الأحد 25 ديسمبر 2011
لسنوات متواصلة، كان في خطبة الجمعة يتكرر ذلك الحديث الذي يدعو إلى عدم الاغترار بالمظاهر الكاذبة و التقوى الزائفة، و أن الرجل يحسن سمته و يطيل صلاته فتحسبه نعم الرجل، فاختبره في المال و النساء و حب خفق النعال و الصيت و الشهرة، فإن سلم منهن فقل عنه نعم الرجل. و كنت أتخيل الحديث يتكلم عن نوع معين من الملتزمين المتمظهرين بالالتزام، إلا أنني لم استطع تصوره كما بعد مشاهدة ذلك الفيلم الفارسي المترجم و الذي يحمل عنوان “السحلية”.
هذا الفيلم يتكلم عن لص اشتهر بمهارته في تسلقه للمنازل حتى سمي بالسحلية، و لكن بداية هذا الفيلم تعرض القبض على هذا اللص المخادع و إيداعه السجن. و بسرعة يتمارض هذا السجين فيرسل إلى المستشفى. و من محاسن الصدف أن يكون زميله في الغرفة عالم دين يعظه ببعض المواعظ لعله يهتدي من ضلاله القديم. إلا أن بطلنا الزاحف ما أسرع ما يقتنص فرصة دخول الشيخ للحمام ليغتسل، فيبادر بسرقة ثيابه و ارتدائها و وضع نظارة سوداء تخفي هيئته الإجرامية، فيفر من المستشفى لا يلوي على شيء.
و تأخذه غريزة الخطر و حب البقاء و خبرته كمجرم إلى محطة القطار فيستقل الرحلة المتجهة إلى أبعد قرية حدودية، ليبتعد عن الأنظار و المطاردين. و حين تحط قدماه في تلك القرية، يستقبله أهاليها البسطاء بالتهليل و الترحيب، فهم منذ سنين يطالبون الدولة بإرسال إمام جماعة يعينهم في شؤون دينهم، و ما أخطر تعطش الناس للدين حين يختبئ تحت العباءة لص، المشاهد وحده يعلم بحقيقة هذا اللص، و لا يعلم بحقيقة اللص خارج الفيلم إلا الله عز و جل.
وربما كان من سوء حظ السحلية أن رفع أذان الظهر عند استقبال الناس له، فطالبوه بأن يكون إمامهم للصلاة. الرجل لا يعرف الصلاة فضلاً عن الإمامة، إلا أنه تحت وطأة الضغط تقدمهم و كبر و عينه تنظر للخلف لترى كيف يتصرف الجمهور ليتصرف بما يناسبه، كان يكبر ثم ينظر فإذا ركعوا ركع أمامهم و إذا سجدوا سجد بعدهم، حتى فرغ من صلاته. هنا طالبه الناس بخطبة يعظهم فيها و حاول التعذر، إلا أن شوقهم لكلامه و ضغطهم عليه و خوفه من افتضاح جهله جعلاه يرقى منبراً ليس أهلا له، فصعد ثم تذكر بعض ما سمعه من الشيخ في المستشفى من أن طرق التقرب لله كثيرة كعدد خلقه، فأعادها على مسامعهم و طلب منهم التأمل فيها ثم ختم خطبته.
ليلاً خرج من داره في ثيابه الإفرنجية و ذهب يبحث عن منزل زميل له يحترف تزوير الأوراق الرسمية ليعينه في الهرب من البلاد، فكان أن اثنين من بسطاء معجبي شخصيته الدينية كانا يراقبانه يجول بين المنازل بحقيبة كبيرة، فظنا أنه يتنكر ليلاً لتوزيع الصدقات. انتشرت هذه الإشاعة فقرر أهل القرية جميعهم المشاركة في أعمال البر.
وهكذا كان كل ما يقوم به الرجل يفسر بطيبة الناس تديناً و يدفعهم إلى مزيد من الإلتزام، و ربما يصلح في نفس هذا اللص شيئاً.
ربما كانت ميزة هذا اللص أنه كان صامتاً و منقاداً لأناس كانوا يريدون الخير و يبحثون عن القدوة الصالحة. ترى هل لو كان هذا اللص رجل دين حقيقياً، يأمر الناس بما ترفضه أنفسهم من مر الحق، و ينهاهم عما يهوونه من الباطل، أتراهم كانوا أحبوه؟ لو فعلوه في حينه، لكان أمراً عجباً يخالف طبيعة البشر، الذين ينقادون لأدعياء العلم و يرفضون نصيحة الناصح، فيضطر إمامهم أن يكون مأموماً في كل شئ عدا الصلاة.
آخر الوحي:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده البقا وحب الشجاع الحرب أورده الحربا
و يختلف الرزقان و الفعل واحدٌ إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
أبو الطيب المتنبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق