الأحد ١٨ مارس ٢٠١٢
هذه الكلمة ليست ناقصة الحروف، وإنما تلفظ كما هي مكتوبة بفتح الباء وسكون الواو. سمعنا آباءنا يخاطبون بها الصغار في تقريع لا يخلو من الرفق، ولكن لم نعرف معناها آنذاك. أما أستاذنا المصري محمد بكار الله يمسيه بالخير، والذي كان يدرسنا مادة الأحياء، فقد تفضل علينا بمعنى هذه الكلمة. يقول إنه حين ينفق صغير البقرة، وهو العجل الصغير، فإن صاحبها يخشى أن ينقطع حليبها من الإدرار، فيأخذ جسم العجل ويشق جلده ويخرج أحشاءه ثم يملأ جوفه بالقش، ويخيطه مرة أخرى ويوقفه في الحظيرة، وإذ إن البقرة ترى صغيرها واقفاً أمامها فلا تتوقف عن إنتاج الحليب. يذكر أن الفعل ذاته يقوم به راعي الجمال، ويطلق على حوار الناقة النافق والمحشو جوفه بالقش أيضاً اسم «البو».
كما كان الآباء أيضاً يقرعون أطفالهم بلفظة الطبل أيضاً، والطبل معروف ومعلوم للجميع أن جوفه خالٍ وصوته عالٍ. وربما كان المشترك بين اللفظين هو خلو صاحبهما من مضمون حقيقي ذي قيمة، فكان حقاً أن يسمى بهما الشخص التافه ذو التصرفات الجوفاء.
حين أفكر في الأمور الخالية من المضامين، لا أملك إلا أن أتذكر الحديث النبوي الذي لم أكن استوعبه صغيراً وصرت أشعر بمعناه العظيم فيما بعد وهو «سيأتى على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا اسمه». وبغض النظر عما إذا كنا نعيش هذا الزمان أو أنه آتٍ أو سابق، فإن بيت القصيد عندي هو كيف لا يبقى من الشيء أياً كان إلا اسمه؟
هذا المعنى الدقيق الذي يحتاج أن نركز كثيراً عليه هو تفريغ كل مفهوم من مضمونه، أي تحويل كل مفهوم من هذه المفاهيم إلى «بو» تواصل معه البقرة الإدرار باطمئنان، وأن كل شيء على ما يرام، بينما هو واقع لا يحمل من حقيقته إلا مظهراً أو بروتوكولاً أو تراثاً تم الاستغناء عن مضمونه، وبقي شكله فقط كغطاء لم يأت بعد وقت الاستغناء عنه.
المعنى نفسه يمكن استحضاره حين نفهم طبيعة الحكم في المراحل المتوسطة والمتأخرة من الحكم العباسي، حين كان الخليفة أداة في يد العسكر من الترك والبويهيين والسلاجقة وغيرهم، بينما الخلافة باسمه ظاهرياً، لقد كان كل واحد من هؤلاء العباسيين لا يمثل أكثر من «بو» مفرغ من معاني الخلافة وسلطتها، ولكن لأن الأمة كانت تحكم باسم العباسيين، فكانت الحاجة دوماً من الأتراك لوجودهم كغطاء.
كل هذا ينطبق على المفاهيم، وأرجو أن تكون الأمثلة السابقة ساعدت في جعل المعنى مصوراً، في مثل هذا السياق، تمثل جميع المفاهيم المفرغة من مضمونها ككيس جلدي داخله مملوء من القش. تمر في ذهني كلمات عدة، الالتزام الديني، دولة القانون، حماية المال العام، مكافحة المخدرات، الوحدة الوطنية، المتعلمون، شهادة دكتوراه، المساواة، الديمقراطية، الوحدة العربية، القدس عروس عروبتنا، الوعي السياسي، قوى الممانعة، محور الاعتدال، إرادة الشعب، تضحيات الرموز. أتوقف ولو شئت لواصلت الكتابة في عناوين وأسماء المواضيع المفرغة والمفاهيم المفرغة حتى الأيام التالية.
لماذا لا نكون صادقين مع أنفسنا ومفاهيمنا؟ لماذا نستخدم «بو» الوطن، و»بو» الدين، و»بو» الديمقراطية. نعم قد ينخدع الناس بها لفترة، ولكنهم ليسو أبقارا، وستنكشف الأمور عاجلاً أو آجلاً. أذكر أن أكثر من شخص قال إن من ميزات الشدائد التي مرت بها البلاد هو أن الناس صاروا أقرب إلى الله، وزاد التزامهم. أجبت في حين من تلك الأحايين بأنه التزام مؤطر وموجه، لا علاقة له بنية القربة إلى الله بقدر ما هو مؤطر بظروف معينة وفرص معينة أو استخداماً له كأداة لغرض معين.
آخر الوحي:
واصبر على غصص الأيام محتسباً***لا بد للحزن والآلام من أمد
ولا تكونن بين الناس إمعة***يقول ما لا يرى في كل محتشد
ولا تخف حين تبدي الرأي معتقداً***بأنه في صلاح الناس والبلد
محمد هادي الحلواجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق