الأحد، 11 مارس 2012

ما بعد الإشاعة











الأحد ١١ مارس ٢٠١٢


يقال إن الإشاعة تستخدم في مجتمع ما لغرض من غرضين، الإلهاء أو التوجيه. وحين نتكلم عن الإلهاء، فهو لصرف النظر عن أمر آخر يراد له أن يحصل دون أن تنتبه له أذهان الناس لإنشغالها بفحوى إشاعة مثيرة يشبعها الناس نقاشاً وتناقلاً وتندراً. أذهان الناس المشغولة بهذا الخبر أو ذاك تنصرف عن التفكير في أمر آخر أهم، يراد له أن يمر بسلام دون أن ينتبه له الناس.
ومما يقع في خانة إشاعات الإلهاء، إشاعات الفضائح للمشاهير والأخبار المثيرة التي تمس حياتهم. أما إشاعات التوجيه، فهي الإشاعات التي تستدعي ترتيب أثر عملي أو ذهني في اتجاه ما. من هذه الإشاعات ما يستخدم للتحشيد، ومنها ما يستخدم للتنفير ومنها ما يستخدم للتسقيط، منها ما يستخدم لإحداث صراعات بين المجموعات، ومنها ما يستخدم لنشر الكراهية، وتختلف أغراض الإشاعات الموجهة بحسب الحاجة وبحسب الظرف.
أحياناً تستخدم مثل هذه الإشاعات لأغراض تجارية، فيقال إن الشركة الفلانية منتجاتها مسرطنة، أو إنها تدعم إسرائيل أو إنها تحتوي على مواد غير جائزة التعاطي كالكحول أو مشتقات الخنزير. وبالطبع تفرز هذه الإشاعات مقاطعة لمنتجات هذه الشركة وبالمقابل تتصاعد مبيعات شركات منافسة. طبعاً أكثر هذه الإشاعات تدخل في خانة إشاعات التسقيط الموجه.
وللإشاعة أساليب مختلفة، فمنها ما يتداول بطريقة قولية، أو فعلية أو عن طريق الكتابة، والأخيرة كما يبدو قد انقرضت في مجتمعاتنا مع انتشار الحواسيب وأجهزة الطباعة. إذ أذكر في صغري حين كنت في عمر الثامنة أو التاسعة أني وجدت رسالة ملقاة عند مدخل المنزل، وكنت حينها أتلهف لقراءة أي نص أجده، فكانت الرسالة على ما أذكر تحمل قصة لفتاة كانت مريضة ثم شفيت بالإعجاز، فكان لزاماً عليها أن تكتب قصتها على عشر رسائل وتلقيها على البيوت المحيطة، وتلزم الرسالة كل من يقرأها بإعادة نشرها بنفس العدد، وإلا تعرض للمصائب ولسخط القدر، ولا أذكر إن كان في تلك الرسالة جانب ترغيبي أو اعتمدت فقط على الترهيب. أذكر أنني حينها حملتها معي لأريها ابن عمي وصرنا نتساءل إن كان يلزمنا إعادة كتابتها أم لا. من محاسن الصدف أنني سمعت عمي يومها يتكلم عن الموضوع، ويشير إلى أنه لا معنى له ولا قيمة ولا ينبغي إعارته أي اهتمام، فنجوت من عملية النسخ التي كنت أكرهها في المدرسة لسطور قليلة، فكيف برسالة تحتوي ما لا يقل عن مئة كلمة.
وإشاعات التوجيه قد تأتي على شكل يوحي بإلزام ديني، كالكلام عن فتوى أو حكم شرعي، أو على شكل إلزام غيبي كالكلام عن منام أو أمور إعجازية أو قد تكون على شكل ترغيب، فيقال إن مشروعاً سيحدث في منطقة ما، فترتفع أسعار العقار أو على شكل تخويف من الحرمان على طريقة «سارع قبل نفاد الكمية».
والإشاعة من أقوى المؤثرات على المجاميع لذلك نجد استخدامها منتشراً عند السياسيين وعند التجار وعند كل من يريد أن يستفيد من عموم الناس أو يضحك على ذقونهم.
المصيبة أن سلاح الإشاعة هو سلاح غير أخلاقي، يستند إليه الإنسان، فيغضي على الأقل عن قناعة منطقية واحدة، والتي تستدعي التثبت من الأخبار قبل الاعتماد عليها وربما تكون معها قناعة أخلاقية أو عقائدية أو فقهية أو قانونية يتم الإغضاء عنها، فتفقد قيمتها عند الناس. هل من الممكن أن يعاد تعزيزها من جديد فيما بعد، أم إن آثارها الضارة تستمر.
أضرب مثالاً بشائعة قريبة حول حكم شرعي في الخروج للشارع وأن عالم الدين إذا دعا لأمرٍ صار ملزماً للصغير والكبير والمرأة والرجل، هذا جانب، والجانب الآخر أن المرأة في مثل هذه الأحوال ليس عليها طاعة زوجها إن لم يأذن لها بذلك الخروج. وبالطبع هذا الكلام قيل على الشاشات، لكن التداول والتحوير عند الناس حوله لإشاعة، بل حوله إلى حكم شرعي جديد في أذهان الناس، فتركت الإشاعة مخلفاتها في الأذهان، فهل هناك من سيعمل على إزالة هذه المخلفات، وهل سيصل التنظيف إلى كل المتضررين ذهنياً. هذه صورة حية لكيفية تكون المفاهيم الخاطئة لخدمة أغراض ضيقة وقصيرة النظر. اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
آخر الوحي:
بم التعلل لا أهلٌ ولا وطن***ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكن
أريد من زمني ذا أن يبلغني***ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
لا تلق دهرك إلا غير مكترثٍ***مادام يصحب فيه روحك البدن
فما يديمُ ما سررت به***ولا يرد عليك الفائت الحزن

أبوالطيب المتنبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق