأ النزعات الشخصية و العقد النفسية في إظهار آثارها على السلوك الفردي و الجماعي للسجانين.
يتحول مع الوقت هؤلاء السجانين لوحوش آدمية يصنعها مزيج من غياب الضوء الأحمر و الإستمتاع بغياب سلطة أي قانون داخل هذه المنشأة عليهم، فينسون خلال أقل من أسبوع أي صداقة سابقة أو رحمة موجودة في نفوسهم. خصوصاً و أن القواعد تحرم عليهم الإشارة لاي سجين بإسمه و إنما مناداته برقم زنزانته. و لا شك أن الإنسان حين يصير رقماً أو مادة لسلطة ما يكون فيها محروماً من حقوقه الأساسية، فإنه ليس أكثر من عبء على سجانه، و مصدراً للمشكلات لا يجوز حتى التعاطف معه في نفسية ذلك العبد المأمور.
وبعيداً عن النهاية التي تحكي حصول تمرد جارف داخل المنشأة ينهي التجربة بعنف شديد، فإن هناك نماذج لم تستطع نسيان آدميتها و حاولت أن تحافظ عليها حتى اليوم الأخير من التجربة. في التجربة لم يكن الإنتهاك سياسة ممنهجة من خارج السجن بل نشأت داخله بسبب القواعد غير الإنسانية و غياب الإشراف و إختيار شخصيات تحمل في داخلها كرهاً لنفسها و لمجتمعها. لكن السلطات بعيد انتهاء التجربة لم تحاسب أي فرد من المجموعة بل ألقت باللائمة على صاحب الكاميرات و الضوء الأحمر، و هو الشخص المسئول عن غياب الإشراف اللازم.
في أفلام سابقة عرضت الظروف داخل السجن لم أتمكن من الحصول على نفس الفهم، إلا ان هذا الفيلم بطبيعته التجريبية كان قادراً على تصوير التحولات النفسية و السلوكية بشكل تدرجي مشوق و مثير للإهتمام و كأنك مشارك في إلإشراف على التجربة.

آخر الوحي:
كفانا..
نحملق في بعضنا في غباء
ونحكي عن الصدق والأصدقاء
ونزعم أن السماء..
تجنت علينا..
ونحن بكلتا يدينا
دفنا الوفاء
وبعنا ضمائرنا للشتاء..
نزار قباني

الأحد، 11 ديسمبر 2011

النذير العريان





الأحد ١١ ديسمبر ٢٠١١


في حديث لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه  وآله و سلم، يقول “أنا النذير العريان” والنذير العريان بحسب ما يذكر تراث العرب هو ذلك الرجل الذي يقف في أعلى الجبل أو الهضبة ليراقب حدود المدينة ثم ينذر قومه بالخطر المحدق بهم في حينه. و حيث أنه يكون بعيداً فلا يمكن سماع صوته فإنه يخلع قميصه أو ثوبه و يلوح به للناس. بهذه الطريقة يمكن رؤية إشارة هذا الرجل و التي هي أبلغ ما تكون في وضوحها للناظر بسبب التلويح بالثياب، و أبلغ في معناها بسبب كون الرجل غير عابئ بأن يعرى ليبلغ قومه بالعاجل من الخطر المقبل.
و في عمل مرئي تم تصويره لتوثيق أمثال الحديث النبوي، تم إيصال فكرة النذير العريان بطريقة مختلفة، حيث جاء النذير يعدو فأبلغ الناس بفحوى كلامه ثم خلع قميصه و قال: لقد رأيت الجيش بأم عيني، و إني أنا النذير العريان.
و خلاصة هاتين الصورتين، أن من استمع لكلام الرجل نظر إلى ما فعله لا جنوناً و لا مجوناً و لا خروجاً عن الأدب، و إنما نظر إليه كدليل على مدى جديته في التبليغ بخطورة ما يحصل.
إلا أن ذلك العمل المرئي يسرد بقية الحديث في أن هناك قوماً استمعوا للكلام فعجلوا بالإستجابة لفحواه، فاستطاعوا تجنب الخطر القادم، و أناس سخروا و تجاهلوا فكان أن ظفر بهم من كانوا قادمين من وراء الجبل لغزوهم و سبيهم.
بالأمس القريب خرج علينا تقرير بسيوني حاملاً معه كثيراً من التفاصيل التي تحتاج إلى التعاطي الجدي، لأن ما أظهره التقرير من حقائق لا ينبغي إغفالها بعد أن أثبتت ووثقت لأن الإهمال في التصحيح سيكون عاقبته تعمق شرخ الثقة الذي قلنا من قبل أن جلالة الملك قد وضع يده على الوتر الحساس حين تكلم بصراحة تامة عن وجود مشكلة ثقة كان علاجها في تشكيل لجنة تقصي حقائق.
اليوم حين لا يتم عاجلاً تنفيذ التوصيات التي تمنع حدوث التجاوزات و الإنتهاكات مستقبلاً فإن تقرير اللجنة سيكون ضد البحرين و ضد اللحمة و المصالحة و الإستقرار، شأنه في ذلك شأن بعض تقارير الأجهزة الرقابية التي لم تفعل توصياتها بصورة مناسبة في الأعوام السابقة.
و بعيداً عن موضوع تقرير بسيوني، فإن من الطبيعي أن نجد في هذه الأيام أقلاماً و أصواتاً تدعو للفرقة، ذلك لأن التأزيم هو ما يمكن هذه الأصوات من الظهور و هي التي تختفي بعودة المجتمع إلى التقارب و الإنسجام. بعض هذه الأقلام قد عملت جاهدة لتشويه صورة كل من حاول إيصال الحقيقة حول هذه الإنتهاكات للقيادة، و كان أن بعضهم قد استقالوا أو لوحوا بالإستقالة من مناصبهم لتوضيح خطورة ما كان يحصل، فكان أن تعرضوا للتخوين و تم الإنتقاص من وطنيتهم، و كأن الوطنية تعني فقط سيادة القانون و لا تعني سيادة حقوق الإنسان و كرامة الوطن عبر كرامة مواطنيه و حمايتهم من أي انتهاك أو مساس بسلامتهم و أمنهم سواء كان ذلك من طرف الجهات أو الأشخاص أو من التصرفات الشخصية. هؤلاء كانوا النذير العريان يومها، لا لأنهم يريدون الفرقة، ولكن لأنهم يرون المصالحة و الحوار و الرفق حلاً لمشاكل الوطن.
و من نفس الزاوية، يثمن البحرينيون عالياً موقفين لسمو ولي العهد أولهما عند ظهوره المفاجئ على الشاشة و دعوته للتهدئة و الحوار في بداية الأزمة في فبراير، و ثانيهما في الأسبوع الماضي عند تدخله لمنع حدوث الخلافات في المحرق العزيزة. و فيما لا أشك أن مواقف النصيحة المخلصة الصادقة و الداعية للوحدة و نبذ الفرقة لم ولن ترضي دعاة التشدد و التأزيم، فإنني كذلك لا أشك أن الغالب في نفوس أهل هذا البلد مثل قيادته من حب الخير سيعيد لنا البحرين التي عرفناها دوماً في التآلف و المودة و الرفق بلا ضعف ودون تضييع لحق أحد.

آخر الوحي:
أفتيان الخليج وكل زرعٍ وبئٍ
سوف يلفظه الحصيدُ
وسوف يرفُ بعد اليوم ظلٌ
على جمراتِ هاجرةٍ مديدُ
سيُبدل من صدى نغمٍ شقيٍ
بأنغام المنى وترٌ سعيدُ
فإن تك أطبقتْ جُدرُ الليالي
فسوف يُشقُ من فجرٍ عمودُ

محمد مهدي الجواهري

الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

عثر الدهر






الأربعاء ٧ ديسمبر ٢٠١١



إحياء ذكرى فاجعة الطف بمقتل سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ليست مبالغة ولا إفراطاً في الحزن كما قد يتبادر إلى أذهان بعض أهل هذا الجيل. هذا الرعيل الذي يرى تقادم الأيام على الحوادث، يغفل عن أن يرى هذه الأحداث في سياقها و تسلسلها، و كيف شكلت انتكاسة في تاريخ الإسلام و موقف نظام الحكم بعد الإسلام مع علم من أعلام أهل بيت النبوة.

فلو عاد المرء بالذاكرة ما بين عامي ٦١ للهجرة إلى أن يصل إلى العام العاشر أو التاسع للهجرة، فسيجد الإمام الحسين في حجر رسول الله صلى الله عليه و آله يشمه و يقبله، و سيسمع عنه مدحاً لا كمدح الجد للحفيد و التحبب إليه، إذا كنا نسلم أن نبي الرحمة لا ينطق عن الهوى بل يبلغ ما يوحى إليه من رب العزة. سنسمع صفة سيد شباب أهل الجنة، و هو مقام يستدعي التوقف و يسترعي الإنتباه، و قد أشرنا إليه في مقال سابق. هذا المقام له مقتضيات و تترتب عليه عدة أمور، و لكن بالتأكيد هو مقام يدل على الفضل. و حيث أن الفضل عند الله لا يكون بالوراثة، فنحن في هذه الحالة أمام أحد أفضل أهل الأرض قاطبة في العمل، و يشمل ذلك المؤمنين من الأولين و الآخرين، لأن الجنة منتهى كل أهل رضوان الله من الأولين و الآخرين و من جميع الملل.
 هذا من حيث عظمة صاحب القضية التي نتكلم عنها، فلو أضفنا إلى كونه أفضل أهل دولة الإسلام جميعاً، و ربطنا ذلك بمقتله على يد جيوش هذه الدولة. حقيقة هو حادث يجعل الحليم حيران، فليس من المعقول أن تفعل أي دولة في التاريخ ذلك، ربما تكرمه و تقربه، تحاول احتواءه إن كان رأس الدولة على اختلاف معه، و لكن أن يكون ما كان فهو أمر يقتضي وجود مشاعر ثأر يعمي عن حقائق الأمور ثم يجب أن يكون كل من أمر و باشر و هيأ لهذا الأمر بمجمله و تفاصيله على طريقة أخرى لا تعرف مقام الحسين في السماء ولا الأرض.
 أما حين نتكلم عن مقام قرب الحسين للنبي و محبته له، فإنه ما جرت مصيبة على قرابة النبي تستحق كل الحزن و الأسى و تستحضر فشل الأمة في أداء حق المودة في القربى للنبي كما حصل في مقتل الإمام الحسين و التمثيل به و سبي نسائه. فلذا كان الحزن لهذه الأمور مواساة لحزن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الذي بكى في أكثر من موقف لعلمه بما سيجري على ولده الحسين.
يشهد بكل هذا الكلام، ما كان يقابل به الإمام الحسين في زمن الخلفاء واحداً فواحد من احترام و معرفة بقدره عليه السلام، بل استمر الوضع في ذلك إلى أيام معاوية.
 فلمثل الحسين و لمثل ما جرى على الحسين و لمثل من في شرف الحسين و فضله و مقامه من رسول الله فليبك الباكون و ليندب النادبون.
السلام على الحسين و على علي بن الحسين و على أولاد الحسين و على أصحاب الحسين.

آخر الوحي:

 عثر الدهر ويرجو أن يقالا تربت كفك من راج محالا
اي عذر لك في عاصفة نسفتَ من لكَ قد كانوا الجبالا
فتراجع وتنصّلِ ندماً أو تخادع واطلبِ المكرَ احتيالا
أنزوعاً بعد ما جئت بها تنزع الاكباد بالوجد اشتعالا
قتلت عُذرك إذ أنزلَتها بالذرى من هاشم تدعو نِزالا
فرّغِ الكفَّ فلا أدرى لِمن في جفير الغدر تستبقي النبالا

السيد حيدر الحلي

الأحد، 4 ديسمبر 2011

سيد الشباب





معضلة كبرى تلك التي تواجهك حين تهم بعمل أي شيء يرتبط بالإمام الحسين، حتى على مستوى كتابة أبيات من الشعر أو صياغة مقال أو إعداد كلمة تلقى. ليس لعجزك عن الكتابة أو كونك مبتدئاً أو لقلة ما يمكن كتابته، و لكن لعظم الشخصية التي تضعها أمام ضوء ريشتك لترسم أو بجوار أذنك لتسمع ما قاله التاريخ فيها.
و يأخذك الخيال حينها و تتخيل دهاليز المدينة و طرقاتها و هو يحث السير لمقابلة واليها الذي يدعوه للبيعة ليزيد بن معاوية. الرجل سيد شباب أهل الجنة، فإذا كنا منتبهين لما تخطه كتب السيرة عنه، نجد أن من الأولى أن يكون هو داعياً لبيعة أحد ما. نصدم صدمة أخرى حين نجد أن بيعته مطلوبة تحت حد السيف، يبايع أو يقتل. حتماً هنالك شئ خطأ، و بدون أن نعرف شيئاً عن سيرة يزيد أو عن أسماء و أخلاق ولاته، فإن دعوة سيد شباب أهل الجنة للبيعة تحت حد السيف يبعث بالتساؤل حول سبب الرغبة في إكراهه على البيعة، و لماذا يفترض الوالي أو مولاه أن الحسين لن يبايع إلا تحت التهديد.
و يقرر السبط أن يحيل حجته إلى عمرة و يغادر الحجاز أرض الحرمين، و لكن قبيل ذلك، يدعو الناس للخروج معه، و يعظم من عجبهم و عجبنا بقوله أن من خرج معه استشهد، و من لم يخرج لم يدرك الفتح. بان جلياً أن الإمام ينعى نفسه حتى قبل أن يخرج، و كأن كل التحليلات تقول أنه مقتول في جميع الأحوال. بل حتى أن من علل خروجه أنه يريد أن يجنب مكة أن تهتك حرمتها بقتله فيها.
و يخرج حتى تحط الرحال به في كربلاء بعد أن أكره على تغيير طريقه المتجه إلى الكوفة و منع من العودة إلى المدينة لما أراد ذلك، حتى أحاطت بخيامه جيوش يصل عددها إلى ثلاثين ألف أو سبعين ألف بين فارس و راجل.
في الليلة الأخيرة يضرب على أسماعنا بكلمة لها أثر الزلزال في نفس كل من تسول له نفسه أن يدعي أن الحسين خارج طلباً للحكم. فهاهو يعفي رجاله و أصحابه من المكوث معه و يشير عليهم بتركه و الإنسحاب في جنح الظلام. و يعلل لهم ذلك بعلمه أن القوم إنما يريدونه هو لا غيره، و كأنه لا يجد مبرراً لإهراق ملئ محجمة دماً دون حاجة. و قرر التاريخ ليلتها أن أصحابه كانوا أيضاً من الطراز الأول في النبل و الفداء حين رفضوا عرضاً كهذا يحفظ لهم حياتهم دون تثريب دنيوي ولا أخروي.
في يومه الأخير، طلب من أعدائه أن يخلوا بينه و بين الرجوع إلى حرم جده في المدينة، أو أن يتركوه ليتوجه إلى ثغر من الثغور يكون فيه مرابطاً، إلى غير ذلك من الخيارات التي ألقت الحجة على القوم في أنهم يريدون قتله بكل الأحوال، و أعيد التذكير مرة أخرى أنه سيد شباب أهل الجنة، و بمعنى آخر فليس على الأرض يومها من هو خير منه. إذ لو كان هناك خير منه ليكون سيداً لدار الفناء، فهو أجدر منه أيضاً بسيادة دار البقاء.
سجل التاريخ أن القوم منعوا بكل وسيلة أن يحصل الحسين على أي قطرة من الماء، فظل بأبي و أمي ظامئاً في الأيام الثلاثة الأخيرة من حياته، و سجل أن رأسه قد قطع، و سجل أن جسمه سحق بعدها تحت حوافر الخيل، و سبيت نساؤه، و سلب حتى من الثياب، و ترك جسمه في العراء دون دفن.
لقد كان مقتله مصيبة على الأمة في أخلاقها و مبادئها، سواء في مجمله أو بتفاصيله، لدرجة أن هناك من تدفعه الصدمة إلى القول بأن ذلك الفعل اجتهاد شخصي من عبيدالله بن زياد و البعض يتهم به قاتله المباشر شمر بن ذي الجوشن، و البعض يستنكر خروج الحسين من المدينة ليعفي نفسه من علامة الإستفهام الكبيرة التي خلفها مقتله عليه السلام. و الواقع و التاريخ يقولان أن هذه الأمة قد كان منها ما كان من سابقها من الأمم كما أخبر بذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم حيث يروى عنه أنه قال “لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر , وذراعاً بذراع , وباعاً بباع , حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم” . و لا يخفى على أحد أن قتل الأنبياء و أولاد الأنبياء هو مما حصل في الأمم السابقة و لا بد من مثيله في أمتنا.
سيدي يا سيد شباب أهل الجنة، يا سيد أهل البيت في زمانك، يا أفضل صحابي في زمانك، يا ابن بنت رسول الله، لو كانت مصيبتنا تنحصر فيما دون قتلك و التمثيل بك و سبي عيالك و تقتصر على معاداتك و إخراجك بالتهديد من حرم جدك لكان هذا كافياً لأمتنا أن تستذكر أبد الدهر هذا اليوم بكل الحزن و الأسى لما وصلت إليه من انحدار و عصيان لتعاليم و وصايا جدك خاتم المرسلين، ولجرأتها على مقام سيد الخلق و انتهاك حرمة أهل بيته.

آخر الوحي:
 مثل ابن فاطمة يبيت مشردا ... ويزيد فـي لذاتــه متنعم
يرقى منابر أحمد متأمراً ... في المسلمين و ليس ينكر مسلم
ويضيق الدنيا على ابن محمد ... حتى تقاذفه الفضاء الأعظم
خرج الحسين من المدينة خائفا ... كخروج مـوسى خائفا يتكتم
وقد انجلى عن مكة وهو ابنها ... وبه تشرفت الحطيم و زمزم (بتصرف عن المنشور في الصحيفة)
السيد جعفر الحلي