الأحد ١٩ فبراير ٢٠١٢
يقال أن أبا صابر كان واقفاً ذات يوم يستظل تحت شجرة، و يبحر بفكره في تاريخ أسلافه من حمر العظماء و المفكرين، و الذين سجل التاريخ ما حضروه من أحداث و ما كان لهم فيه من دور في نشر العلم و الثقافة و إن لم يستفيدوا منها حين حملوا أصحابهم و مؤلفاتهم من بلد إلى بلد. تذكرهم و هم يشاركون بأدوار مهمة في كتابات المؤلفين و الكتاب كتوفيق الحكيم و في نوادر جحا. و بعد كل هذا صدح بصوته متناسياً كم ينزعج المحيطون من صوت الحمار و نهيقه في ذلك النهار القائظ الذي يأوي فيه الناس للقيلولة بينما هو مربوط في الخارج.
مررت به في ذلك الوقت و وجدت هذه الفرصة السانحة التي يكون فيها مزاجه معتدلاً للمحاورة، فبادرته بإلقاء التحية على طريقة عمر كلول رئيس حزب حمير كردستان بثني الوسطى و السبابة ثم فردهما مرة أخرى بطريقة تحاكي ركلة أبي صابر الثنائية الشهيرة. رد التحية فبادرته بالسؤال عن سبب سعادته و نهيقه في هذا الوقت الحار، فقال لي يا رجل أنا سعيد لأنني فكرت في واقعي فوجدت نفسي لا أقل عنكم معشر البشر في شئ، و إنما استخدامكم لي يدل على عظم قدرتي و عجزكم، عن صبري و جزعكم عن نشاطي و كسلكم، عن قناعتي و طمعكم.
يقول من يجهل قدري يسميني مطية و ينسى أن كل طامع صاحب غرض يتخذ المطايا و يفخر بأن فلان من بني جنسه مطية للوصول إلى هدفه، أتراني أعتبر كلامه ذماً للراكب الطامع أم مدحاً لصبري في طاعته حتى صار يسمي أمثاله من البشر مطايا؟
ثم قل لي بربك، إذا كانت أعظم الدول و المفكرين السياسيين حين يتكلمون عن سياسة الترهيب و الترغيب لدول أو أحزاب أو أشخاص يتكلمون عنها باعتبارها سياسة العصا و الجزرة، أليس هذا استحماراً ما مثله إستحمار، لقد بسطوا مفهوم الترغيب و الترهيب ليفهمه الجميع عبر قضية العصا و الجزرة، أيظنون أنني لا أفهم هذه الثنائية؟ بل ربما فهمتها اكثر ممن يقوم بالتنظير لها وممن يستخدمها و ممن تستخدم عليه، إنما لا أكابر على أن قدري أن أعيش تحت رحمة صاحبي، كما فهمت أكثر الأحزاب السياسية مؤخراً و الحكومات أن أمريكا قدرهم، و أن عصاها و جزرتها لكل مسئ و محسن لسياستها على الكرة الأرضية. ألا ترى مجاهدي الأمس و متهمي الحكومات بالعمالة يبسطون أيديهم و يمدون أفواههم للجزر، أنظر حولك للمعارضات الإسلامية و العلمانية و حتى ما كان منها تابعاً للقطب الآخر، كلهم يسبحون و يقدسون بحمدها و بحمد الجزر الذي يقدمه النظام العالمي الجديد.
و ها أنا ذا رغم علمي أن الجزر المقدم خدعة و أن وجبتي ستكون البرسيم، إلا أنني أشارك في اللعبة للتسلية و تسليماً بالقدر كما قلت، لكن ألا ترى المعارضات و أحزاب الموالاة و قبلهم أنظمة الحكم كيف تستحمركم جميعاً و أنتم موافقون حتى تشيع فيكم تصديق مالا يصدق و ترسم لكم عالم الأحلام فتتخيلون حدائق البرسيم و جنان الشعير و رياض الجزر؟ ثم قل لي من يستفيد منكم غير قوت يومه إن حازه بينما قياداتكم كما صاحبي لا يمسها تعب ولا نصب و لها الربح من الوصول للسوق و بيع المنقول. نعم تحصلون من الألقاب و المفاخرات بكم كما أحصل أنا على البطل الصامت و أبوصابر و أبو الخير و غيرها من ألقاب لا توسع مسكني ولا تزيد مأكلي بل ربما زادت شقائي و سلطت علي عيون الحساد و أيديهم.
قلت له كلامك صحيح ربما لكنك تفتقر للإرادة و مغلوب على أمرك باعترافك، أما نحن فكائنات ذات إرادة. ضحك أبو صابر هازئاً على طريقته عبر النهيق المتقطع و قال، أي إرادة تتكلم عنها يا رجل، إن تمردك يشبه الحمار الذي يحرن فيبيعه صاحبه إلى آخر ثم يوصيه بالحذر منه و يبيعه بثمن بخس فيتنقل من نخاس إلى آخر. قل لي يا هذا؟ هل تختارون قيادات المعارضة فضلاً عن قيادات السلطة؟ إنهم يبرزون إليكم بالوعود كما مترشحي الإنتخابات مجللين بهالات الوعود و متزينين بأوسمة يضعها لهم دوماً من يكون موعوداً بمنصب الرجل الثاني و محتمين بدروع بشرية تكمن قوتها في أعدادكم و تضحياتكم و تصديقكم، و أنتم سكارى بأناشيد النهام التي تقوم بتوصيف قوتكم و صبركم و شرف سعيكم لصيد اللؤلؤ الذي ستطعمون منه عيالكم فيما حقيقة الحال أن الربح للنوخذة و الطواش و الموت للغيص و الرضيف. أجبني ألا يسمى قائد أي معارضة بالزعيم الشعبي دون أي إنتخاب حقيقي، و قل لي كم معارضاً برز نجمه و أفل بعد أن تم تسقيطه من رفاق دربه بسبب خلاف ربما يكون شخصياً بينما تهتفون أنتم مات المعارض عاش المعارض.
ناشدته مستعطفاً لعلك لا تنكر أن شعوباً حازت انتصارات حملت لها العزة و الكرامة و العيش الرغيد. هنا تنهد تنهيدة و هز رأسه متأذياً و قال لو كنت معي في مشوار اليوم و سمعت الزبون الذي رضي عن الخدمة يقول لصاحبي خذ أجرتك مضاعفة و خذ ثمن تعب حمارك لعلمت أن ما تراه من انتصارات و احتفالات هو ليس احتفالاتكم كشعوب و إنما تغطيات و مصالحات تقدم لمرة واحدة كوجبة برسيم إضافية لتنسى العصا من قبل و تستعد بها للعصا بعد. يا صديقي مادام صاحبك يرى أذنيك طويلة فلن تستطيع إلا أن تكون مثلي و مادام ظهرك معداً للإمتطاء فمن يقاوم راحة البردعة لأجل تعب المشي المضني.
ودعته قائلاً: أأنت تدعوني إلى اليأس و عدم التجربة و الإعتزال؟ فقال بل أدعوك أن تتوقف عن تقديم الثمن و عن حمل الآخرين، أنا ضحية و الضحية لا يمكنه الثقة مجدداً في أحد، و إذا لم تكفك التجارب في التاريخ و تصر أن تكررها دون تغيير فأنصحك بشراء قبعة تغطي بها أذنيك اللتين سيطولان شيئاً فشيئاً دون أن يطول أنف الكذابين و محتالي السياسة.
آخر الوحي:
تريدين..
في لحظتين اثنتين
بلاط الرشيد
وإيوان كسرى..
وقافلةً من عبيد وأسرى
تجر ذيولك..
يا كليوبترا...
ولست أنا..
سندباد الفضاء..
لأحضر بابل بين يديك
وأهرام مصرٍ..
وإيوان كسرى
وليس لدي سراج علاء
لآتيك بالشمس فوق إناء..
نزار قباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق