الأحد ٢٢ يناير ٢٠١٢
مقولة الشيخ محمد عبده “رأيت في فرنسا إسلاماً بلا مسلمين و رأيت في ديار الإسلام مسلمين بلا إسلام” تفتح كثيراً من الشجون و تمس كثيراً من الجروح عندنا في مختلف المواضيع. و ربما كان مما يثير تفكيرنا فيها أحياناً مشاهدتنا للفضيلة عند الآخرين و التي ربما دعتهم إليها إنسانيتهم أو السنن الكونية التي تقتضي بقاء النافع و ذهاب الزبد جفاء. التفكر من زاوية هذا الشطر من المقولة ربما يدفعنا من ناحية إلى الإقتداء بهم و ربما يقودنا إلى الإنبهار بنموذجهم الفكري بالكامل و تبني صالحه و طالحه بلا وعي كما هي طبيعتنا الساذجة في التعميم و إرسال الأحكام المجملة و المطلقة على كل ما نشاهده و كل من نقابله. سيأتي الكلام يوماً على هذه الطبيعة الساذجة، إلا أن الشطر الثاني من مقولة محمد عبده أكثر إغراءاً للبحث في طياتها و مقابلتها بالواقع الذي نعيشه فكرياً و اجتماعياً و ربما سياسياً.
في طيات هذه المقولة أذكر جلوسي مع خبير مالي أجنبي أتكلم معه عن المنتجات المصرفية الإسلامية، فقال لي، إن هناك بعض المنتجات المصرفية التي تتميز بالأصالة في إسلاميتها، بينما لا يعدو الكثير من المنتجات كونه تكييفاً إسلاموياً لبعض المنتجات المصرفية التقليدية. و في جلسة أخرى ساءلته عن إحدى الشهادات البريطانية في الإقتصاد الإسلامي، فأجابني ببعض ما يعرفه ثم قال مداعباً: عجيب كيف أنكم صرتم تبحثون عند الغرب عمن يعلمكم الإقتصاد الإسلامي. لم يكذب الرجل و لم يجافه الصواب فيما قال، فإنبهارنا بالغرب يجعلنا نتقبل منه التكييفات الإسلامية لشؤون حياتنا، و كأنهم صاروا فقهاء في ديننا، أو ربما من باب أن الفضل ما شهدت به الأعداء.
و بعيداً عن هذا الخبير، فإنني لا أقصر ما نقبله من الغرب على الشؤون الإقتصادية و السياسية، و لكن ربما كان الأخطر هو ما نقبله منه على المستوى الفكري، الأمر الذي ساهم في تفريغ نشاطنا الحيوي عامةً و الثقافي و الإجتماعي خاصةً من مضمونه و تحويله شيئاً فشيئاً إلى طقوس و تراث لا نلبث أن نرميه من على كاهلنا. كلامٌ كبير و ربما غير مفهوم، ربما كمحاولات علماء الدين السابقين اليائسة لوقف تسلل الثقافة الغربية حتى حرم بعضهم التلفاز و كل جديد يطرأ على حياتنا خوفاً من تأثير العولمة و جذورها ثم توابعها على ثقافتنا و حياتنا بشكل عام.
الكلام هنا ليس جزءاً من رهاب التغيير، و إنما هو محاولة لتوضيح الوضع الثقافي لنا و كيف صارت مؤسساتنا و قاماتنا بلا رسالة إلا محاكاة المنافس و البديل الذي يهجم بشراسة، حتى بتنا نقبل دوماً بما نعتقده أهون الضررين، إما محافظين بذلك على وجودنا، و شيء من مكانتنا الظاهرية المتبقية أو طامعين في تسنم المزيد من المكاسب الشخصية.
و في الجانب الفكري نرى قبولنا بمكانة الأيقونة المفرغة من دورها و الموضوعة فقط للإستخدام كرمز أو شعار مجرد عون لتسهيل وصول الفكر الآخر إلينا بدون مقاومة تذكر من الداخل. حينها تصبح الأيقونة مجرد حصان طروادة الذي يختبئ فيه المحاربون للفتك من الداخل بعد تجاوز أسوار القلعة.
هل قبولنا بمكانة الأيقونة شئ يشبه قبول الوالد بما يمليه عليه الجيل الأصغر؟ و هل مقاومتنا لهذه المكانة هو تعنت من رجل عجوز؟ أم هو محافظة على ما نعتقده صحيحاً في مقابل ما يطرح من تغيير لا نرى جدواه ولا حتى مبدئيته؟
ففي المجال السياسي، الذي لا يهمني غلبة توجهي فيه بقدر ما يؤلمني السكوت الموجع على تشويه المفاهيم دون أي تحمل للمسؤلية عن ما يهدم من أفكار و ما يسوق من مفاهيم مضادة فقط للوصول إلى مكاسب وقتية ربما تتحقق و ربما لا يمكن الوصول إليها. و كمثال بسيط، فإن مما يسوءني و يسوء كل متابع، أن يرى ما يعبرعنه البعض بالدولة المدنية يسوق له في الإعلام و عبر شخصيات أكبر بالصحوة الإسلامية!!
منذ متى كانت الصحوة الإسلامية تعني التوجه للنموذج الليبرالي؟ والذي بفضل الله مازلنا نستطيع انتقاده بعد أن تمكن البعض من إدخال كلمة الديموقراطية ضمن تراثنا الديني عبر حصان طروادة الثقافي السابق. ما أعرفه أن الصحوة الإسلامية تعني التوجه للدعوة للنموذج الإسلامي، فإن كان معناها الدعوة لليبرالية، فلا يعجب أحدٌ من أن يقوم الغرب بتعليمنا الفرق ما بين المنتجات الإسلامية و المنتجات التقليدية، إذ يبدو أنهم أكثر فهما لإسلامنا منا.
و بالطبع لا يهم في هذه العجالة أن يصل أي شخص إلى مبتغاه الذي لأجله تتغير المفاهيم، فلكل ٍ أهدافه في الحياة، و لكن يمكن أن نكون أكثر صراحة لئلا تتحول ثقافتنا و ديننا في النهاية إلى وسيلة أو علبة مرهم نطبب به آلامنا ثم ننطلق إلى الآفاق الأخرى، ولئلا تتحول مفاهيمنا إلى مجرد أيقونة نعلقها فتكون بالنسبة لنا صك الراحة النفسية و التصالح مع الذات و تحقيق ما نصبو إليه. و لئلا تصير ديارنا بلاد مسلمين بلا إسلام.
آخر الوحي:
المشربُ غَصَّ بجيلٍ لا تَعرِفُهُ.. بَلَدٍ لا تَعرِفُهُ
لغةٍ.. ثرثرةٍ.. وأمورٍ لا تَعرِفُها
إلا الخَمْرَةُ؛ بَعدَ الكأسِ الأول تَهْتَمُ بِأَمْرِكَ
تُدّفِئ ُ ساقيكَ البارِدَتينْ
ولا تَعْرِفُ أينَ تَعَرَّفتَ عليها أيُّ زَمانْ
يَهْذي رأسُكَ بينَ يَديكَ
شيءٍ يوجعُ مثلَ طنينِ الصَمّتْ
يشارِكُكَ الصمتُ كذلِكَ بالهذيان...
مظفر النواب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق