الأحد، 25 مارس 2012

أرجوك ماتفتيش







الأحد ٢٥ مارس ٢٠١٢

برنامج كانت تقدمه إحدى القنوات المصرية من قبل أن تحدث ثورة 25 يناير 2011 ثم قدمت نسخة جديدة منه بعد الثورة بعنوان “أرجوك ما تفتيش بعد الثورة”. و تقوم فكرة هذا البرنامج على تقديم سؤال للجمهور بطريقة استهبالية عن أمر غامض، أو سؤال يحوي مغالطة عن موضوع لا يكون عامة الناس البسطاء ملمين به. و لأن الجمهور لا يفترض وجود خطأ في السؤال، فإنه يأخذه مأخذ المسلمات، و لأنه لا يجد في ذهنه جواباً، فهو يبدأ بالإجابة بصورة تدل على الجهل، و كلما تعمقت الأسئلة، ظهر الجهل بصورة أوضح، حتى ينتهي اللقاء بإخبار الضيف عن إسم البرنامج، ثم سؤاله إن كان قد أفتى أي “اخترع” إجابات للأسئلة غير المنطقية، و غالباً يكون الجواب بالنفي و قليل من يعترف بأنه أفتى فعلاً.
والمصري الذي عرف دوماً أنه لا يهاب ميكروفون التلفزيون و لا كاميرته بل ربما كان جريئاً و مقداماً و مبادراً للظهور أمام الكاميرا، كان صيداً متكرراً لهذا البرنامج، إلا أنني أعتقد أنه لن يكون استثناءاً من الشعوب الأخرى التي اعتادت على الكلام عن طواحين الهواء الهولندية و خرافات التنمية البشرية و أساطير الإكتفاء الذاتي، و أحلام الوحدة العربية. ليس هناك من شعوبنا من اعتاد ان يظهر أمام كاميرا برنامج تطلب منه توضيح رأيه في واقع حياته أو في ما يقلق معيشته أو يعيق أحلامه. لذا كانت المساحة الإعلامية المتاحة لكل أمر غير جوهري فقط، و لذا كانت نافذة البرامج التي تتكلم عن أمور فضائية لا تهمه هي أمل المواطن أن يقول شيئاً مسموحاً يسمع نفسه من خلاله، ثم يكتشف أنه كان مجرد مسخرة أو مادة لكاميرا خفية سمجة لم تراعِ إلا أن تجعل منه مضحكة.
 و أعرض هنا عينة من الاسئلة التي دارت حولها بعض حلقات هذا البرنامج، الذي كان خفيف الظل إلا أنه أوضح بجلاء الكبت الإعلامي الحاصل للمواطن العربي من ناحية، و مأساة قطاع التعليم الذي جعل منا أميين في كل ما سوى القراءة و الكتابة من ناحية أخرى، و استغناءنا عن متابعة الجديد في قنوات الإعلام و الأخبار من ناحية ثالثة.
 من ضمن هذه الاسئلة: ما رأيك في التطور الحاصل بعد الثورة حيث صارت مصر من الدول الكبرى في “زراعة” المعكرونة؟ هل تتمنى أن نصل إلى التقدم العلمي الذي وصلت إليه دول أخرى كروسيا و الصين من حيث مستوى الإشعاع النووي؟ استغلال الإنفلات الأمني بعد الثورة أدى إلى بناء عمارات مكان الأهرام، ما رأيك؟ هل تؤيد الطرق التي استحدثت في اختيار رئيس الجمهورية، و هل تفضل القرعة أم تعيين رئيس لكل يوم بالدور؟
 من منا يعبر عنه إعلام بلده و يمثل ما يعانيه من مشاكل و يعرض ما يرنو إليه من تطلعات؟  من منا لا يحلم بيوم يسأله أحد عن رأيه في حال بلاده؟ من منا يتلهف ليتصفح جريدة يومية أو قناة أرضية أو فضائية؟
 أعتقد أن شعوبنا العربية و ربما المصريين مثلاً قبل الثورة لو سألهم مذيع التلفاز عن مشاكلهم لأجابوا و هم متوجسون، العيشة تمام، و رغيف العيش بعشرة قروش و مافيش أزمة مساكن ولا زحمة في المواصلات و المعاش بيكفي لآخر الشهر و بيزيد شوية!!
 نحن أيضاً غير متعودين على مثل هذه البرامج و لا شك أننا سنفتي حين يتم سؤالنا و نقول: الله يسلمك لا توجد أزمة إسكان و لا فساد و لا سرقة مال عام و نفتخر على كل دول العالم بالسياحة النظيفة، و البرلمان يطيح بالمسئولين تباعاً بعد كل تقرير من ديوان الرقابة، و الصحافة منبر مسموع، و الجمعيات لا تعتمد في عملها السياسي على المحاصصات و الصفقات، ولا أحد دون خط الفقر، والدولة ما قصرت.
 نعم، لست ممن يحب التجني و الإغضاء عن الحسن و التركيز على السئ فقط، ولست مع من يتغافل عن الإنجاز لحساب اللمز، و أقول أن هناك حسن و هناك سيء، هناك مخلص يعمل بجد و حكمة و مخلص يعمل بغفلة و هناك من يسئ العمل. لكن في نهاية المطاف، يضاف إلى الحاجات المعيشية للإنسان، فإن جل حاجاته و مشاكله تتلخص في كونه قادراً على الكلام عن مشاكله، شاعراً بالإهتمام من المسئولين لحلها، هذه هي العصا السحرية التي تخلق التآلف و المودة، و هي من أهم ما يضطلع به الإعلام، بحيث يكون جسر وصل لا جدار فصل بين المواطنين و الحكم.
 وأخيراً، حين تنطلق رسالة الإعلام من هذا الإتجاه و المنحى لتكون أداة للحل وليس لصنع المشاكل فإنني متأكد أن كلمات مثل “أجندة خارجية” و “مؤامرة” و “عدوان” سيتم استخدامها في حدود أضيق فأضيق، و هذه هي الثقافة التي يحتاجها أي بلد ليتقدم، حين تختفي لغة التخوين و التخوين المضاد و العقل الجمعي من أذهان الناس و أدبياتهم و تتحول إلى لغة التساؤل و تفهم إختلاف الرأي و العقل الفردي و المؤسسي غير المتعصب، و بالتأكيد لن نجد من يتكلم فيما لا يفهمه و لن يكون هناك من يفتي و يهرف بما لا يعرف، والله من وراء القصد.

آخر الوحي:

يا صاح إن الكبر خلق سيئ *** هيهات يوجد في سوى الجهلاء
و العجب داء لا ينال دواؤه***حتى ينال الخلد في الدنياء
فاخفض جناحك للأنام تفز بهم***إن التواضع شيمة الحكماء
لو أعجب القمر المنير بنفسه***لرأيته يهوي إلى الغبراء

إيليا أبو ماضي

الأربعاء، 21 مارس 2012

ابتسم، انت هنا...






الأربعاء ٢١ مارس ٢٠١٢


 حين تسمع عن نواب يلوحون بالاعتصام، وبكتابة العرائض بدلاً من الاستجوابات وحجب الثقة، ابتسم، فأنت هنا، في جنة دلمون المفقودة، التي بين ضفافها يدخل المسؤول الحكومي في مسؤوليته، فيكون كمن أعفي من كل مسؤولية، فلا رقيب أو حسيب، ولا خوف من أحد، فلم يسمع يوماً بمسؤول يحاكم بسبب التقصير أو الفساد.
حين تجد مسؤولاً يدخل على لجنة يفترض بها مساءلته في ظلل من الموظفين عن اليمين والشمال، فيفوق عددهم الثلاثين، ويدخل أخرى بأسئلة توجه الى من يفترض أن يسألوه لا أن يجيبوه، وتبلغ هذه الأسئلة عشر ورقات. هنا لا بد أن تبتسم، فأنت حيث بحث جلجامش عن سر الحياة.
ألا ترى كل عام أو عامين ناقلتك الوطنية تطلب الدعم من الدولة بمبالغ تصل بل وتفوق ربع الميزانية السنوية، وتجد عملية الموافقة على هذا التمويل أسهل من موافقة البنك التجاري على قرضك الشخصي ذي الأصفار الثلاثة؟ المقترض شركة من أكبر الشركات، وهي ملك للدولة، والمقرض هو الدولة، فلماذا العجب؟ ابتسم فأنت في أرض الخلود التي تخلد فيها الشركات الخاسرة ولا تموت.
حين ترى التويتر يخبرك بتجنب شارع ما لوجود مسيرة مرخصة عليه سببت ازدحاماً شديداً، بينما ستجد أيضاً في جهة أخرى من البلاد مسيرة مرخصة أخرى، فانك لا بد ستستعد للفعالية المسائية التي يتضمنها ربيع الثقافة حول طبول التايكو اليابانية التي أسعدت الجمهور البحريني كما ينشر موقع وكالة الأنباء.
حين تعرف أن ميزانية بلادك وقف النواب في وجهها بقوة وقالوا إنها لا يمكن أن تمر، ثم اكتشفت أن العائق هو عدم ادراج علاوة الغلاء وليس ما تحتويه الميزانية من أوجه القصور في التخطيط الاستراتيجي أو في صحة فرضياتها حول المدخول والمصروف، هنا يجب أن تقف وقفة تذكرها فيما بعد حين تبتسم لأمور أخرى.
ومن هذه الأمور أنك تسمع بغضب شعبي شديد يتلوه غليان نيابي مرتفع الأدخنة على أحد المسؤولين، لا بسبب سياسات الفصل والتوظيف ولا بسبب أوجه الخلل التي رصدتها الأجهزة الرقابية، ولا بسبب استمرارية التوقيف والتحقيق مع الموظفين لأشهر طويلة، ولكن لتمديد الدوام اليومي، فانك بلا شك يجب أن تبتسم.
حين تشاهد المجلس النيابي ينتفض بحزم ويرفض زيادة صلاحياته، ولسان حاله يقول إن صلاحياته الموجودة كافية وأكثر من كافية، وكأنه قد استطاع تلبية كل التطلعات، بل وفاق كل المأمول منه شعبياً ورسمياً، فلا بد أن تبتسم فرحاً بالانسجام التام بين السلطات التشريعية والتنفيذية.
حين تجد مسؤولاً يفترض أنه يمثل الجهة الراعية للفئات ذوات الاحتياجات الخاصة، والجهة الراعية لحقوق الانسان يجزم بأن ليس كل مقعد يحتاج للمعونة، دون احالة الحالات للجان الطبية للتثبت من ذلك، ومصداق هذا الكلام هو مرض السكلر الذي وصل معدل الوفيات بسببه في 2011 الى حالة وفاة كل عشرة أيام، والذي مازال مرضاه يحتاجون للرعاية الخاصة، الذي لا يتمكن مرضاه من مزاولة أعمالهم بشكل مستقر، الا أن مرضاه لا يحصلون على اعانة من الدولة كأصحاب احتياجات خاصة، ودون حتى عرض على اللجان الطبية للنظر في كل حالة على حدة بحسب حدتها. لا بد هنا أن تبتسم فأنت في جزيرة الابتسامة المشرقة.

آخر الوحي:

لاَ شأنَ لِي بالحُبِّ
ما شأنِي بِهِ؟
أنا خارج مِن جَنَّةِ الأحبابِ
لا مجدَ في الكلماتِ
لا تتوقَّعِي
أن تدخُلِي التاريخَ عَبْرَ كِتابِي
أَنَا أَبْتَرُ الأحلامِ
لا تاريخَ لِي.. لا شوقَ.. لا نسيَانَ
في أهدابِي
 أحمد بخيت

الأحد، 18 مارس 2012

"البَو"








الأحد ١٨ مارس ٢٠١٢

هذه الكلمة ليست ناقصة الحروف، وإنما تلفظ كما هي مكتوبة بفتح الباء وسكون الواو. سمعنا آباءنا يخاطبون بها الصغار في تقريع لا يخلو من الرفق، ولكن لم نعرف معناها آنذاك. أما أستاذنا المصري محمد بكار الله يمسيه بالخير، والذي كان يدرسنا مادة الأحياء، فقد تفضل علينا بمعنى هذه الكلمة. يقول إنه حين ينفق صغير البقرة، وهو العجل الصغير، فإن صاحبها يخشى أن ينقطع حليبها من الإدرار، فيأخذ جسم العجل ويشق جلده ويخرج أحشاءه ثم يملأ جوفه بالقش، ويخيطه مرة أخرى ويوقفه في الحظيرة، وإذ إن البقرة ترى صغيرها واقفاً أمامها فلا تتوقف عن إنتاج الحليب. يذكر أن الفعل ذاته يقوم به راعي الجمال، ويطلق على حوار الناقة النافق والمحشو جوفه بالقش أيضاً اسم «البو».
كما كان الآباء أيضاً يقرعون أطفالهم بلفظة الطبل أيضاً، والطبل معروف ومعلوم للجميع أن جوفه خالٍ وصوته عالٍ. وربما كان المشترك بين اللفظين هو خلو صاحبهما من مضمون حقيقي ذي قيمة، فكان حقاً أن يسمى بهما الشخص التافه ذو التصرفات الجوفاء.
حين أفكر في الأمور الخالية من المضامين، لا أملك إلا أن أتذكر الحديث النبوي الذي لم أكن استوعبه صغيراً وصرت أشعر بمعناه العظيم فيما بعد وهو «سيأتى على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا اسمه». وبغض النظر عما إذا كنا نعيش هذا الزمان أو أنه آتٍ أو سابق، فإن بيت القصيد عندي هو كيف لا يبقى من الشيء أياً كان إلا اسمه؟
هذا المعنى الدقيق الذي يحتاج أن نركز كثيراً عليه هو تفريغ كل مفهوم من مضمونه، أي تحويل كل مفهوم من هذه المفاهيم إلى «بو» تواصل معه البقرة الإدرار باطمئنان، وأن كل شيء على ما يرام، بينما هو واقع لا يحمل من حقيقته إلا مظهراً أو بروتوكولاً أو تراثاً تم الاستغناء عن مضمونه، وبقي شكله فقط كغطاء لم يأت بعد وقت الاستغناء عنه.
المعنى نفسه يمكن استحضاره حين نفهم طبيعة الحكم في المراحل المتوسطة والمتأخرة من الحكم العباسي، حين كان الخليفة أداة في يد العسكر من الترك والبويهيين والسلاجقة وغيرهم، بينما الخلافة باسمه ظاهرياً، لقد كان كل واحد من هؤلاء العباسيين لا يمثل أكثر من «بو» مفرغ من معاني الخلافة وسلطتها، ولكن لأن الأمة كانت تحكم باسم العباسيين، فكانت الحاجة دوماً من الأتراك لوجودهم كغطاء.
كل هذا ينطبق على المفاهيم، وأرجو أن تكون الأمثلة السابقة ساعدت في جعل المعنى مصوراً، في مثل هذا السياق، تمثل جميع المفاهيم المفرغة من مضمونها ككيس جلدي داخله مملوء من القش. تمر في ذهني كلمات عدة، الالتزام الديني، دولة القانون، حماية المال العام، مكافحة المخدرات، الوحدة الوطنية، المتعلمون، شهادة دكتوراه، المساواة، الديمقراطية، الوحدة العربية، القدس عروس عروبتنا، الوعي السياسي، قوى الممانعة، محور الاعتدال، إرادة الشعب، تضحيات الرموز. أتوقف ولو شئت لواصلت الكتابة في عناوين وأسماء المواضيع المفرغة والمفاهيم المفرغة حتى الأيام التالية.
لماذا لا نكون صادقين مع أنفسنا ومفاهيمنا؟ لماذا نستخدم «بو» الوطن، و»بو» الدين، و»بو» الديمقراطية. نعم قد ينخدع الناس بها لفترة، ولكنهم ليسو أبقارا، وستنكشف الأمور عاجلاً أو آجلاً. أذكر أن أكثر من شخص قال إن من ميزات الشدائد التي مرت بها البلاد هو أن الناس صاروا أقرب إلى الله، وزاد التزامهم. أجبت في حين من تلك الأحايين بأنه التزام مؤطر وموجه، لا علاقة له بنية القربة إلى الله بقدر ما هو مؤطر بظروف معينة وفرص معينة أو استخداماً له كأداة لغرض معين.
آخر الوحي:
واصبر على غصص الأيام محتسباً***لا بد للحزن والآلام من أمد
ولا تكونن بين الناس إمعة***يقول ما لا يرى في كل محتشد
ولا تخف حين تبدي الرأي معتقداً***بأنه في صلاح الناس والبلد

محمد هادي الحلواجي

الأربعاء، 14 مارس 2012

ثقافة الخبر







الأربعاء ١٤ مارس ٢٠١٢


تكلمت بإيجاز في مقال سابق عن ثقافة الخبر، وما أعنيه بهذا المصطلح هو الاعتماد في صوغ شخصية أتباع اتجاه سياسي أو اجتماعي معين على تتابع الأخبار وليس تتابع الأفكار. بمعنى أن المتلقي لا يتلقى مبادئ يقيس بها الخطأ والصواب والمستقيم من الأعوج، إنما يتعرض لزخم من الأحداث المتوالية وعرضها عرضاً إعلامياً موجهاً إلى زوايا محددة تم اختيارها بعناية بحيث يتلقى رسالة محددة من هذا الزخم فتكون لديه رصيداً جديداً من القناعات والأفكار.
هذه العملية من البرمجة يستخدمها كل الفرقاء السياسيين في صياغة فكر الأتباع بحيث يصوغ تتابع الأحداث المتوالية والمعروضة بشكل مسرحي فكر الأتباع. وربما يكون هذا ملحوظاً بعد نهاية بعض الأفلام ذات الطبيعة المتسارعة ليكتشف المشاهد بعد نهاية الفيلم أنه ليس متعاطفاً مع جانب الخير بالضرورة.
منذ أيام مثلاً جربت هذه التجربة مع ابنتي ذات السنوات الثلاث من خلال كارتون توم وجيري، فلم يكن مستغرباً بتاتاً أنها تتعاطف مع جيري وتحبه أكثر من توم، فهو صاحب المقالب وهو المنتصر في عموم حلقات هذا الكارتون.
أما بالنسبة لي فقد أحببت روبين هود، وأرسين لوبين وعلي بابا. هؤلاء جميعاً لم يكونوا أشخاصاً خيرين، بل كانوا لصوصاً، شرع أولهم وثانيهم جواز السرقة من الغني وإعطاء الفقير فيما كان ثالثهم يقوم بسرقة اللصوص فصنع مفهوم أن السرقة من اللصوص لا تعد لصوصية.
وبالطبع فإنه لو عرض علينا هذا المبدأ مجرداً من الأحداث المحيطة به وهي المتسارعة و لمثيرة والممتعة، لما كان هناك شغفٌ بانتهاء القصة في صالح صاحب هذا السلوك المشين. يتحول هذا التعاطف الناجم ربما من الرغبة بمشاهدة القصة وإكمالها إلى حب لهذه الشخصية وربما فيما بعد إلى تشرب بطباعها وسلوكياتها الصحيحة والخاطئة. وهنا ياتي دور المعايير والمبادئ في تقويم هذه الأفكار والسلوكيات وأخذ الصحيح منها ورد الباطل.
وبعيداً عن الأمثلة المتعددة في واقع الحياة أو في الفن والأدب، فإن التعاطف مع المعاناة الإنسانية ليس عيباً بل هو سلوك محمود، ولكن ينبغي الالتفات إليه ومحاصرته بحيث لا يتحول إلى مسوغ لارتكاب الأخطاء أو تبني المناهج الباطلة. فالشخص نفسه الذي يقع عليه الظلم من أشخاص بعينهم لا ينبغي أن يتحول إلى ناقم على المجتمع ككل بحيث يذنب في حق المجتمع. وإذا سلمنا بعدم أحقية المظلوم في تبني الظلم، فإنه لا ينبغي لافراد المجتمع اختلاق المعذورية له في ظلمه.
كذلك فإن من ضمن ثقافة الأخبار التي يحملها كثير من مثقفونا اليوم الاحتجاج بسلوك الآخرين والتبرير للتصرف المقابل له كردة فعل طبيعية، وأقول ان السلوك الأول الخاطئ بالضرورة قد يكون سبباً إلا أنه لا يجوز أن يكون مبرراً. نعم، قد تحصل أخطاء آنية كردة فعل، لكن لا يصح التنظير لذلك بحيث يصير الخطأ الثاني مقبولاً.
لاحظت أن كثيراً من الناس حين تناقش معهم قضية ما فإنه يهرب من نقاشها. وفي وقت آخر يسعى ليقنع عاطفتك بما لم يقتنع به عقلك. والفكرة أن الشحن العاطفي والإغراق في التأثر سيقودك حتماً إلى الانجرار في هذا النمط أو التوجه، وهذا قطعاً ليس هو المطلوب. إذ ان صحة الفكرة وثباتها لو قيست بالمثيرات العاطفية نحوها، فإن زيادة الأذى ومسببات التعاطف سيكون محبباً لصاحب الفكرة لأنه يثبت فكرته عند من يتبعه، أما التفكير المبدئي وإن كان لا يستتبع أفراداً أكثر إلا أنه يخلق أفراداً برؤية أوضح.
آخر الوحي:
لم يعد يذكرني منذ اختلفنا غير قلبي.. والطريق
صار يكفي
كل شيء طعمه.. طعم الفراق
حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس
قد تم الطلاق
مظفر النواب

الأحد، 11 مارس 2012

ما بعد الإشاعة











الأحد ١١ مارس ٢٠١٢


يقال إن الإشاعة تستخدم في مجتمع ما لغرض من غرضين، الإلهاء أو التوجيه. وحين نتكلم عن الإلهاء، فهو لصرف النظر عن أمر آخر يراد له أن يحصل دون أن تنتبه له أذهان الناس لإنشغالها بفحوى إشاعة مثيرة يشبعها الناس نقاشاً وتناقلاً وتندراً. أذهان الناس المشغولة بهذا الخبر أو ذاك تنصرف عن التفكير في أمر آخر أهم، يراد له أن يمر بسلام دون أن ينتبه له الناس.
ومما يقع في خانة إشاعات الإلهاء، إشاعات الفضائح للمشاهير والأخبار المثيرة التي تمس حياتهم. أما إشاعات التوجيه، فهي الإشاعات التي تستدعي ترتيب أثر عملي أو ذهني في اتجاه ما. من هذه الإشاعات ما يستخدم للتحشيد، ومنها ما يستخدم للتنفير ومنها ما يستخدم للتسقيط، منها ما يستخدم لإحداث صراعات بين المجموعات، ومنها ما يستخدم لنشر الكراهية، وتختلف أغراض الإشاعات الموجهة بحسب الحاجة وبحسب الظرف.
أحياناً تستخدم مثل هذه الإشاعات لأغراض تجارية، فيقال إن الشركة الفلانية منتجاتها مسرطنة، أو إنها تدعم إسرائيل أو إنها تحتوي على مواد غير جائزة التعاطي كالكحول أو مشتقات الخنزير. وبالطبع تفرز هذه الإشاعات مقاطعة لمنتجات هذه الشركة وبالمقابل تتصاعد مبيعات شركات منافسة. طبعاً أكثر هذه الإشاعات تدخل في خانة إشاعات التسقيط الموجه.
وللإشاعة أساليب مختلفة، فمنها ما يتداول بطريقة قولية، أو فعلية أو عن طريق الكتابة، والأخيرة كما يبدو قد انقرضت في مجتمعاتنا مع انتشار الحواسيب وأجهزة الطباعة. إذ أذكر في صغري حين كنت في عمر الثامنة أو التاسعة أني وجدت رسالة ملقاة عند مدخل المنزل، وكنت حينها أتلهف لقراءة أي نص أجده، فكانت الرسالة على ما أذكر تحمل قصة لفتاة كانت مريضة ثم شفيت بالإعجاز، فكان لزاماً عليها أن تكتب قصتها على عشر رسائل وتلقيها على البيوت المحيطة، وتلزم الرسالة كل من يقرأها بإعادة نشرها بنفس العدد، وإلا تعرض للمصائب ولسخط القدر، ولا أذكر إن كان في تلك الرسالة جانب ترغيبي أو اعتمدت فقط على الترهيب. أذكر أنني حينها حملتها معي لأريها ابن عمي وصرنا نتساءل إن كان يلزمنا إعادة كتابتها أم لا. من محاسن الصدف أنني سمعت عمي يومها يتكلم عن الموضوع، ويشير إلى أنه لا معنى له ولا قيمة ولا ينبغي إعارته أي اهتمام، فنجوت من عملية النسخ التي كنت أكرهها في المدرسة لسطور قليلة، فكيف برسالة تحتوي ما لا يقل عن مئة كلمة.
وإشاعات التوجيه قد تأتي على شكل يوحي بإلزام ديني، كالكلام عن فتوى أو حكم شرعي، أو على شكل إلزام غيبي كالكلام عن منام أو أمور إعجازية أو قد تكون على شكل ترغيب، فيقال إن مشروعاً سيحدث في منطقة ما، فترتفع أسعار العقار أو على شكل تخويف من الحرمان على طريقة «سارع قبل نفاد الكمية».
والإشاعة من أقوى المؤثرات على المجاميع لذلك نجد استخدامها منتشراً عند السياسيين وعند التجار وعند كل من يريد أن يستفيد من عموم الناس أو يضحك على ذقونهم.
المصيبة أن سلاح الإشاعة هو سلاح غير أخلاقي، يستند إليه الإنسان، فيغضي على الأقل عن قناعة منطقية واحدة، والتي تستدعي التثبت من الأخبار قبل الاعتماد عليها وربما تكون معها قناعة أخلاقية أو عقائدية أو فقهية أو قانونية يتم الإغضاء عنها، فتفقد قيمتها عند الناس. هل من الممكن أن يعاد تعزيزها من جديد فيما بعد، أم إن آثارها الضارة تستمر.
أضرب مثالاً بشائعة قريبة حول حكم شرعي في الخروج للشارع وأن عالم الدين إذا دعا لأمرٍ صار ملزماً للصغير والكبير والمرأة والرجل، هذا جانب، والجانب الآخر أن المرأة في مثل هذه الأحوال ليس عليها طاعة زوجها إن لم يأذن لها بذلك الخروج. وبالطبع هذا الكلام قيل على الشاشات، لكن التداول والتحوير عند الناس حوله لإشاعة، بل حوله إلى حكم شرعي جديد في أذهان الناس، فتركت الإشاعة مخلفاتها في الأذهان، فهل هناك من سيعمل على إزالة هذه المخلفات، وهل سيصل التنظيف إلى كل المتضررين ذهنياً. هذه صورة حية لكيفية تكون المفاهيم الخاطئة لخدمة أغراض ضيقة وقصيرة النظر. اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
آخر الوحي:
بم التعلل لا أهلٌ ولا وطن***ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن
أريد من زمني ذا أن يبلغني***ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
لا تلق دهرك إلا غير مكترثٍ***مادام يصحب فيه روحك البدن
فما يديمُ ما سررت به***ولا يرد عليك الفائت الحزن

أبوالطيب المتنبي

الأربعاء، 7 مارس 2012

سكت الجميع







الأربعاء ٧ مارس ٢٠١٢


قلت للحمار أبي صابر بعد أن وعظني وأطال الموعظة، ألا ترى معي أن من تسميهم بمحتالي السياسة هم أناس عاديون لا يحملون من الذكاء القدر الكافي؟ تنحنح لجهلي وقال: يا مسكين، انهم من الذكاء بقدر بالغ لدرجة أنهم يستطيعون تطبيق كل قواعد الاستحمار بحرفنة تجبر كل الأتباع على السير خلفهم وتحتهم دون أدنى شك فيهم.
قلت له فما بالهم لا يستطيعون فهم من يخالفهم؟ قهقه البطل الصامت وأجابني: ما يفعله السياسيون مع خصومهم شيء مختلف تماماً، فهم لا يستطيعون استحمارهم، انهم يفهمون كل انتقادات مخالفيهم ويعرفونها قبل أن يشرعوا بعملهم، ولكنهم يستخدمون سلاحاً مختلفاً جداً؟ انه سلاح الاستهبال، والاستهبال يا صاحبي يجعل الخصم في حيص بيص، يبح صوته دون أن يجد أدنى فائدة من انتقاده، وربما أسبغوا على المنتقد لقب صديقنا الوفي، فتجدهم يخبرون الاتباع أن القافلة تسير وأكمل أنت الباقي، ولكنهم في تعاملهم مع المنتقد لا يكلون ولا يتعبون من الرد على اشكالاته ردوداً تافهة حتى يصاب بازمة قلبية أو يفقد أعصابه، أنتم تسمونه حوار الطرشان، ولكني أسميه الاستهبال.
ثم أردف قائلاً وهو يمد عنقه في حركة دائرية: لعلك قد سمعت بقصة رداء السلطان وهي قصة مشهورة مختصرها أن محتالين احتالا على السلطان وأقنعاه أنهم يستطيعان صنع رداء عظيم فاخر لا يوجد له مثيل، فأغدق الأموال والذهب عليهما ليصنعا منها ذلك الرداء، وظلا يتأخران في تسليمه ويستعجلهما حتى أخبراه اخيراً أن ميزة الرداء العظيم أنه لا يراه أحد الا ان يكون ذكياً، وصدق المسكين وخرج لابساً ذلك اللاشئ فوق سرواله، ولقد نجحت الحيلة في جعل كل الناس على سماطي الموكب يقتنعون أنهم يرون الرداء، حتى صرخ طفلٌ لم تتلوث فطرته بالنفاق وبعوارض الاستحمار وقال للجميع ان السلطان عار، ضحك الجميع حينها وظنوا أنهم يضحكون من سلطانهم الا انهم واقعاً كانوا يضحكون من المقلب الذي وقعوا فيه جميعاً. يا صاحبي حالكم لا يختلف كثيراً عن هؤلاء فأنتم أينما كنتم واقعون بين استهبال الخصم واستحمار الرفيق.
حارت حواسي وأفكاري لكلام أبي صابر الدقيق فتساءلت معه، ترى ما الذي يشلنا عن التفكير ويوقعنا في جمود التفكير حتى مع أنفسنا، قاطع حينها تساؤلاتي وقال: قد أجبتك من قبل وقلت لك إن الاستحمار يحشرك بين الخوف والطمع ويشير لك بالعصا والجزرة فيكبت حريتك، ولكن لا تتوقع أن تراه دوماً ماثلاً أمامك عياناً، وانما قد يغزو دواخل نفسك ومجامع عقلك الباطن دون أن تدري!! كم مرة فكرت أن تكون حليماً وتسكت فمثل في ذهنك القول إن “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، وكم مرة فكرت أن تتكلم فوعظك واعظ داخلك أن الحاصل هو لا شك لحكمة غابت عنك فاكتفيت عن التساؤل عن ماهيتها بتسليمك بوجودها.
ثم إن من أعجب العجائب أنك تخاف دوماً من شق عصا الجماعة، وكأن الجماعة هي الفئة أو الطائفة، فوجدت لها العصا والجزرة وما وجدت الحق جامعاً لشملك والباطل مفرقاً لك ولمن تتمنى الانتماء لهم. وتأثرت بما يختلق لك من أزمات الضمير من أصحابك وخصومهم فصرت بين الهجوم والتبرير بحسب ما يلقنه الحزب الذي يسور نفسه كل مرة بسور يجمع بين جدرانه المزيد والمزيد وهو سور هلامي يكبر ويصغر ويضيق ويتسع بحسب المصلحة.
الا أن أشد الاستحمار يقع حين يقومون بتخويفك من أن تصير حماراً برغبتك في تبني رأي مخالف أو انتقاد شديد المرارة، وكأنهم يلعبون معك اللعبة القديمة التي يستخدمها الكبار بخبث فيقولون للأطفال تلك العبارة “سكت الجميع ونطق الحمار قائلاً “ حينها تجد كل الأطفال مطبقين أفواههم ينتظر كل منهم من الآخر أن يفوه بكلمة لتشير الأصابع كلها اليه كحمار، رغم أنه قد كسر الطوق ورفض أن يتم استحماره واسكاته كالآخرين.
هذا هو الواقع يا صديقي، انهم يتخذونكم مطايا ويطلبون آراءكم فيهتفون أنكم شياطين خرس ان صمتتم، ثم يسكتونكم عن الانتقاد أوالتساؤل بعبارة سكت الجميع ونطق الحمار قائلاً. وبين هذا وذاك تهاجمك الآلة الجمعية المصنوعة بالايحاء للتنافس بين الجماهير والتدافع في التخوين أو التهكم، دون طائل غير التحكم في الجميع من الأعلى وقمع الصوت المختلف النشاز أو الصمت المريب الذي قد يشتت باقي الأتباع.
قلت له، هذا صحيح، فقد تساءل أحدهم مرة عن رأي الفقهاء والمراجع في شئون الساحة والذين يستأنس الناس بآرائهم حتى في ثبوت الهلال، فهتف في وجهه الجميع، هذا تعريض بعلماء الساحة!! وتساءل عن المعايير العالمية والقانونية لحقوق الانسان فهتف في وجهه الجميع هذا تعريض وتحريض وعمالة!!
قال لي: لا تكن مثلي واختر أنت صاحبك بمعنى من تصحبه لا بمعنى من يستخدمك. ثم غمز أبوصابر بعينه وقال لي: يجب أن تتوقع هذا الهجوم من الآخرين يا صاحبي، فقد سكت الجميع عن ذلك ونطق “أبوصابر” قائلاً!!

آخر الوحي:

سقـط الحمار من السفـينة في الدجى فـبــكى الرفــاق لفـقـده وتـرحـمـوا
حـتـى اذا طـلــع الـنـهـار أتـت بـه نـحــو الـسـفـيــنة مـوجــة تـتــقــدم
قـالــت خــذوه كـما أتانـي سـالـمــا لــم أبــتــلـعـه لأنــه لا يــهــضـــم
 أحمد شوقي