الأحد ٢٥ مارس ٢٠١٢
برنامج كانت تقدمه إحدى القنوات المصرية من قبل أن تحدث ثورة 25 يناير 2011 ثم قدمت نسخة جديدة منه بعد الثورة بعنوان “أرجوك ما تفتيش بعد الثورة”. و تقوم فكرة هذا البرنامج على تقديم سؤال للجمهور بطريقة استهبالية عن أمر غامض، أو سؤال يحوي مغالطة عن موضوع لا يكون عامة الناس البسطاء ملمين به. و لأن الجمهور لا يفترض وجود خطأ في السؤال، فإنه يأخذه مأخذ المسلمات، و لأنه لا يجد في ذهنه جواباً، فهو يبدأ بالإجابة بصورة تدل على الجهل، و كلما تعمقت الأسئلة، ظهر الجهل بصورة أوضح، حتى ينتهي اللقاء بإخبار الضيف عن إسم البرنامج، ثم سؤاله إن كان قد أفتى أي “اخترع” إجابات للأسئلة غير المنطقية، و غالباً يكون الجواب بالنفي و قليل من يعترف بأنه أفتى فعلاً.
والمصري الذي عرف دوماً أنه لا يهاب ميكروفون التلفزيون و لا كاميرته بل ربما كان جريئاً و مقداماً و مبادراً للظهور أمام الكاميرا، كان صيداً متكرراً لهذا البرنامج، إلا أنني أعتقد أنه لن يكون استثناءاً من الشعوب الأخرى التي اعتادت على الكلام عن طواحين الهواء الهولندية و خرافات التنمية البشرية و أساطير الإكتفاء الذاتي، و أحلام الوحدة العربية. ليس هناك من شعوبنا من اعتاد ان يظهر أمام كاميرا برنامج تطلب منه توضيح رأيه في واقع حياته أو في ما يقلق معيشته أو يعيق أحلامه. لذا كانت المساحة الإعلامية المتاحة لكل أمر غير جوهري فقط، و لذا كانت نافذة البرامج التي تتكلم عن أمور فضائية لا تهمه هي أمل المواطن أن يقول شيئاً مسموحاً يسمع نفسه من خلاله، ثم يكتشف أنه كان مجرد مسخرة أو مادة لكاميرا خفية سمجة لم تراعِ إلا أن تجعل منه مضحكة.
و أعرض هنا عينة من الاسئلة التي دارت حولها بعض حلقات هذا البرنامج، الذي كان خفيف الظل إلا أنه أوضح بجلاء الكبت الإعلامي الحاصل للمواطن العربي من ناحية، و مأساة قطاع التعليم الذي جعل منا أميين في كل ما سوى القراءة و الكتابة من ناحية أخرى، و استغناءنا عن متابعة الجديد في قنوات الإعلام و الأخبار من ناحية ثالثة.
من ضمن هذه الاسئلة: ما رأيك في التطور الحاصل بعد الثورة حيث صارت مصر من الدول الكبرى في “زراعة” المعكرونة؟ هل تتمنى أن نصل إلى التقدم العلمي الذي وصلت إليه دول أخرى كروسيا و الصين من حيث مستوى الإشعاع النووي؟ استغلال الإنفلات الأمني بعد الثورة أدى إلى بناء عمارات مكان الأهرام، ما رأيك؟ هل تؤيد الطرق التي استحدثت في اختيار رئيس الجمهورية، و هل تفضل القرعة أم تعيين رئيس لكل يوم بالدور؟
من منا يعبر عنه إعلام بلده و يمثل ما يعانيه من مشاكل و يعرض ما يرنو إليه من تطلعات؟ من منا لا يحلم بيوم يسأله أحد عن رأيه في حال بلاده؟ من منا يتلهف ليتصفح جريدة يومية أو قناة أرضية أو فضائية؟
أعتقد أن شعوبنا العربية و ربما المصريين مثلاً قبل الثورة لو سألهم مذيع التلفاز عن مشاكلهم لأجابوا و هم متوجسون، العيشة تمام، و رغيف العيش بعشرة قروش و مافيش أزمة مساكن ولا زحمة في المواصلات و المعاش بيكفي لآخر الشهر و بيزيد شوية!!
نحن أيضاً غير متعودين على مثل هذه البرامج و لا شك أننا سنفتي حين يتم سؤالنا و نقول: الله يسلمك لا توجد أزمة إسكان و لا فساد و لا سرقة مال عام و نفتخر على كل دول العالم بالسياحة النظيفة، و البرلمان يطيح بالمسئولين تباعاً بعد كل تقرير من ديوان الرقابة، و الصحافة منبر مسموع، و الجمعيات لا تعتمد في عملها السياسي على المحاصصات و الصفقات، ولا أحد دون خط الفقر، والدولة ما قصرت.
نعم، لست ممن يحب التجني و الإغضاء عن الحسن و التركيز على السئ فقط، ولست مع من يتغافل عن الإنجاز لحساب اللمز، و أقول أن هناك حسن و هناك سيء، هناك مخلص يعمل بجد و حكمة و مخلص يعمل بغفلة و هناك من يسئ العمل. لكن في نهاية المطاف، يضاف إلى الحاجات المعيشية للإنسان، فإن جل حاجاته و مشاكله تتلخص في كونه قادراً على الكلام عن مشاكله، شاعراً بالإهتمام من المسئولين لحلها، هذه هي العصا السحرية التي تخلق التآلف و المودة، و هي من أهم ما يضطلع به الإعلام، بحيث يكون جسر وصل لا جدار فصل بين المواطنين و الحكم.
وأخيراً، حين تنطلق رسالة الإعلام من هذا الإتجاه و المنحى لتكون أداة للحل وليس لصنع المشاكل فإنني متأكد أن كلمات مثل “أجندة خارجية” و “مؤامرة” و “عدوان” سيتم استخدامها في حدود أضيق فأضيق، و هذه هي الثقافة التي يحتاجها أي بلد ليتقدم، حين تختفي لغة التخوين و التخوين المضاد و العقل الجمعي من أذهان الناس و أدبياتهم و تتحول إلى لغة التساؤل و تفهم إختلاف الرأي و العقل الفردي و المؤسسي غير المتعصب، و بالتأكيد لن نجد من يتكلم فيما لا يفهمه و لن يكون هناك من يفتي و يهرف بما لا يعرف، والله من وراء القصد.
آخر الوحي:
يا صاح إن الكبر خلق سيئ *** هيهات يوجد في سوى الجهلاء
و العجب داء لا ينال دواؤه***حتى ينال الخلد في الدنياء
فاخفض جناحك للأنام تفز بهم***إن التواضع شيمة الحكماء
لو أعجب القمر المنير بنفسه***لرأيته يهوي إلى الغبراء
إيليا أبو ماضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق