الأربعاء، 29 فبراير 2012

الفتنة وثقافة الخبر








الأربعاء ٢٩ فبراير ٢٠١٢


خلال شهور ما سمي بالربيع العربي، هناك كثير من الظواهر والممارسات والمعالجات التي تستحق التوثيق والتوصيف والتحليل، لنتبين ما جناه علينا هذا الربيع أو ما جنيناه منه، لنحول آلامه إلى آمال وجراحه إلى دروس وأمراضه إلى أمصال لنتمكن في ساعة تليه أن نقول، رب ضارة نافعة.
وبالرغم أن ما كتب فيه كثير، إلا أن مرحلة قراءة الأدبيات لن تكون الآن، الآن علينا أن نكتب، وسنتفرغ فيما بعد لإعادة قراءة ما تم تدوينه، وسيقرأ ما كتبناه الكثيرون. جربنا مثل ذلك بعد أحداث التسعينات، فهناك كثيرون وكثيرون جداً ممن لم يقرأوا فكر التيار الديني المحافظ أو المدرسة التقليدية إلا في أوقات الرخاء حين ذهبت السكرة وأشرق الصبح لذي عينين. هذا هو مصداق أن الفتنة إذا أقبلت شبهت وإذا ادبرت نبهت، وهذا القول لعمري من أمهات البلاغة وجوامع الكلم.
وفي اعتقادي، لأن الحدث كان كبيراً وموجته كانت واسعة النطاق، فلا بد أن الانتباهة ستشمل نطاقاً أوسع، وحينها سيكون للتاريخ أن يسجل كل قول أضحك الثكالى، وكل تنظير استئصالي، وكل توجه نفعي مصلحي. سيعرف كل توجه إن كان تفكيره نابعاً من مبدأ راسخ، أو أنه تم تجييش عاطفته وعنصره وانتماءه المذهبي وتوجهه الرسالي لخدمة أغراض أبعد ما تكون عن مبادئه ونواياه المخلصة الممزوجة بحسن النية وبالثقة في قريب أو بعيد.
فالأحزاب سواء كانت أحزاب معارضة أو موالاة لا يهمها أكثر من أن تقوم بتوظيف صفاء النية عند الناس لخدمة أغراضها، ولا يهمها إلا ما ستجنيه من مصالح شخصية للحزب ولرؤساء الحزب على حساب البسطاء ثم على حساب مبادئهم.
لهذا، فإن الأحزاب كما رأينا خلال هذه الأزمة لا تزود الأتباع بالثقافة، وإنما تزودهم بالبرمجة والشحن، أو بمعنى آخر فهي تعتمد على توالي الأخبار والحوادث في رسم صورة الحق والباطل، وهي صورة مبنية على العاطفة، ولذلك فنحن نراهن على أن فعاليتها لا تستمر إلا ريثما يحدث حدث آخر يقوي تأثير سابقه أو يسرع تبديده.
من وقف في هذا الربيع العربي وطرح الفكر ومجابهة الحجة بالحجة بحيث تعرف جماهيره الخطأ والصواب بشكل مبدئي واستراتيجي وليس تكتيكيا؟ من زودهم بالفكر الذي يقيسون به الموقف بمقياس لا يجعلهم مزدوجي الرؤية ومنحازين لطرف؟ لماذا ننكر محرقة هتلر أو نثبتها؟ لماذا يكون تعاطينا مع صدام كما لو أنه بطل مقدام؟ لماذا نجعل الحق للشعب الليبي دون غيره من الشعوب حتى صار التدخل العسكري جائزاً في حالته؟ هل الحركة الخضراء في إيران ربيع أو خريف؟ هل الشعوب صاحبة الأحقية أم الحكومات؟
يبصم البعض أن أميركا وإيران هما صديقان حميمان في الخفاء عدوان في الظاهر. في هذه الحالة المتسمة بالتحشيش نوعاً ما، إما أن يكون المتحالف مع الأميركان عميلاً إيرانياً، أو أن المتحالف مع الإيرانيين ليس عليه بأس لأنها تقربه من أميركا زلفى!!
رأينا العجب حين وجدنا الدينيين مع المشروع الديمقراطي، والتكفيريين يبثون برامج تلفزيونية يديرها ليبراليون في اتجاه طائفي ومحافظين يدعمون ثورات شعوب أخرى بالغالي والنفيس رغم أن الثورة عندهم غير جائزة.
آخر الوحي:

عباس وراء المتراس
يقظ منتبه حساس
منذ سنين الفتح يلمع سيفه
ويلمع شاربه أيضاً
منتظراً محتضناً دفه
أحمد مطر

الأحد، 26 فبراير 2012

القرموطي









الأحد ٢٦ فبراير ٢٠١٢


أحمد آدم في فيلمه “معلهش احنا بنتبهدل” مثل الشخصية المحبوبة القرموطي، ذلك الرجل المصري ذو الشوارب المتدلية و الذي يمتلك قهوة في منطقة نزلة السمان قريباً من الأهرامات. كان يستضيف فيها السياح الأجانب و يصر على إجبار الجميع بتبني منطقه في التفكير و أسلوبه في الحياة.
المعلم القرموطي لم يكن يؤيد سياسة الرئيس جورج بوش الإبن، و كان يصرح بعدائه لسياسته، و المضحك أن الرجل كان كثير الإدعاء بكونه شخصية مهمة، فمرة يقول ان صدام حسين اتصل به هاتفياً، و تارة يتصل هو ليوبخ بوش، أضف إلى هذا قائمة من الصور المفبركة التي تجمعه بالرؤساء و التي يعرضها كل مرة ليدعي بها أهميته.
تتصاعد أحداث القصة حين تتحول أكاذيب و أحلام  القرموطي إلى كوابيس تلاحقه و تقض مضجعه، فهاهو جورج بوش يظهر في الفيلم و يقول أن القرموطي هو العدو الأول لأمريكا، ثم تأخذه الاحداث ليواجه صدام الحقيقي في العراق، و لكن لا نجد الرجل يعتزل الكذب و الإدعاء بعد أن ينجو من كل ذلك.
من يدعون البطولات الوهمية من شاكلة القرموطي الكثيرون، من ضمنهم من يتبجحون علناً بتأييدهم لتنظيم القاعدة، و يعتبرونها رمزاً للدين وللعزة و الكرامة. القاعدة التي لا تعدو كونها قصة من قصص والت ديزني المخصصة للكبار، و المنسوب إليها آلاف الجرائم التي قضت على كثير من البشر، يجاهر بعض الحمقى و الباحثين عن الشهرة بتأييدها و إن قتلت الأبرياء و دمرت البلدان و إن كان أذاها على المسلمين قبل غيرهم.
من هؤلاء رجل أقيمت له ندوة تكلم فيها عن الأخطار المحدقة بالنظام الأمريكي، و ما قاله في هذه الندوة هو مخيف بقدر ما هو مضحك. أما أنه مضحك فلكونه يعرض نفسه دوماً في هيئة المحيط بالأخطار التي تتهدد النظم و لأنه يتكلم عن فكر تكفيري إجرامي بودية شديدة تنم عن لوثة عقلية. و أما أنه مخيف فلأنه يحض على تبني هذا الفكر و لأنه للأسف يجد من يستمع إليه.
يقول في ندوته تلك التي عقدت ربما منذ عامين أو ثلاثة في البحرين “ انتم بمجرد أن يقال إرهابي، فقولوا هذا صديقنا، لماذا؟ لأن هؤلاء الذين يسمون إرهابيين هم أتقى الناس في العالم، و اشرف الناس في العالم، و أحسن الناس في العالم” ثم يقول “ أنا قابلت الملا عمر شخصياً، شرفت، أنا لي الشرف أني قابلته و جلست معه، رجل ليس من هذا العصر” ثم يقول “هؤلاء من ينفعون مع الغرب”.
رجل بمثل هذا التوجه و هذا الفكر تتم استضافته في البحرين، و بعد أن يقول كلامه هذا، تعاد استضافته في البحرين؟ هذا عار على بلد الاعتدال و التسامح السياسي و الديني أن تستضيف متشدداً تكفيرياً داعماً للإرهاب.
يقول عن نفسه أنه تكفيري ! ثم يأتي إلى البحرين ليسئ إلى شعبها و يتم الإحتفاء به ! هل تركنا للإعتدال من مساحة ؟ أم أننا نقوي التشدد بالتشدد؟ و نستورد للطائفية الطائفيين؟

آخر الوحي::
أي طرطرا تطرطري
تقدمي تأخري
تشيعي تسنني
تهودي تنصري
تكردي تعربي
تهاتري بالعنصر
تعممي تبرنطي
تعقلي تسدري

محمد مهدي الجواهري

الأربعاء، 22 فبراير 2012

قصة "عروه"











الأربعاء ٢٢ فبراير ٢٠١٢


هي قصة قديمة سمعها كلنا في طفولته ربما، إلا أنني و لطول العهد قد نسيتها، فجلست أتذاكرها مع بعض من سمعها، و فيما يبدو أنها كانت نسخة مطورة إلا أنها تحتفظ بالمضمون المهم، و لكن لكل زمان تعبيراته الخاصة به.
الاسم بضم العين وتشديد الراء على صيغة تقريع بعكس صيغة التدليل، فالبحرينيون و ربما الخليجيون عموماً عندهم لأكثر الاسماء صيغة تدليل و صيغة تقريع فخديجة يدللونها بخدوج و يقرعونها بخدووه ومحمد يدللونه بحمود و يقرعونه بحمدوه و هكذا دواليك. و لم أتمكن من اشتقاق الإسم الاصلي للفتاة عُروه. المهم أن قصة عروه أو خرافة عروه هي من القصص التي تضرب كمثل لمن يطاول في تحقيق أمر ما دون سبب و كما يقولون يطولها و هي قصيرة، و تضرب كمثل لمن يروي قصة مطولة بسبب طبيعة قصتنا هذه المعتمدة على الإعادة و التكرار.
والقصة في نسختها المستذكرة تقول ان فتاة اسمها عّروه قد خرجت في الصباح مع صديقاتها لجمع الثمار التي قد تكون ثمار التوت أو غيرها، و لم يأت وقت الظهيرة إلا و الفتيات جمعن ما تمنين من الثمار، إلا بطلة القصة عروه التي لم تتمكن من اتمام المهمة بسبب أن سلتها قد تمزقت. بقيت عروه تبكي مكانها رغم أن صديقاتها انصرفن لبيوتهن. و ارسلت أمها تطلب منها الرجوع للمنزل لتناول طعام الغداء، رفضت عروه و آثرت البقاء و هي باكية على حظها العاثر في جمع التوت. فكان أن أرسلت الأم إلى الكلب الذي في الناحية و قالت له هل لا عضضت عروه ابنتي لترغمها على المجئ؟ فرفض الكلب ذلك. فأرسلت إلى العصا لتضرب الكلب ليعض عروه لتعود المنزل و تتغدى، فتتلكأ العصا و تعتذر. فترسل الام إلى النار لتحرق العصا فتضرب الكلب فيعض عروه فتتغدى. و حين ترفض النار ترسل الأم إلى الماء ليطفئ شيئاً من النار فتسارع إلى حرق العصا لتضرب الكلب ليعض عروه فتتغدى، و حين يستكبر الماء، ترسل الأم إلى الجمل ليشرب من الماء فيهاجم الماء النار فتحرق النار العصا فتضرب العصا الكلب فيعض الكلب عروه فتعود للمنزل لتناول الغداء، و يرفض الجمل. هنا تصل السلسلة إلى المخلوق الصغير وهو الذبابة فتقوم بإزعاج الجمل بالدخول في منخره، فيسارع لشرب الماء الذي يهرب ليهدد النار فتهدد العصا فتلوح للكلب فيفغر فاه ليخيف عروه التي تهرول سريعاً إلى المنزل و تتغدى.
هذه القصة في طولها و تعقيدها هي أشبه ما تكون في واقعنا بقضية المفصولين التي طالت كثيراً و تشعبت و كان النفر منا يبتعد عن الكتابة عنها لإحساسه بتعقيدها و لتمنيه ان الخيار القادم سيكون فيه الحل. لكن الأمر طال و تعقد و تشعب. ففي أول ظهور له حمل البروفيسور بسيوني بشائر بأن المفصولين سيعودون بحسب ما بلغه من توجيهات ملكية، يومها راهنت بأنهم سيعودون سريعاً خصوصاً و الرجل قد وضعت مصداقيته و مصداقية جدية التعامل مع لجنته في ميزان واحد حين يحمل هو هذه البشائر. و للأسف لم تتقدم القضية، و ظلت توجيهات القيادة تتوالى في اتجاه الحل فسمعنا جلالة الملك يأمر أكثر من مرة، ثم سمو رئيس الوزراء يوجه و سمو ولي العهد يتابع، ثم رئيس السلطة التشريعية يتم تكليفه مع لجنته ثم وزير العمل يجتمع، و يتم تأجيل الموعد النهائي في كل مرة.

المزعج أن أشخاصاً يخرجون بين الفينة و الأخرى معترضين على رجوع المفصولين رغم أن التوجيهات تكلمت عمن كان فصلهم غير قانوني، ففيم تحذلق من يعترض على الرجوع فيما يتشدق مثله بمطالبته بسيادة القانون، وبأن ولاءه للقيادة، و هو يخالف توجيهات القيادة المعلنة والمنشورة في الصحف والتي لا تقبل تأويلاً ولا تعليلا. هناك من تكلم عن أن مفاصل الدولة قد غزاها أناس، إلا أن من غزاها فعلياً هو من يمكنه الوقوف في وجه توجيهات عليا سامية من القيادة الحكيمة كالتي ذكرتها، و الله المستعان على ما يصفون.
الطريف أن الخبر المنشور هذا الأسبوع من أن الشركات التي وضعت شروطاً اعتبرت غير منصفة قد تراجعت عنها، لاقى تعليقات سمجة و غير مقبولة من البعض في مواقع التواصل، رغم أنني أكرر أن التوجيهات كانت لإنصاف من كان فصله غير قانوني، أما من كان فصله قانونياً فهذا شأن آخر لسنا بصدد الكلام عنه.
ووجدنا قبل ذلك عريضة يوقعها عدد من النواب ترفض إرجاع المفصولين، ولا نريد أن تطول القصة مرة أخرى فنقول إن كان فصلهم قانونياً و إلا فالواقفون مع استمرار انقطاع أرزاق مئات البحرينيين يحتاجون ليراجعوا موقفهم من القانون وربما الإنسانية والاخوة الوطنية. سدد الله توجيهات القيادة إلى ما فيه خير البلاد والعباد و ثبت خطاها لحفظ اللحمة و جمع شمل الأمة، ولا عزاء للمكارثيين.

آخر الوحي:
أفبعد ما مكنت من أسبابه
ألقيت قلبي في جحيم عذابه
قلبي الذي لم يحو غيرك في الهوى
لا عاذلاً، لا شامتاً بمصابه
لم يدر ما شوق الفراق ولا درى
ما الوصل إلا في قصور سرابه

الأحد، 19 فبراير 2012

مآثر أبي صابر








الأحد ١٩ فبراير ٢٠١٢


 يقال أن أبا صابر كان واقفاً ذات يوم يستظل تحت شجرة، و يبحر بفكره في تاريخ أسلافه من حمر العظماء و المفكرين، و الذين سجل التاريخ ما حضروه من أحداث و ما كان لهم فيه من دور في نشر العلم و الثقافة و إن لم يستفيدوا منها حين حملوا أصحابهم  و مؤلفاتهم من بلد إلى بلد. تذكرهم و هم يشاركون بأدوار مهمة في كتابات المؤلفين و الكتاب كتوفيق الحكيم و في نوادر جحا. و بعد كل هذا صدح بصوته متناسياً كم ينزعج المحيطون من صوت الحمار و نهيقه في ذلك النهار القائظ الذي يأوي فيه الناس للقيلولة بينما هو مربوط في الخارج.
 مررت به في ذلك الوقت و وجدت هذه الفرصة السانحة التي يكون فيها مزاجه معتدلاً للمحاورة، فبادرته بإلقاء التحية على طريقة عمر كلول رئيس حزب حمير كردستان بثني الوسطى و السبابة ثم فردهما مرة أخرى بطريقة تحاكي ركلة أبي صابر الثنائية الشهيرة. رد التحية فبادرته بالسؤال عن سبب سعادته و نهيقه في هذا الوقت الحار، فقال لي يا رجل أنا سعيد لأنني فكرت في واقعي فوجدت نفسي لا أقل عنكم معشر البشر في شئ، و إنما استخدامكم لي يدل على عظم قدرتي و عجزكم، عن صبري و جزعكم عن نشاطي و كسلكم، عن قناعتي و طمعكم.
 يقول من يجهل قدري يسميني مطية و ينسى أن كل طامع صاحب غرض يتخذ المطايا و يفخر بأن فلان من بني جنسه مطية للوصول إلى هدفه، أتراني أعتبر كلامه ذماً للراكب الطامع أم مدحاً لصبري في طاعته حتى صار يسمي أمثاله من البشر مطايا؟
 ثم قل لي بربك، إذا كانت أعظم الدول و المفكرين السياسيين حين يتكلمون عن سياسة الترهيب و الترغيب لدول أو أحزاب أو أشخاص يتكلمون عنها باعتبارها سياسة العصا و الجزرة، أليس هذا استحماراً ما مثله إستحمار، لقد بسطوا مفهوم الترغيب و الترهيب ليفهمه الجميع عبر قضية العصا و الجزرة، أيظنون أنني لا أفهم هذه الثنائية؟ بل ربما فهمتها اكثر ممن يقوم بالتنظير لها وممن يستخدمها و ممن تستخدم عليه، إنما لا أكابر على أن قدري أن أعيش تحت رحمة صاحبي، كما فهمت أكثر الأحزاب السياسية مؤخراً و الحكومات أن أمريكا قدرهم، و أن عصاها و جزرتها لكل مسئ و محسن لسياستها على الكرة الأرضية. ألا ترى مجاهدي الأمس و متهمي الحكومات بالعمالة يبسطون أيديهم و يمدون أفواههم للجزر، أنظر حولك للمعارضات الإسلامية و العلمانية و حتى ما كان منها تابعاً للقطب الآخر، كلهم يسبحون و يقدسون بحمدها و بحمد الجزر الذي يقدمه النظام العالمي الجديد.
 و ها أنا ذا رغم علمي أن الجزر المقدم خدعة و أن وجبتي ستكون البرسيم، إلا أنني أشارك في اللعبة للتسلية و تسليماً بالقدر كما قلت، لكن ألا ترى المعارضات و أحزاب الموالاة و قبلهم أنظمة الحكم كيف تستحمركم جميعاً و أنتم موافقون حتى تشيع فيكم تصديق مالا يصدق و ترسم لكم عالم الأحلام فتتخيلون حدائق البرسيم و جنان الشعير و رياض الجزر؟ ثم قل لي من يستفيد منكم غير قوت يومه إن حازه بينما قياداتكم كما صاحبي لا يمسها تعب ولا نصب و لها الربح من الوصول للسوق و بيع المنقول. نعم تحصلون من الألقاب و المفاخرات بكم كما أحصل أنا على البطل الصامت و أبوصابر و أبو الخير و غيرها من ألقاب لا توسع مسكني ولا تزيد مأكلي بل ربما زادت شقائي و سلطت علي عيون الحساد و أيديهم.
 قلت له كلامك صحيح ربما لكنك تفتقر للإرادة و مغلوب على أمرك باعترافك، أما نحن فكائنات ذات إرادة. ضحك أبو صابر هازئاً على طريقته عبر النهيق المتقطع و قال، أي إرادة تتكلم عنها يا رجل، إن تمردك يشبه الحمار الذي يحرن فيبيعه صاحبه إلى آخر ثم يوصيه بالحذر منه و يبيعه بثمن بخس فيتنقل من نخاس إلى آخر. قل لي يا هذا؟ هل تختارون قيادات المعارضة فضلاً عن قيادات السلطة؟ إنهم يبرزون إليكم بالوعود كما مترشحي الإنتخابات مجللين بهالات الوعود و متزينين بأوسمة يضعها لهم دوماً من يكون موعوداً بمنصب الرجل الثاني و محتمين بدروع بشرية تكمن قوتها في أعدادكم و تضحياتكم و تصديقكم، و أنتم سكارى بأناشيد النهام التي تقوم بتوصيف قوتكم و صبركم و شرف سعيكم لصيد اللؤلؤ الذي ستطعمون منه عيالكم فيما حقيقة الحال أن الربح للنوخذة و الطواش و الموت للغيص و الرضيف. أجبني ألا يسمى قائد أي معارضة بالزعيم الشعبي دون أي إنتخاب حقيقي، و قل لي كم معارضاً برز نجمه و أفل بعد أن تم تسقيطه من رفاق دربه بسبب خلاف ربما يكون شخصياً بينما تهتفون أنتم مات المعارض عاش المعارض.
ناشدته مستعطفاً لعلك لا تنكر أن شعوباً حازت انتصارات حملت لها العزة و الكرامة و العيش الرغيد. هنا تنهد تنهيدة و هز رأسه متأذياً و قال لو كنت معي في مشوار اليوم و سمعت الزبون الذي رضي عن الخدمة يقول لصاحبي خذ أجرتك مضاعفة و خذ ثمن تعب حمارك لعلمت أن ما تراه من انتصارات و احتفالات هو ليس احتفالاتكم كشعوب و إنما تغطيات و مصالحات تقدم لمرة واحدة كوجبة برسيم إضافية لتنسى العصا من قبل و تستعد بها للعصا بعد. يا صديقي مادام صاحبك يرى أذنيك طويلة فلن تستطيع إلا أن تكون مثلي و مادام ظهرك معداً للإمتطاء فمن يقاوم راحة البردعة لأجل تعب المشي المضني.
 ودعته قائلاً: أأنت تدعوني إلى اليأس و عدم التجربة و الإعتزال؟ فقال بل أدعوك أن تتوقف عن تقديم الثمن و عن حمل الآخرين، أنا ضحية و الضحية لا يمكنه الثقة مجدداً في أحد، و إذا لم تكفك التجارب في التاريخ و تصر أن تكررها دون تغيير فأنصحك بشراء قبعة تغطي بها أذنيك اللتين سيطولان شيئاً فشيئاً دون أن يطول أنف الكذابين و محتالي السياسة.

آخر الوحي:

تريدين..
في لحظتين اثنتين
بلاط الرشيد
وإيوان كسرى..
وقافلةً من عبيد وأسرى
تجر ذيولك..
يا كليوبترا...
ولست أنا..
سندباد الفضاء..
لأحضر بابل بين يديك
وأهرام مصرٍ..
وإيوان كسرى
وليس لدي سراج علاء
لآتيك بالشمس فوق إناء..

نزار قباني

الأربعاء، 15 فبراير 2012

التحريف البين ٣









الأربعاء ١٥ فبراير ٢٠١٢


رغم أن المزمع لهذا الموضوع كان أن يتركز على زاوية أوسع في نوعية المفاهيم المحرفة، إلا أنه تركز على مفهومي الديموقراطية و الدولة المدنية من الناحية النظرية، ثم توسعت في المقال الفائت ليحيط بتوصيف الواقع العملي في البحرين لأمور متصلة و هي مدى إسلامية الشارع حقيقة و هل يمكن التعويل عليها للدفاع عن العقيدة و الشريعة أم لا. وإن كان المفهومان قد دخلا على موضوعنا من نافذة مقال “الاشتراكيون أنت إمامهم” فضيقا على ذلك الموضوع و قاما بغزو هذا الموضوع. إلا أن أحاديثنا الأريحية في هذه المقالات لا يضيرها التبسط و تقديم موضوع على الآخر ما دام الجميع في سياق توضيح ما تم تحريفه من مفاهيم و سرقته من تراث ليجير في خدمة الأحزاب.
بل ربما كان من حسن الطالع ما حصل من تضييق على الموضوعين لأنهما شديدا القرب فصار دمجهما لطيفاً في بعض النواحي. حيث أن المصداق و المفهوم إذا التقيا صارت الصورة أوضح و أقرب للتدبر و الفهم.
يقول العلامة المدني في كلمة بعنوان “معالم التحريف في الثقافة الإسلامية” ألقاها في أكثر من جزء في عام 1980 واصفاً أحد التيارات التي كانت تسعى لتحريف الثقافة الإسلامية:
“هذا التيار أول عمل عمله هو محاولة تحويل الإسلام إلى مبدأ فلسفي بدل أن يكون ديناً سماوياً، فنفي الخوارق و المعجزات في إثبات النبوة و هو في حقيقته إنما يقصد به تحويل الدين الإسلامي إلى مذهب فلسفي كسائر المذاهب الفلسفية التي يصح أن يؤخذ به و ألا يؤخذ به، و يبقى الناس أحراراً في ذلك”.-انتهى الإقتباس.
وفي اعتقادي أن هذا النوع من أنواع التحريف هو من أخطرها حيث صرنا في عصرنا الحاضر نتكلم عن الدين و الشريعة بالفعل كفلسفة حياة ربما قمنا بمزجها ببعض موروث البوذيين و الهندوس و شئ من ديموقراطية الغرب و قليل من فلسفة ملاحدة الشرق، و ربما ختمنا الأمر بقولنا أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهي له.
بالأمس فقط كنت أتكلم مع أحدهم عن نقطة معينة من الوارد في الهدي النبوي فقال انه لا يؤمن بهذا الكلام، فما تتكلم عنه تظنه مكروهاً وليس حراماً حتى. أقول لو كان مكروهاً وليس واجباً عليك الالتزام به فليس لك تسخيفه، ثم ان تسخيف الموروث الديني يرافقه حالة من الإعجاب الشديد بحضارة الغرب عند البعض و محاولة نسبة بعض ما ينظر إليه كحسنات إلى الدين الإسلامي، فترى القومي يركز على أحاديث تمدح العرب و البعثي ينادي أنها الأمة التي أنجبت محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و الشيوعي يراه إمام الإشتراكيين و الرأسمالي يريد أن ينسب إلى الإسلام الرأسمالية و هكذا دواليك في رحلة البحث عن المشتركات في محاولة تغطية النقص واستدعاء التحضر لثقافته بطريقة تسمح له باتباع الثقافات الأخرى بلا تحرج.
والطريف أن من يؤصل لفكرته قد قسم شخصيات التاريخ إلى تيارات سياسية، فنجد أبا ذر الغفاري و قد ألبس ثوب ثائر اشتراكي مثل جيفارا و نرى من يشبه الإمام علي بالشيوعيين و من يشبه النبي بإمام الإشتراكيين. و عندنا فهناك من قسم أئمة أهل البيت إلى أئمة مهمين و آخرين ليسوا كذلك، و بعضهم ثائرون و آخرون مسالمون، و إلى غير ذلك من التصنيفات التي يقصد بها الكاتب تدعيم أفكاره و مواقفه بالتأصيل لها تأصيلاً بلا أساس.
نفس هذا النوع من محاولة التأصيل والذي هو في الواقع تحريف دفع البعض إلى مقولة “نحن حسينيون لا حسنيون” في أسلوب انتقائي لا يؤمن به متشيع، و لكن ربما مارسته بعض الأحزاب دون أن تستطيع التنظير له بعبارات صريحة قد تتصادم مع الوجدان الواقع تحت تأثير التخدير.
من خلال هذه التحريفات دخلت علينا مفاهيم الديموقراطية والمساواة بين الجنسين وجهاد المرأة والحرية الشخصية والكثير من المفاهيم التي تحارب مفاهيم إسلامية أخرى، فهل يمكن إرجاع المفاهيم إلى حقيقتها بعد أن قبلناها نظرياً و بدأ الغرب في رفضها عملياً.

آخر الوحي:

إن أبا علامة الزمان
أفتى بأن الصوم ركعتان

الأحد، 12 فبراير 2012

التحريف البين ٢








الأحد ١٢ فبراير ٢٠١٢


فيما دار الكلام في المقال الفائت عن الرد على اشكالات المتحمسين للديموقراطية، فإن المقال قد يقال أنه يعيبه  الإغراق في الجانب النظري وكأنه يتكلم عن احوال مستحيلة التحقق، و مواقف لا يمكن لها الحصول.
لذلك أفردت هذا المقال لمناقشة بعض المواقف العملية لتؤيد ما افترضنا نظرياً إمكانية حصوله بل ربما حتمية حصوله، مع مراعاة عدم ذكر أسماء الأشخاص لا تحرجاً من شئ، فما سأنقله يمثل مواقف معلنة من أصحابها و أحاديث نشرت في بعض وسائل الإعلام، و لكن لنبتعد بالطرح عن أي شخصنة قد تحملها التسمية و لأن المثال يقرب و يبعد ولا شك أن الشخصنة مما يبعد مغزى المثال. قلت في المقال السابق أن الرهان على وجود الشارع الإسلامي كضمانة للحفاظ على الشريعة و إسلامية التشريع هو رهان قاصر النظر ، و أقول اليوم أنه يفتقد إلى قواعد المنطق والإستقراء و عاجز عن الربط بين نوعية الأطياف المختلفة الموجودة حالياً في الشارع و ما يمكن أن تفرزه من مخرجات على مستوى التشريع.
 في الحالة البحرينية يوجد تحالف قائم منذ التسعينات على الأقل بين أحزاب الإسلاميين و التيار اللا ديني في صلح غريب عن الحالة التي كانت موجودة في ستينيات و سبعينيات القرن الفائت و غريبة عن الأدبيات السابقة لأطراف و رموز هذا التحالف أنفسهم. فمن يراجع أدبيات الإسلاميين حتى ما قبل التسعينات يجد الهجوم المتبادل و الحرب الباردة بين هذين الطرفين عموماً و التي جاءت عقب حرب ضروس  تمثل أوجها في مقتل الشهيد عبدالله المدني رحمه الله.
و هذا الصلح الذي نتكلم عنه كان تجري خلاله تقاربات و تباعدات بين التيار الإسلامي  و الليبراليين، تصل إلى حد التنديد بالعلمانية من جانب الإسلاميين و التذمر من طغيان الإسلاميين و غرورهم من جانب تيار اليسار. و تصل في أوقات إلى تنظيرات الإسلاميين للمقاربة تقارن بين ما تعتبره جائزاً و هو التنسيق بين الطرفين و بين ماهو محرم يتمثل في التمكين لهم عند قلوب الناس.
 هذه العلاقة التي كانت تكسر الكثير من المتعارف حين تجمع بين النقائض سعياً للوصول إلى حالة يكون فيها الإسلاميون لباساً لليساريين و اليساريون لباساً للإسلاميين تجمعهم المصالح المشتركة و ربما فيما بعد المودة و الرحمة. يستفيد اليساريون من الإسلاميين للوصول إلى الداخل و يحصلون على نسخة من مفتاح البيت تمكنهم من التواصل المباشر و غير المباشر مع الجماهير، بينما يهدي اليساريون جواز سفر للإسلاميين يوصلهم إلى الخارج حين يخلصونهم من وصمة الطائفية خصوصاً و أولئك ينتمون إلى عوائل و أصول من مختلف المذاهب.
 من راقب هذه العلاقة في أوج عهود الخصام يتصور استحالة أن يصل الإسلاميون و اليساريون  رغم خلافهم الفكري الشديد أن يصل الطرفان إلى شهر عسل تصل فيه رموز الليبراليين و الإسلاميين أن يكون توصيفهم أنهم يتخندقون في خندق واحد. و مع ذلك فإن الوحدة بين التيارين حتى عهد قريب لم تبلغ حد الإمتزاج التام آنذاك بحيث بقي أكثر الليبراليين الحلفاء آنذاك قابعين في دوائرهم الإنتخابية و لم يتجرأوا حتى في انتخابات 2010 على محاولة تقاسم الكعكة الإنتخابية مع الإسلاميين، لأن فعل ذلك ربما كان لينهي شهر العسل باكراً.
 و الحال أن الوضع اليوم وصل إلى ماهو أبعد من التنسيق في الأنشطة أو التمكين في قلوب العامة، حيث ذابت بعض الثوابت الفكرية للطرفين إلى درجة أننا رأينا في الأسبوع المنصرم قيادياً في جمعية إسلامية يجدد الدعوة لتبني نموذج علماني في التشريع و الحكم و ما يفهم من كلامه أنه يدعم تعويم الدستور بحيث لا يكون مرتبطاً بالشريعة بل يكون مدنياً ديموقراطياً. كل ذلك بدعوى أنه لا يمكنك إكراه أحد في عقيدته و بدعوى توفير الحرية الدينية، رغم أنه في بداية كلامه يشيد بالحرية الدينية المتوفرة للأقليات في دولة دينية كدولة الرسول.
 هل وصولنا للتأكيد على مثل هذا الكلام من مطالبة بنموذج مدني مراراً و تكراراً هو استجابة لمطالب التيار اليساري، و الذي ما فتئ الإسلاميون يدثرونهم بدثار “الوطنية” فيسمونهم الوطنيين و كأن الوطنية حكر على الإنسان غير الديني. ثم لماذا أسمي نفسي إسلامياً إذا كان مشروعي يسعى لإزالة إسم الإسلام من الدستور و محو دين الدولة لتكون دولة بلا دين بدلاً من ترسيخه مع مراعاة حقوق الأقليات من ذوي الديانات الأخرى و الحفاظ على مصالحهم؟ صدقاً لا أرى جدوى من تسمية إسلامية لجمعية تسعى لنزع هذه الصفة من دستور دولتها إن صح فهمي لما تكرر ذكره من قبل قياديي هذه الجمعية الإسلامية.
 ولو رجعنا لبعض تصريحات “الوطنيين” لربما وجدنا سر الداء و أساس المعضلة حين يقول قيادي في إحدى جمعيات التيار (الديموقراطي) : “على الإسلاميين أن ينزلوا عن صهوة جواد الغرور، الإصرار على تطبيق الشريعة يمنع قيام التحالف الوطني”. و السؤال: هل تنازل نخبة من يحملون هم الشارع الإسلامي عن ما سماه الرجل بالغرور فقام على إثر ذلك ما أسماه بالتحالف الوطني؟ و إذا كان هذا هو الحال من الآن، و من النخبة، فكيف بالرهان على المدى الطويل و على الشارع الذي أجزم اليوم أنه ينظر لبعض اليساريين كرموز يلقي إليهم بالمودة و يتخذهم بطانة في كل خندق. و للحديث صلة.
آخر الوحي:
يا سادتي:
 إن السماء رحيبةً جداً..
 ولكن الصيارفة الذين تقاسموا ميراثنا ..
 وتقاسموا أوطاننا ..
 وتقاسموا أجسادنا ..
 لم يتركوا شبراً لنا..
نزار قباني

الأربعاء، 8 فبراير 2012

التحريف البين








الأربعاء ٨ فبراير ٢٠١٢


أثار المقال السابق وبعض المقالات المتصلة بموضوع الديمقراطية وتشويه المفاهيم جملة من الإعتراضات - كما كان متوقعاً لها- من بعض القراء. وكما توقعت فإن بعضها كان متركزاً حول نقاط من أمثال أن من يرفض الديمقراطية كمبدأ فهويدعم الإستبداد، ومن نوعية من يشير إلى أن التعارض غير متوقع بين الإسلام والديمقراطية خصوصاً والشارع يغلب عليه التوجه الإسلامي ومن صنف من يرى عدم الواقعية في هذا الطرح لأن الواقع الحالي لا يعكس الإسلام كما يجب فلا تعتبر الديمقراطية خروجاً عنه ومن توجه يقول أن من يقف بوجه الديمقراطية فهويرفض جملة المكاسب التي ستأتي بها.
أقول بادئ ذي بدء أنه وبغض النظر عن المشكل السياسي القائم في البحرين حالياً، فهو مشكل له أطرافه الذين يعرف كل منهم الحد الأدنى من مطالبه ومن لا يحسب على أحد هذه الأطراف فهو واقعً خارج معادلة المشكلة وبالتالي خارج معادلة الحل. إلا أن وجودك خارج المعادلة في أي وقت من الأوقات لا يعني أنه لا يحق لك طرح رأيك بصراحة وأريحية، خصوصاً وأن ما تصل إليه الاطراف سينعكس عليك بالضرورة. ثم في ردٍ مختصر على المقولات الأربع التي ذكرتها وهي مجمل الإحتجاجات على من لا يتفق مع الإتجاه الديموقراطي أقول:
ليس صحيحاً القول إن من لا يطالب بالديمقراطية فهو يؤيد الإستبداد، فلا أحد يعترض على حق المشاركة السياسية أو حق الرقابة على أداء مؤسسات ووزارات الدولة ولا على حرية التعبير، بل ربما أقول أنها أمنيات السواد الاعظم من الناس. ولكن هل هذه هي الديمقراطية؟ قطعاً هذه من ملامح النمط المتقدم في الحكم ولكن الديمقراطية أعمق من مجرد هذه الملامح. فالمرفوض في الديمقراطية عند عموم الإسلاميين الذين أعرفهم ليس ما ذكرت من ملامح وإنما يرفضون أنها تجعل التشريع إجتهاداً لا يعتمد النصوص ويكون فيها توافق الأغلبية هوالفيصل وليس الشرع أو أي مصدر آخر. طالب بصيغة اخرى لا اشم منها رائحة العداء للدين وتأكد أنني لن أستطيع الوقوف ضد فكرتك. ونقطة أخرى يجب الإلتفات إليها وهي أن مجيء الديمقراطية أوحتى المشاركة السياسية ضمن أي نظام يعتمد التصويت لن يلغي جانب الإستبداد، بل سيغير مصدره بعد أن كان إستبداد الأفراد والمتنفذين إلى إستبداد الحزب، وكما قيل يعود الإمبراطور أو القيصر في هيئة الأمين العام للحزب، وقد رأينا بعض ذلك حين صارت الجمعيات تفرض مرشحيها فرضاً بغض النظر عن كفاءاتهم وإمكانياتهم أو تاريخهم في العمل الإجتماعي والسياسي. ولعل مقياس اختيارهم كان ما يراه من جعل بيده الاختيار، فصار مجلس النواب أيضاً مجلساً نظامه التعيين بيد أشخاص لا يحق لك حتى نقاشهم أو الجلوس معهم. نعم، الديمقراطية لا تستوجب إلغاء الإستبداد ولكن يتمكن من ممارسته أشخاص عاديون بدماء حمراء إلا أنه استبداد في النهاية.
أما من يعول على الشارع الإسلامي في عدم تعارض الديمقراطية مع الدين فهو متجاهل لعدد من النقاط المهمة، أولها أن توجه الشارع لا يمكن الإعتماد عليه خصوصاً إذا كان هذا الشخص يعلم كيف يمكن التأثير على الرأي العام وتقليبه يميناً ويساراً، وكيف أن المسلمين لديهم مصطلح يسمى “الفتنة” على أساسه يغلب الضلال في فترات الفتن على توجهات الحق والرشد. ثم إننا نرى حالياً عدداً مخيفاً من المفاهيم المحرفة تجعلنا نجزم أن الشارع الإسلامي قد تم تفريغه من جزء كبير من محتواه فوقع في حالة اختلال يحتاج إرجاع التوازن فيها إلى وقت ليس بالقصير إن أمكن إرجاعها أصلاً. وهنا لا يمكننا الرهان على أن الشارع الإسلامي هو الضمانة الحقة مالم تكن هناك نصوص أمامه تذكره بين الفينة والفينة وتمنعه من تجاوزها ولو لبعض الوقت. مثل هذا الرهان قصير النظر يقيس كل الأزمنة بالزمن الذي نعيشه، ويكفي للتوضيح أن نقارن تقلب الأحوال خلال الخمسين سنة الماضية لتتبين الفكرة.
ثم إن من يرى أن الواقع الحالي لا يعكس الحكم الإسلامي لتكون الديمقراطية خروجاً عنه، فهنا يتوجب توضيح نقطة مهمة، وهي أن الموجود من أخطاء أو تجاوز للإسلام في وضع التشريعات لا يوجد توافق عليه أو رضا عن حصوله من الجميع. ولكن لا يصح أن نطالب لتصحيحه أن نصنع قالباً للتشريعات لا هوية له ولا مرجعية، وكأننا نقول إن الشريعة هي ما يجمع عليه الناس وأننا جميعاً لا نعبأ بأن نحكم بغير ما أنزل الله إذا اتفقنا عليه.
وأما حول رفض المكاسب التي تأتي بها الديمقراطية أقول، وهل جلسنا جلسة واحدة مع من يدعونا إلى الديمقراطية نسأل فيها عن المخاطر والسلبيات والخسائر التي سنخسرها منها، أم اننا قبلنا منه بسذاجة بالغة انها جنة الخلد و الملك الذي لا يبلى؟ هل هناك ممن دعا إلى تبني هذه الفكرة من وضح للناس ما سيخسرون من ورائها قبل ما سيجنون؟ إن لم يفعل فتذكروا قصة “لا تقربا هذه الشجرة”. وهنا آسف أن يضطر المرء للكلام بصورة براجماتية وحسابات الربح والخسارة عما يتوجب أن يكون أمراً مبدئياً.
كل هذه الأمور أعلاه ليست هي جل ما يسوءني في الديمقراطية، بل كل هذا ردود مختصرة على تساؤلات متكررة، وإنما ما يسوءني هو تغشيش أذهان الناس حول الديمقراطية وتصويرها جزءاً لا يتجزأ من الدين وتسويقها للبسطاء من قبل من يفترض بهم تنبيه الناس لا تخديرهم، وحول التحريف البين  فللحديث تتمة.

آخر الوحي:
يا سائلي عن حاجتي
الحمد لله على الصحة والرغيف
وما تقول الصحف اليوميه...
عندي صغارٌ يملأون البيت
وزوجةٌ وفيه.
وفي الخوابي حنطةٌ وزيت.
لكنما مشكلتي...
ليست مع الخبز الذي آكله
ولا مع الماء الذي أشربه
مشكلتي الأولى هي الحريه....
نزار قباني

الأحد، 5 فبراير 2012

الإشتراكيون أنت إمامهم








الأربعاء ٥ فبراير ٢٠١٢


في جلسة حوارية أشبه ما تكون بالمنتدى المفتوح، تكلم بعض الأساتذة عن مفهوم الديموقراطية و تداخله مع مفهوم العدالة و تعارضه مع بعض المفاهيم الدينية الأساسية في دين الإسلام. الإسلام باعتباره لا يقتصر على العقيدة و ممارسة الشعائر العبادية و إنما يمتد ليمثل شريعة تغطي جميع مناحي حياة المسلم. ولعله قد تم تعطيل الجزء الواسع من هذه الشريعة و صارت حياتنا الدينية مقتصرة على شعائر العبادة و تقسيم المواريث و عقود الزواج و مسائل الطلاق و النفقة.
أحد أوجه التعارض الذي تم التأكيد عند ذكره على ما تم توضيحه مراراً من قبل وهو إستناد الديموقراطية إلى أن التشريع هو حق الناس يتوافقون على مواده و قوانينه فيمثل شريعتهم، بغض النظر إن كان ما يتوافقون عليه نابعاً من شرائع ذات أصل سماوي أو أهواء أو مبنياً على قوانين وضعية مستنسخة من أمم أخرى. طبعاً هذا الإشكال هو على المستوى النظري و مؤداه المتعارض مع العقيدة هو أن الأمة تتوافق على أن التشريع لا يعود سماوياً بل هو أرضي، فبذلك يحصل إنفكاك عن الإلتزام بالشرائع.
لا شك إن الجدل في هذا الموضوع يحتاج إلى مساحة واسعة، إلا أن ما أردت توثيقه هنا هو أن الديموقراطية أدخلت قسراً في ثقافتنا، رغم أننا لا نحتاج أن ننتسب إليها لزيادة مساحة حرية الرأي أو للمطالبة بحق المشاركة السياسية سواء في الإدارة أو التشريع أو الرقابة. إلا أن ما يروعك كمتلقي هو حين تكتشف أن هذا المفهوم الذي رفضه المفكرون الإسلاميون صار يستخدم بأريحية بالغة من سياسيين ينتسبون إلى الخط الإسلامي، و بشكل لا يوضحون للناس فيه التناقض النظري الموجود، و العملي الذي يصطدمون به عند بدء التطبيق. و السؤال، هل عندنا من المفكرين من هو أمين على المفاهيم بحيث يوضح للناس أن الديموقراطية ليست من الإسلام و أنها لا تعني العدالة؟
فهذه الكلمة التي تدل في معناها الواسع على حكم الشعب لنفسه و القائم على حكم الأغلبية و في معانٍ ضيقة على نظام التصويت لا تعني العدالة أبداً و إنما هي آلية و نظام حياة كغيره من النظم التي تقوم عليها الدول و تدعي من خلالها توفير العدالة، و هو تبشير يقوم به كل صاحب فكرة أو نظرية.
المدهش أن هذا الخلط و الإلتباس الذي يقع لبسطاء الناس وقع فيه حتى بعض النخب، فحين يدافع شخص عن مشروعه ليقول أن التوصيف الدقيق لمشروعه ليس الليبرالية بل الديموقراطية، فإنه واقعاً لم يجمل الصورة بل ربما زاد من قبحها. ذلك أن الإستيحاش الذي يقع فيه الناس المجبولون على التدين من كلمة ليبرالي نتيجة ارتباطها بالتحرر من القيود الدينية ليس نفسه في بعض التوصيفات العلمية للديموقراطية. إذ أن الديموقراطيات الليبرالية تتميز بأنها تراعي حقوق الأقليات و الأفراد بخلاف الديموقراطيات اللا ليبرالية التي قد لا تلزم نفسها بهذا الإلتزام تجاه الأفراد و الأقليات.
بعد هذه الجلسة الحوارية حاولت التأكد من فهم الأساتذة للديموقراطية إذ أن الكلام الذي ذكروه رغم رصانته خطير و يستلزم أن السكوت عن هذا الخلط الحاصل هو إخلال بالأمانة على المفاهيم. قمت حينها بالبحث عبر الإنترنت فوجدت استطلاع رأي قامت به البي بي سي في منتصف العقد الفائت عن مدى إمكانية التوفيق بين الإسلام و الديموقراطية. حين تقرأ ما كتبه المشاركون و تستبعد المشاركات ذات الطابع الإنشائي  تجد أن المشاركين يؤكدون على أن الإسلام لا يمكنه التعايش مع الديموقراطية. بعض هؤلاء كانوا من المسيحيين و الآخرين كانوا بين العلمانيين أو الإسلاميين. الطريف أن كل هذه الإتجاهات المتناقضة رفضت أي تناغم ممكن بين المبدأين و استحالة تعايشهما عملياً أو تقاربهما نظرياً.
و في ذات اليوم كنت أقرأ عبارات لفقيه معاصر كان يندد فيها بالديموقراطية الغربية وبكل الأيديولوجيات المادية و يؤكد على هزيمتها. و أوكد هنا على أن انتقاد الديموقراطية لا يعني رفض مشاركة القرار السياسي أو الدعوة لكبت  الحريات الشخصية المشروعة و إنما هي دعوة لتسمية الأسماء بمسمياتها. كما يجب التأكيد على أن الديموقراطية هي وسيلة مقترحة يفترض المطالبون بها انها سبيل للعدالة إلا أنها ليست بالضرورة الطريق لتحقيقها. و أخيراً فإنه يجب توصيل الفكرة للناس أن المطالبة بفكرة ليست من صميم دينهم بل ستتعارض غالباً مع دينهم، هذه المطالبة يجب أن يفهموا كل محاذيرها الشرعية. ما الدليل على تصادمها مع الدين؟ حين تدعو إليها أحزاب لا دينية، والله من وراء القصد.

آخر الوحي:
و في نفس سياق هذا الخلط و الغلو قال أحمد شوقي واصفاً النبي الأعظم:
بك يا ابن عبدالله قامت سمحة **** بالحق من ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهو حقيقة **** نادى بها سقراط والقدماء
ومشى على وجه الزمان بنورها **** كهان وادي النيل والعرفاء
الله فوق الخلق فيها وحده **** والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر والخلافة بيعة **** والأمر شورى والحقوق قضاء
الاشتراكيون أنت أمامهم **** لولا دعاوي القوم والغلواء

الأربعاء، 1 فبراير 2012

عاش أبوصابر







الأربعاء ١ فبراير ٢٠١٢


ليس مستغرباً تكنية الحيوانات عند العرب، بمختلف شعوبهم فهم يكنون الذئب بأبي ثمامة، و الضبع بأم عامر، و الغراب بأبي حاتم. و تختلف هذه الكنى من شعب إلى آخر، فالعراقيون مثلاً يطلقون كنية أبي صابر على الحمار، و هي من أكثر الكنى تعبيراً عن طبيعة هذا الحيوان و تحمله للمصاعب و حمله للأثقال.
و ربما ليس من المستغرب أن يكون “أبوصابر” شعاراً لحزب يشتغل بالسياسة، فلعله لا يغيب عن ذهن الكثيرين أن شعار الحزب الديموقراطي الأمريكي هو الحمار كما أن الفيل شعار الحزب الجمهوري الأمريكي. إلا أن المستغرب أن يكون الحمار هو عنواناً للحزب بحيث يصير كل منتسب لهذا الحزب جحشاً أو مطياً أو أتاناً إن كانت عضوة الحزب فتاة. هذا هو حال الرتب الحزبية في “جمعية حمير كردستان” التي أسسها عمر كلول الكردي العراقي في عام 1979 بمسمى “حزب حمير كردستان” ثم حول حزبه في التسعينات إلى جمعية. و هذا التحول نفسه غريب بشكل ملحوظ، يشير له المؤسس و الامين العام و يؤكد على أنه بينما تتحول الجمعيات إلى أحزاب، فإن حزبه يقرر التحول إلى جمعية.
الرجل يرتدي دوماً ربطة عنق تزهو برسومات لعدد لا متناهي من الحمير أو “أبي صابر” كما يحلو له تسميته، و يعتز بأي شئ يربطه بالحمار أو أي تشابه في التصرفات أو الصفات السلوكية. يقول أن علاقته بالحمار بدأت حين كان أبوه يبيع البنزين في عربة يجرها الحمار. حينها شكا من اهتمام أبيه المفرط بالحمار. أجابه أبوه أن هذا الحمار يخدم العائلة فلا بد من الوفاء له و إعطائه ما يستحقه من الإهتمام و التقدير.
 حين يسأل المذيع عمر إن كان يتأذى إذا ناداه أحد بالحمار، فيقول أنه يسعد بذلك أيما سعادة. ثم يذكر شروط الإنضمام إلى حزبه و أولها إلتزام الصدق و أن يحب بلده و بيته أي “حظيرته”، ثم امتلاك صفات الحمير من الصبر و القناعة و الطاعة و الخدمة بدون مقابل.
 يثور المؤسس في لقاء آخر و يبدي احتجاجه حين جرت مذبحة في إحدى الدول العربية ذهب ضحيتها عدد من الحمير و هي الدولة التي تشهد أوضاعاً إنسانية مزرية. و كأنما كان رمزياً يحتج على ما يصيب البشر. كلول و الذي يكنى بأبي صابر يتعاطف مع الآخرين لأنه كحمار لا تفرقه مع الآخرين الطائفية أو المذاهب الفكرية، و إنما يتألم لكل ما يصيب بني جنسه. انتماؤه بلا شك عابر للجنسيات، و لذلك يهتم بالمخلوقات المشابهة في كل الأقطار.
و في ذات الوقت الذي يستحمر الرجل نفسه في رمزية متواضعة جداً بشكل غريب، نجد السياسيين الآخرين يستحمرون الجماهير بشكل مفرط، سواء في الخطاب الذي يصفهم حيناً بالوعي ليزيد استحمارهم، ثم يصفهم بالبسطاء لينفي عنهم التآمرية. السياسي الذي يكذب فيستحمر الجماهير، و يبالغ في مدحها بما ليس فيها فيستحمرها، و يكلمها بالكلام الغامض و المكون من الألغاز فتحس بنمو آذان كل جماهيره خلال خطابه نفسه.
 و حين تصف بعض التيارات الأخرى نفسها بالمعارضة الواعية أو الإيجابية، فيما هي أدوات في يد المعارضة أو أدوات في يد السلطة بشكل شديد الوضوح، فهي بلا شك تستحمر الجماهير.
و حين يتم التعاطي مع القضايا الشائكة بشكل لا يليق بمدى جديتها و الحاجة فيها إلى تغيير واضح، فإن هذا التعاطي أيضاً يمثل أحد أنواع استحمار الآخرين.
 و حين يكون شخص مستقلاً عن كل من هؤلاء، فيتهمه كل فريق بأنه تابع للفريق الآخر في تعميم هو من صميم ما سماه ذاك بــ”لغة الحمقى”، و على هذا المستقل أن يتحمل تبعة استقلاله و كل الإتهامات التي تنصب عليه، فإن هذا هو نوع بالغ من الإستحقار و الإستحمار للجماهير التابعة و لذلك المستقل.

حين تعيش مثل هذا الواقع المتشظي، سواء في العراق أو في أي قطر عربي، يحق لك يا عمر كلول كما يحق لكل إنسان أن تتغنى بصفات أبو صابر السمحة الكريمة المحتد و الطويلة الآذان بشكل فطري لا قسري. و يحق لنا جميعاً أن نهتف: عاش أبو صابر.

آخر الوحي:
لقد ذهب الحمار بأم عمروٍ
فلا رجعت ولا رجع الحمار

(مجهول) رواه الجاحظ