الأحد ٨ يناير ٢٠١٢
على غرار العوارض النفسية المعروفة بمرض الفصام أو انفصام الشخصية، تعيش الثقافة في بلادنا حالة من الإفتراق بين الواقع الثقافي القائم على الموروث، و بين ما تحتضنه الجهة الرسمية من ثقافة قد لا تعبر بالضرورة عن التوجه الثقافي الشعبي إن صح التعبير.
دارت تلك الفكرة بخلدي و أنا أكلم صديقاً عاد لتوه من الكويت. و لأن شهادتي في الكويت مجروحة و أنا الذي دأبت على زيارتها مرات متعددة كل عام، فعلت كما تعودت أن أسأل العائدين منها كيف رأوها. قال لي، ما أحببته في الكويت أنها تحتضن تراثها، و تهتم بإظهار تفاصيله و جعلها في أجمل صورة لتعبر عن أصالة الماضي و استشراف إشراقات المستقبل. و ختم كلامه بتساؤل هو لماذا لا نجد نفس الإهتمام بتراثنا و ثقافتنا.
هنا ندت من أعماقي آهة حول واقعنا الثقافي الذي ربما وصفته بالمتحذلق، فكوني محباً للأدب منذ الصغر و محاولاً لنظم الشعر منذ سني مراهقتي الأولى، فقد عشت هذا الهم مبكراً. إذ أن موروثي الثقافي العربي خاصة في مجال الشعر غني إلى حد الإلهام لكل فرد تقريباً ليحاول الشعر كاتباً أو متذوقاً. نعم، ندرس قصائد الفصحى في مناهج اللغة العربية منذ المراحل الإبتدائية و حتى الثانوية، إلا أننا حين نبحث عن الشعر الفصيح في قاماتنا الثقافية، و في أسماء شعرائنا المعاصرين، نكاد لا نجد إلا الحداثة و الشعر الحر و قصيدة النثر.
أقول أن كل مجال فن عند أهله، و لكل مدرسة روادها من ناحية و من هم عالة عليها من ناحية اخرى، و لكن بين هذا و ذاك أين يكمن موروثنا العربي الذي يجري في دمائنا صغاراً و بمدادنا شباناً و على ألسنتنا كباراً؟
أظن أنه لا منطقة في البحرين تخلو من عشرات ممن ينظمون الشعر الفصيح المقفى رجالاً و نساءاً، إلا أنني أكاد اقول أنني لست على إطلاع على تجربة واحد منهم ممن احتضنته إدارة الثقافة ثم وزارتها.
قبل ذلك كانت أسرة الأدباء و الكتاب هي الكيان الذي يفترض أنه يمثل الأدب و الشعر في بلادنا، هذا الكيان مع احترامي للقائمين و المنتسبين له، حداثي حد الإنفصال عن وجدان الناس و اهتمامهم، فهو أقرب لمنتدى لا يهتم به إلا رواده. و كأن الثقافة صارت شأنا نخبوياً بحتاً لمترفي القوم. ثم وجدت أكثر ما وجدت في مثقفينا استغراقاً في النقد و إغراقاً في الكلام عن مناهجه و رموزه. هذا هو واقعنا. و بين هذا و ذاك، ينشأ الشاعر البحريني أو محاول الشعر متغذياً على بعض الكتب القديمة، و مشاهداً لبعض البرامج التلفزيونية اليتيمة و التي لا تكون من إنتاجنا المحلي قطعاً.
ينشأ هذا المتأدب باحثاً هنا عن كتاب للجواهري أو ناسخاً لكاسيت أمسية للسيد مصطفى جمال الدين. و قبل هذا و ذاك فقد يسعفه دخوله مجال الإعداد للمناسبات الدينية و كتابة أناشيدها و إلقاء الأشعار فيها.
ترى، هل كان طرفة بن العبد لينشأ شاعراً عملاقاً في هكذا ظروف، نلهث فيها وراء مظاهر الثقافة و نلتف على جمالية تراثنا و نشيح عما يطرب أسماعنا في المحافل، صدقوني لو استفدنا من الموجود لصنعنا واقعاً ثقافياً مغايراً تماماً، بإصدارات و دواوين و أمسيات و مهرجانات شعرية، إذ ليس من الدور المأمول لإدارة الثقافة أن تصنع لنا واقعاً ثقافياً، بل أن تفتخر بثقافتنا و تعرضها للعالم كله.
آخر الوحي:
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى *** بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له *** بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
طرفة بن العبد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق