الأربعاء، 25 يناير 2012

لمن يجرؤ





الأربعاء ٢٥ يناير ٢٠١٢


يخطئ البعض حين يظن أن الكلام عن الواقعية السياسية مؤداه هو الاستسلام أو التنازل والترحيب بالعجز والقصور دون حتى إبداء للرأي لأوجه هذا القصور أو سبل حله. ومخطئ أيضاً من يظن أن الخطاب الواقعي موجه فقط للطرف المعارض من أطراف المعادلة السياسية دون أن يشمل باقي أطراف المعادلة من مؤسسة حكم أو مؤسسات مجتمعية ونخب اجتماعية ودينية وسياسية إلى باقي الشركاء ومجموعات التأثير.
الصحيح هو أن الواقعية تستدعي القراءة الصحيحة للواقع المعاش، وترتيب أولويات العمل بحيث يخلق أكبر إجماع وتوافق على ما يجب البدء به ثم ما يجب الصيرورة إليه، بهذا يكون العمل منطلقاً من حقيقة الإحتياجات المجتمعية ليسد الفجوة بين الواقع والمأمول.
وفي نظري أن المعارضة في البحرين، استطاعت السير في هذا الإتجاه جزئياً عندما دخلت في التجربة التشريعية في عام 2006، ووضعت برنامج عمل واستطاعت أن تكمل التجربة بشكل شجعها على المشاركة في 2010. ربما قلت إن ترتيب طرح الملفات والتركيز على الملفات السياسية استطاع أن يفت في عضد التطوير الطبيعي للتجربة والذي كان لينطلق من الحاجة بعد وضوح إلحاحها، ولكن قائلاً قد يقول إن المعارضة حين ركزت على ملفات مثل التجنيس السياسي أو صلاحيات المجلس أو التقرير المثير فهي بذلك كانت تركز على مسببات المرض بدلاً من علاج نتائجه وعواقبه.
أقول، إن المشكل المعيشي كان المفتاح الذي كان بإمكان الحكومة من خلاله أو المعارضة أن تجمع من خلاله التوافق على مدى نجاحها وتحشد لها أكبر عدد من المؤيدين من واقع نتائج العمل وليس من خلال وعود المعارض السياسي ولا من خلال تخويفات “اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش”. وللأسف فقد أخفق الاثنان في حل مشاكل بمستوى مآس وعيوب جوهرية لم يكن ممكناً التغافل عنها، إلا أن الدولة تلام فيها أكثر من المؤسسة الرقابية والتشريعية لأسباب يطول المقام فيها لأنها تقع في باب توضيح الواضحات.
في المقابل، استطاعت الدولة أن تغض عن الواقعية في التعاطي مع مشاكل حقيقية وملحة بشكل غريب يشير إلى حلول لا ترقى أن تكون ترقيعية بل ربما وقعت في خانة التسويق غير الفعال. أضرب مثالاً بموضوع الخط الساخن للتبليغ عن حالات الفساد الإداري والذي أظن أنه أعلن عنه بعيد نشر احد تقارير ديوان الرقابة. الحال أن التعاطي الجريء والجدي مع التقرير وتوجيهه للقنوات القانونية الفعالة للمساءلة والمحاسبة كان ليحل مشاكل حقيقية بدلاً من أن نقول للعامة إن جدوى التقرير ونتائجه ليست كافية لكن بلاغاً تلفونياً سيكون خطوة في طريق الحل.
الواقعية التي نطلبها من الدولة أيضاً في أزماتنا التي نعيشها تكمن في قراءة جريئة للوضع السياسي في المنطقة والعالم والتي نطق ببعض ملامحها شخصيات خليجية استضافتها المنتديات ولقد أثبتت الأزمات السابقة الحاجة إلى التعاطي الجاد مع هذه الأزمات وإيجاد حلول توفيقية ناجحة، وحين أقول توفيقية فهي لا تعني محاصصات وموازنات وإنما تعني توفيق بين الكلفة والفائدة لهذا الوطن.
الواقعية التي نطلبها من المعارضة في أزماتنا تستدعي عدم إعطاء أي فرصة لمواجهات بين المواطنين بعضهم بعضا أو المواطنين والدولة، فالوطن هو بلا شك آخر من يستفيد من حدوث أي خسائر في الأرواح أو الأموال ومن حدوث تشنجات أمنية ومن أن تتحول حياة الناس إلى أتون مشتعل من قلة الأمن بغض النظر عمن يكون السبب فيه. وهذه الواقعية تنظر إلى ما يمكن منعه من الخسائر وليس إلى ما تحقق منها، خصوصاً إذا كنا نرى أن هيكل وتكوين بعض المؤسسات الأمنية ما زال يشوبه قصور يؤدي إلى العجز عن منع حدوث الجرائم ومنع كشف حيثياتها بعد حدوثها.
ذكرت أمثلة قليلة والكلام كثير، إلا أن الكلام عن الواقعية المطلوبة قد توقفه واقعية الطرح الذي ينظر إلى أن لا طرف يستمع، وإنما هو سجال قائم ومستمر، سيؤدي إلى كسر عظام الوطن وسيكون الصراخ على قدر الألم. ولكن معذرة إلى ربكم.
آخر الوحي:
يعانق الشرق أشعاري ويلعنها
فألف شكر لمن أطرى ومن لعنا
فكل مذبوحة دافعت عن دمها
وكل خائفة أهديتها وطنا

نزار قباني

الأحد، 22 يناير 2012

الأيقونة









الأحد ٢٢ يناير ٢٠١٢


مقولة الشيخ محمد عبده “رأيت في فرنسا إسلاماً بلا مسلمين و رأيت في ديار الإسلام مسلمين بلا إسلام” تفتح كثيراً من الشجون و تمس كثيراً من الجروح عندنا في مختلف المواضيع. و ربما كان مما يثير تفكيرنا فيها أحياناً مشاهدتنا للفضيلة عند الآخرين و التي ربما دعتهم إليها إنسانيتهم أو السنن الكونية التي تقتضي بقاء النافع و ذهاب الزبد جفاء. التفكر من زاوية هذا الشطر من المقولة ربما يدفعنا من ناحية إلى الإقتداء بهم و ربما يقودنا إلى الإنبهار بنموذجهم الفكري بالكامل و تبني صالحه و طالحه بلا وعي كما هي طبيعتنا الساذجة في التعميم و إرسال الأحكام المجملة و المطلقة على كل ما نشاهده و كل من نقابله. سيأتي الكلام يوماً على هذه الطبيعة الساذجة، إلا أن الشطر الثاني من مقولة محمد عبده أكثر إغراءاً للبحث في طياتها و مقابلتها بالواقع الذي نعيشه فكرياً و اجتماعياً و ربما سياسياً.
في طيات هذه المقولة أذكر جلوسي مع خبير مالي أجنبي أتكلم معه عن المنتجات المصرفية الإسلامية، فقال لي، إن هناك بعض المنتجات المصرفية التي تتميز بالأصالة في إسلاميتها، بينما لا يعدو الكثير من المنتجات كونه تكييفاً إسلاموياً لبعض المنتجات المصرفية التقليدية. و في جلسة أخرى ساءلته عن إحدى الشهادات البريطانية في الإقتصاد الإسلامي، فأجابني ببعض ما يعرفه ثم قال مداعباً: عجيب كيف أنكم صرتم تبحثون عند الغرب عمن يعلمكم الإقتصاد الإسلامي. لم يكذب الرجل و لم يجافه الصواب فيما قال، فإنبهارنا بالغرب يجعلنا نتقبل منه التكييفات الإسلامية لشؤون حياتنا، و كأنهم صاروا فقهاء في ديننا، أو ربما من باب أن الفضل ما شهدت به الأعداء.
و بعيداً عن هذا الخبير، فإنني لا أقصر ما نقبله من الغرب على الشؤون الإقتصادية و السياسية، و لكن ربما كان الأخطر هو ما نقبله منه على المستوى الفكري، الأمر الذي ساهم في تفريغ نشاطنا الحيوي عامةً و الثقافي و الإجتماعي خاصةً  من مضمونه و تحويله شيئاً فشيئاً إلى طقوس و تراث لا نلبث أن نرميه من على كاهلنا. كلامٌ كبير و ربما غير مفهوم، ربما كمحاولات علماء الدين السابقين اليائسة لوقف تسلل الثقافة الغربية حتى حرم بعضهم التلفاز و كل جديد يطرأ على حياتنا خوفاً من تأثير العولمة و جذورها ثم توابعها على ثقافتنا و حياتنا بشكل عام.
الكلام هنا ليس جزءاً من رهاب التغيير، و إنما هو محاولة لتوضيح الوضع الثقافي لنا و كيف صارت مؤسساتنا و قاماتنا بلا رسالة إلا محاكاة المنافس و البديل الذي يهجم بشراسة، حتى بتنا نقبل دوماً بما نعتقده أهون الضررين، إما محافظين بذلك على وجودنا، و شيء من مكانتنا الظاهرية المتبقية أو طامعين في تسنم المزيد من المكاسب الشخصية.
و في الجانب الفكري نرى قبولنا بمكانة الأيقونة المفرغة من دورها و الموضوعة فقط  للإستخدام كرمز أو شعار مجرد عون لتسهيل وصول الفكر الآخر إلينا  بدون مقاومة تذكر من الداخل. حينها تصبح الأيقونة مجرد حصان طروادة الذي يختبئ فيه المحاربون للفتك من الداخل بعد تجاوز أسوار القلعة.
هل قبولنا بمكانة الأيقونة شئ يشبه قبول الوالد بما يمليه عليه الجيل الأصغر؟ و هل مقاومتنا لهذه المكانة هو تعنت من رجل عجوز؟ أم هو محافظة على ما نعتقده صحيحاً في مقابل ما يطرح من تغيير لا نرى جدواه ولا حتى مبدئيته؟
ففي المجال السياسي، الذي لا يهمني غلبة توجهي فيه بقدر ما يؤلمني السكوت الموجع على تشويه المفاهيم دون أي تحمل للمسؤلية عن ما يهدم من أفكار و ما يسوق من مفاهيم مضادة فقط للوصول إلى مكاسب وقتية ربما تتحقق و ربما لا يمكن الوصول إليها. و كمثال بسيط، فإن مما يسوءني و يسوء كل متابع، أن يرى ما يعبرعنه البعض بالدولة المدنية يسوق له في الإعلام و عبر شخصيات أكبر بالصحوة الإسلامية!!
منذ متى كانت الصحوة الإسلامية تعني التوجه للنموذج الليبرالي؟ والذي بفضل الله مازلنا نستطيع انتقاده بعد أن تمكن البعض من إدخال كلمة الديموقراطية ضمن تراثنا الديني عبر حصان طروادة الثقافي السابق. ما أعرفه أن الصحوة الإسلامية تعني التوجه للدعوة للنموذج الإسلامي، فإن كان معناها الدعوة لليبرالية، فلا يعجب أحدٌ من أن يقوم الغرب بتعليمنا الفرق ما بين المنتجات الإسلامية و المنتجات التقليدية، إذ يبدو أنهم أكثر فهما لإسلامنا منا.
و بالطبع لا يهم في هذه العجالة أن يصل أي شخص إلى مبتغاه الذي لأجله تتغير المفاهيم، فلكل ٍ أهدافه في الحياة، و لكن يمكن أن نكون أكثر صراحة لئلا تتحول ثقافتنا و ديننا في النهاية إلى وسيلة أو علبة مرهم نطبب به آلامنا ثم ننطلق إلى الآفاق الأخرى، ولئلا تتحول مفاهيمنا إلى مجرد أيقونة نعلقها فتكون بالنسبة لنا صك الراحة النفسية و التصالح مع الذات و تحقيق ما نصبو إليه. و لئلا تصير ديارنا بلاد مسلمين بلا إسلام.
آخر الوحي:
المشربُ غَصَّ بجيلٍ لا تَعرِفُهُ.. بَلَدٍ لا تَعرِفُهُ
لغةٍ.. ثرثرةٍ.. وأمورٍ لا تَعرِفُها
إلا الخَمْرَةُ؛ بَعدَ الكأسِ الأول تَهْتَمُ بِأَمْرِكَ
تُدّفِئ ُ ساقيكَ البارِدَتينْ
ولا تَعْرِفُ أينَ تَعَرَّفتَ عليها أيُّ زَمانْ
يَهْذي رأسُكَ بينَ يَديكَ
شيءٍ يوجعُ مثلَ طنينِ الصَمّتْ
يشارِكُكَ الصمتُ كذلِكَ بالهذيان...
مظفر النواب

الأحد، 15 يناير 2012

رحلة الحسين الثانية









الأحد ١٥ يناير٢٠١٢


قد يبعث عنوان المقال على الاعتقاد بأنني أشير الى ان ذكرى الأربعين تمثل محطة جديدة من محطات قصة الامام الحسين، او ذكرى جديدة تضاف لذكرى عاشوراء. ولا ضير في ذلك رغم أنني لا اقصده. فالذكرى تمثل لحظة، بخلاف الرحلة التي تمثل فترة من الزمان او بمعنى آخر المسافة الزمنية بين لحظتين.
فالحسين عليه السلام بعد رحلته الأولى من الحجاز الى كربلاء، والتي انتهت في ظهيرة يوم العاشر بمقتله واهل بيته والمخلصين من الأصحاب انطلق في رحلة ثانية، محطتها الاولى كربلاء والنهائية كربلاء.
كان المشهد في ظهيرة العاشر من المحرم قد اتضح مع انجلاء غبرة المذبحة عن أجساد مقطعة لمجموعة صغيرة مع صيحات ابتهاج هستيرية من جيش عرمرم، استطاع ان يخط باقتدار وجرأة على حدود الله وقربى نبيه خطا احمر وسابقة ليس لها في تاريخ الإسلام من مثيل سابق او لاحق.
وابتدأت رحلة الامام الحسين مع ارتفاع رأسه المقطوع على رؤوس الرماح باتجاه الكوفة ثم الشام، في رمزية لا تخفى على انتصار جيش بني امية نصرا عسكريا باهتا، احتاج لكثير من الافتعال والتضخيم، ثم انتهى بسرعة بالفضيحة على رؤوس الاشهاد وانقلاب السحر على الساحر.
الشام التي زينت للاحتفال أشيع فيها خبر مفاده انتصار جيش الامير على جيوش الخوارج. لكن حقيقة الامر ان المقتول صاحب الرأس المعلى هو ريحانة رسول الله وسيد شباب اهل الجنة، قد خلقت ردة فعل عكسية انتهت بسب الحاضرين في مجلس يزيد لأميرهم واضطر إذ ذاك لإرسال السبايا من عيال الحسين عاجلا الى المدينة بدلا من مواصلة عرضه الباهت.
يبقى ان رمزية الرأس المقطوع على رؤوس الرماح تظل شاهدا تاريخيا على الفظائع التي ارتكبت بحق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أهله وذراريه، وصوتا يسمع صداه لآخر يوم في الدنيا، يفضح خروج حاكم الدولة الاموية الواضح على كل ادعاءات الخلافة والدين والإنسانية والعروبة.
واذا حاولنا تفكيك جوانب من رمزية الرأس نجد في ذلك كثيرا من المعاني التي شاء الله ان يخلدها في ذهن كل من يتأمل هذه الواقعة ويفكر في أبعادها.
فمن ذلك مصداق لشهادة الحسين ولكونه عالي الرأس وموافقا لمقولته الشهيرة «هيهات منا الذلة» حيث ظل رأسا معلى رغم قتله ناطقا وشاهدا على ما جرى من الفظائع.
ومن ذلك أن هذه الرحلة للرأس هي دليل تاريخي على تورط كل من حمل إليه الرأس سواء ابن زياد في الكوفة او يزيد بن معاوية في الشام ودورهم في الأمر بقتل العترة النبوية رغم محاولات البعض في الدفاع عن يزيد وان ابن زياد قد تسرع بهذه الجريمة دون امر من مولاه. الا ان المعتدلين من اهل العلم يرفضون الصورة الرومانسية التي حاول البعض رسمها ليزيد ورفضوا ان يسيروا في ركاب من يدافع عن قتلة ابناء الأنبياء.
ويظل المشهد المهيب للرأس حاضرا بين العاشر من المحرم والعشرين من صفر يبعث في نفس المحبين نفحات الاسى ولفحات التفجع النابع من مودة ذوي قربى الرسول الاعظم، لتكون كما قال رجل حين رأى رأس الحسين مرفوعا فقال مستدركا عليه: والله ان رأسك أعجب من أهل الكهف والرقيم.
آخر الوحي:
قم جدد الحزن في العشرين من صفر   ففيـــــــه ردت رؤوس الآل للحفر
آل النبي التي حلت دمــــــــــــــاؤهم    في دين قوم جميع الكفر منه بري
يا مؤمنون احزنوا فالنار شاعلـــــــة   ترمى على عـروة الإيمان بالشرر
ضجوا لسفرتهم وابكــــــوا لرجعتهم    لا طبتِ من رجعةٍ كانت ومن سفر
السيد هاشم الستري

الأربعاء، 11 يناير 2012

سيف العرب








الأربعاء ١١ يناير ٢٠١٢


في مسرحيته التي تحمل ذات الاسم قام النجم عبدالحسين عبدالرضا بتمثيل شخصية الطاغية العراقي صدام حسين في قالب كوميدي أظهر فيه بعض ما تركه نظام صدام حسين في شعبه من مزيج من الرعب والتجهيل والحرمان، وما جره على دول جواره العربية والخليجية بالتحديد من اعتداءات وصلت أوجها في احتلاله للعزيزة الكويت رغم أيادي هذا البلد وشعبه وسائر دول الخليج عليه وعلى نظامه ووقوفهم معه في السراء والضراء حتى تغول وأمعن في طغيانه فأجهزت عليه أطماعه.
لا مجاملة في هذا ولا محاباة لأحد، لكن الغريب أن هناك من يمجدونه ولا أدري علام يمجدونه، على الملايين من الذين أبادهم ام الملايين الذين هجرهم أم الملايين الذين جر عليهم الإعاقات والعاهات وكل هؤلاء ليسوا سوى أفراد شعبه هو، مدنيون لا عسكريين، أكثرهم قتل حين قتل ضمن مجاميع لا بشكل فردي. فما يحمل أحدا على الدفاع عنه إلا ضعف عقله أو خواء فكره وتعصبه أو مسخ إنسانيته.
على هذه الشاكلة التي نجد فيها بعض من يمجد البعث العراقي قد نجد أيضاً بعض من يمجد البعث السوري، وكأن طغاة الشام يختلفون عن طغاة العراق، وإن كانت الأمة العربية لم تشهد لصدام مثيلاً وقد أعدم في إحدى جرائمه وليس أكبرها، وإن كانت أصغرها لا يكفي فيها إعدامه، إذ إن قاتل النفس الواحدة يعاقب قتلاً، فكيف بمن قتل ملايين الأنفس.
بعض من يمدحه، ويمدح أمثاله يرى فيه مشروع القوة العربية ويكون هؤلاء عادة من المنتمين إلى الحزب البعثي بالعضوية أو بالفكر، والبعض يرفع اسمه قبال إيران لحرب صدام معها، وآخر له أسبابه الطائفية التي يصرح بها حيناً أو يلمح لها أحياناً. ولهؤلاء المتعصبين الطائفيين ممن يمجد سيف البغي لينتصر به، سواء كان هذا السيف له أو عليه أستذكر بعض كلمات قالها العلامة المدني في خطبته الأخيرة في عيد الأضحى من عام 2003 قبيل الاحتلال الأميركي للعراق.
يقول رحمه الله:
“يعتدي الظالم على طائفةٍ منا فتصفق له بقية الطوائف، لماذا؟ لأنه يقول لهم هؤلاء شيعةٌ يريدون أن يأخذوا الأمر من أيديكم، وكأن الأمر في أيدي أهل السنة، فيصدقونه ويصفقون له، ويعتدي على طائفةٍ أخرى ويقول للباقين: هؤلاء نواصب يريدون أن يُفرِّقوا بين المسلمين، ويقتلوا من خالفهم، فننسى أنه هو الذي غذاهم بهذه الفكرة، فنرضى أن يعذبهم ويضربهم، وهكذا حتى قضى على الأمة بأسرها، أضرب لكم مثلاً بصدام” ثم يسهب رحمه الله بعد أن يذكر ادعاءات صدام وخططه الشيطانية إلى أن يرجع المثال إلى مطابقته بالواقع، فيقول “هل قضى على الشيعة وحدهم؟ أم قضى على العراق المسلم كله؟ أين البيوتات السنية العلمية التي كانت مزدهرةً في العراق؟ أين آل الآلوسي؟ أين آل البدري،؟ أين آل الزهاوي وغيرهم من البيوتات العلمية السنية؟ ألم يُبدهم صدام قبل أن يحاول إبادة الشيعة لو لم يأب الله عليه ذلك؟”-انتهى الاقتباس.
أقول إن صدام بالفعل لم يدخر دماً لم يهرقه، ربما لأنه يؤمن بالدم كدين له، أو ليس هو أول من أعلن أنه سيكتب القرآن بدمه؟ فيما لا أدري أهي محاولة لإظهار تعلقه بالدين، أم ليقول إن دمه طاهر دون دماء سائر الخلق!!
إن مشاريع الوحدة الوطنية والإسلامية يجب أن تكون عابرة للتمذهب، لأن من يخضع لمشاريع التفريق بين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يظل أداة تستنفد غرضها وورقة تحترق بعد أول استخدام، والتاريخ لا يغفر قصر النظر لامرئ بعد أن يزوده بنظارة مصنوعة من خبرة أسلافه.
آخر الوحي:
قومي هم قتلوا أميم أخي
فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً
ولئن سطوت لأوهنن عظمي
  الحارث بن وعلة

الأحد، 8 يناير 2012

انفصام ثقافي







الأحد ٨ يناير ٢٠١٢


على غرار العوارض النفسية المعروفة بمرض الفصام أو انفصام الشخصية، تعيش الثقافة في بلادنا حالة من الإفتراق بين الواقع الثقافي القائم على الموروث، و بين ما تحتضنه الجهة الرسمية من ثقافة قد لا تعبر بالضرورة عن التوجه الثقافي الشعبي إن صح التعبير.
 دارت تلك الفكرة بخلدي و أنا أكلم صديقاً عاد لتوه من الكويت. و لأن شهادتي في الكويت مجروحة و أنا الذي دأبت على زيارتها مرات متعددة كل عام، فعلت كما تعودت أن أسأل العائدين منها كيف رأوها. قال لي، ما أحببته في الكويت أنها تحتضن تراثها، و تهتم بإظهار تفاصيله و جعلها في أجمل صورة لتعبر عن أصالة الماضي و استشراف إشراقات المستقبل. و ختم كلامه بتساؤل هو لماذا لا نجد نفس الإهتمام بتراثنا و ثقافتنا.
 هنا ندت من أعماقي آهة حول واقعنا الثقافي الذي ربما وصفته بالمتحذلق، فكوني محباً للأدب منذ الصغر و محاولاً لنظم الشعر منذ سني مراهقتي الأولى، فقد عشت هذا الهم مبكراً. إذ أن موروثي الثقافي العربي خاصة في مجال الشعر غني إلى حد الإلهام لكل فرد تقريباً ليحاول الشعر كاتباً أو متذوقاً. نعم، ندرس قصائد الفصحى في مناهج اللغة العربية منذ المراحل الإبتدائية و حتى الثانوية، إلا أننا حين نبحث عن الشعر الفصيح في قاماتنا الثقافية، و في أسماء شعرائنا المعاصرين، نكاد لا نجد إلا الحداثة و الشعر الحر و قصيدة النثر.
 أقول أن كل مجال فن عند أهله، و لكل مدرسة روادها من ناحية و من هم عالة عليها من ناحية اخرى، و لكن بين هذا و ذاك أين يكمن موروثنا العربي الذي يجري في دمائنا صغاراً و بمدادنا شباناً و على ألسنتنا كباراً؟
 أظن أنه لا منطقة في البحرين تخلو من عشرات ممن ينظمون الشعر الفصيح المقفى رجالاً و نساءاً، إلا أنني أكاد اقول أنني لست على إطلاع على تجربة واحد منهم ممن احتضنته إدارة الثقافة ثم وزارتها.
 قبل ذلك كانت أسرة الأدباء و الكتاب هي الكيان الذي يفترض أنه يمثل الأدب و الشعر في بلادنا، هذا الكيان مع احترامي للقائمين و المنتسبين له، حداثي حد الإنفصال عن وجدان الناس و اهتمامهم، فهو أقرب لمنتدى لا يهتم به إلا رواده.  و كأن الثقافة صارت شأنا نخبوياً بحتاً لمترفي القوم. ثم وجدت أكثر ما وجدت في مثقفينا استغراقاً في النقد و إغراقاً في الكلام عن مناهجه و رموزه. هذا هو واقعنا. و بين هذا و ذاك، ينشأ الشاعر البحريني أو محاول الشعر متغذياً على بعض الكتب القديمة، و مشاهداً لبعض البرامج التلفزيونية اليتيمة و التي لا تكون من إنتاجنا المحلي قطعاً.
 ينشأ هذا المتأدب باحثاً هنا عن كتاب للجواهري أو ناسخاً لكاسيت أمسية للسيد مصطفى جمال الدين. و قبل هذا و ذاك فقد يسعفه دخوله مجال الإعداد للمناسبات الدينية و كتابة أناشيدها و إلقاء الأشعار فيها.
 ترى، هل كان طرفة بن العبد لينشأ شاعراً عملاقاً في هكذا ظروف، نلهث فيها وراء مظاهر الثقافة و نلتف على جمالية تراثنا و نشيح عما يطرب أسماعنا في المحافل، صدقوني لو استفدنا من الموجود لصنعنا واقعاً ثقافياً مغايراً تماماً، بإصدارات و دواوين و أمسيات و مهرجانات شعرية، إذ ليس من الدور المأمول لإدارة الثقافة أن تصنع لنا واقعاً ثقافياً، بل أن تفتخر بثقافتنا و تعرضها للعالم كله.
آخر الوحي:
 أرى الموت أعداد النفوس ولا  أرى   ***   بعيدا غدا  ما  أقرب  اليوم  من  غد
ستبدي  لك  الأيام  ما  كنت   جاهلا   ***   ويأتيك   بالأخبار   من   لم    تزود
ويأتيك  بالأخبار  من  لم   تبع   له   ***   بتاتا  ولم  تضرب  له  وقت   موعد
طرفة بن العبد

الأربعاء، 4 يناير 2012

الفئة الضالة






الأربعاء ٤ يناير ٢٠١٢


فيما يعرض الكاتب عن الدخول في منزلقات السياسة، لأسباب قد يجهلها هو نفسه، فان بعض الأحاديث الجانبية ومناقشة أفكاره مع الآخرين توصله لبعض الحقائق حول حقيقة شعوره وما وصل اليه من قناعات مؤلمة أزعجت عقله الباطن واستلزمت مواجهات فكرية مزعجة في داخله لتجاوز الدرجات المهترئة من سلم التفكير المشوش.
في الوضع الذي تمر به البحرين منذ قرابة العام وصلت الأمور الى درجة من التعقيد صار معها التفكير في الحلول المنطقية بعيداً عن أي جدوى، خصوصاً مع تكرار التجارب التي تتسبب شيئاً فشيئاً في قطع كل خيوط الثقة بين الفرقاء والاخوة الخصوم. أضف الى هذا غياب الاستراتيجية الواضحة من الدولة في التعاطي مع المتغيرات، مع توقفها هي والمعارضة في آن واحد عن مواجهة كل سلوك لا يمثلها بصورة حازمة قاطعة، حتى صارت هذه الفوضى طليقة السراح مرخاة العنان قابلة للانفجار من الاتجاهين وفي الاتجاهين لتصيب البريء قبل المذنب والمغرر به قبل المحرض وذا الرتبة المنخفضة قبل الرتبة العالية والأطفال قبل الكبار والنساء قبل الرجال.
هذا التعقيد المتسارع والايقاع المتصاعد وما سبقه من أحداث وما لحقه من نتائج وما تخلله من خطابات، وما رافقه من وعود وتعهدات جعل جميع من يعتبرون أنفسهم من أصحاب النوايا الخيرة يقولون خيراً أو يصمتون، وينتقدون أخطاء جميع الأطراف بدرجة لا تتسبب في تعثر الحلول المرتقبة وانما فقط لمواجهة التشدد من كل طرف.
وعول أصحاب النوايا الخيرة على رشد بعض أطراف الخلاف وتحضر أصحاب الحل والعقد، لدرجة أن الجميع صاروا ينتظرون كل تاريخ متفائلين ثم يصابون بالاحباط وهكذا دواليك حتى وصل كثير منهم الى قناعة أن الحل يستعصي على الباحثين عنه، وتكرست درجة عالية من الاحباط حول نجاح أي حلول عملية واقعية توازن بين تطلعات الناس ومخاوفهم من ناحية وبين المعطيات الدولية والاقليمية من ناحية أخرى.
هذا الاحباط الذي يسيطر على عموم الناس من المتابعين لا يستثني أحداً، فيبقى الجميع يدورون ويحلقون في الحلقة المفرغة ينتظرون أن يقرض الجرذ الشبكة لينطلقوا نحو فضاء أرحب. ولا شك أن تعويلنا على جرذ من خارج الشبكة التي نطير فيها يجب أن يكون أقل من تعويلنا على قدرتنا في ايجاد ايقاع متناغم يطير به الجميع فيرتفعون بشبكة الصياد عن الأرض حتى ايجاد حل دائم.
نفس هذا الاحباط واليأس من توصل الفرقاء الى حلول هو ما يرسل الكاتب الى صومعة بعيدة، ويجعل المرء يصمت عن موضوع لا يمكنه أن يقول أو يفعل فيه خيراً. بل لا أبالغ ان قلت إنه حتى الطرح الجريء يكون غالباً غير مسموح به رغم فائدته في لمس الجراح والوصول الى مكامن الخلل، فهوامش حرية الكتابة تقل تلقائياً عند الكاتب وعند الصحيفة. وفي هذا الباب أستذكر تساؤل أحد الكتاب في جريدة “البلاد” في مقاله ما اذا كان يصح أن تناقش المشاكل الخدماتية كالاسكان وغيرها أم ينتظر تجاوز فترة الطوارئ.
وخلال هذه التجاذبات الحوارية المستكشفة للكوامن والمشاعر كنت أشاهد برنامجا في تلفزيوننا المحلي بدأت احدى فقراته التي تعني بالتكنولوجيا بنقاش أهمية ترشيد لغة الخطاب في مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والتويتر حفاظاً على اللحمة الوطنية. في نفس البرنامج يطلع على المشاهدين فاصل آخر سياسي يبدأ الكلام فيه حول أزمة البحرين بالكلام عن الفئة الضالة!! حينها كان لي تعليق على تلك المفارقة على حسابي في التويتر. فسألني أحد الأصدقاء التويتريين عن سبب اعتراضي وهل هو لفظة “الفئة الضالة” أم ما بعدها؟
قلت له وأقول إن المشكلة ليست في انتقاء الالفاظ بقدر ما هوالثيم العدائي والاستعدائي الذي يدخل به المعد والمقدم وقد يجر معه ضيوفه الى موقف مسبق لا يتوافق مع هدف اعادة اللحمة أو الحفاظ عليها؛ وانما يكرس لطرح مواقف ومشاعر شخصية تنتمي لأفكار سياسية لا تخدم أهداف اللحمة أو الوحدة الوطنية التي نتشدق بها جميعاً ونقطعها بكل ما يتوافر لدينا من ألفاظ حادة وتطلعات طامعة يجر كل منا بها النار الى قرصه.
أقول للكبار والعقلاء وذوي النظرة البعيدة، ان أمل البحرين معقود على واقعية الطرح وعقلانية الكبار والتسامي على المصالح الشخصية والفئوية وعدم حرق مراحل تبين جلياً أن اجتيازها يستلزم منا جميعاً أن نكون أكبر من الوقوع في حفر لا تليق بحضارتنا ولا مخزوننا الفكري، حفر مصنوعة من خوف أو طمع وانعدام ثقة. والله من وراء القصد.

آخر الوحي:

ماذا يفيد الصوت مرتفعا... ان لم يكن للصوت ثمّ صدى؟
والنور منبثقا ومنتشرا... ان لم يكن للناس فيه هدى؟
انّ الحوادث في تتابعها... أبدلنني من ضلّتي رشدا
ما خانني فكري ولا قلمي لكن رأيت الشعر قد كسدا
 ايليا أبوماضي