الأربعاء، 7 مارس 2012

سكت الجميع







الأربعاء ٧ مارس ٢٠١٢


قلت للحمار أبي صابر بعد أن وعظني وأطال الموعظة، ألا ترى معي أن من تسميهم بمحتالي السياسة هم أناس عاديون لا يحملون من الذكاء القدر الكافي؟ تنحنح لجهلي وقال: يا مسكين، انهم من الذكاء بقدر بالغ لدرجة أنهم يستطيعون تطبيق كل قواعد الاستحمار بحرفنة تجبر كل الأتباع على السير خلفهم وتحتهم دون أدنى شك فيهم.
قلت له فما بالهم لا يستطيعون فهم من يخالفهم؟ قهقه البطل الصامت وأجابني: ما يفعله السياسيون مع خصومهم شيء مختلف تماماً، فهم لا يستطيعون استحمارهم، انهم يفهمون كل انتقادات مخالفيهم ويعرفونها قبل أن يشرعوا بعملهم، ولكنهم يستخدمون سلاحاً مختلفاً جداً؟ انه سلاح الاستهبال، والاستهبال يا صاحبي يجعل الخصم في حيص بيص، يبح صوته دون أن يجد أدنى فائدة من انتقاده، وربما أسبغوا على المنتقد لقب صديقنا الوفي، فتجدهم يخبرون الاتباع أن القافلة تسير وأكمل أنت الباقي، ولكنهم في تعاملهم مع المنتقد لا يكلون ولا يتعبون من الرد على اشكالاته ردوداً تافهة حتى يصاب بازمة قلبية أو يفقد أعصابه، أنتم تسمونه حوار الطرشان، ولكني أسميه الاستهبال.
ثم أردف قائلاً وهو يمد عنقه في حركة دائرية: لعلك قد سمعت بقصة رداء السلطان وهي قصة مشهورة مختصرها أن محتالين احتالا على السلطان وأقنعاه أنهم يستطيعان صنع رداء عظيم فاخر لا يوجد له مثيل، فأغدق الأموال والذهب عليهما ليصنعا منها ذلك الرداء، وظلا يتأخران في تسليمه ويستعجلهما حتى أخبراه اخيراً أن ميزة الرداء العظيم أنه لا يراه أحد الا ان يكون ذكياً، وصدق المسكين وخرج لابساً ذلك اللاشئ فوق سرواله، ولقد نجحت الحيلة في جعل كل الناس على سماطي الموكب يقتنعون أنهم يرون الرداء، حتى صرخ طفلٌ لم تتلوث فطرته بالنفاق وبعوارض الاستحمار وقال للجميع ان السلطان عار، ضحك الجميع حينها وظنوا أنهم يضحكون من سلطانهم الا انهم واقعاً كانوا يضحكون من المقلب الذي وقعوا فيه جميعاً. يا صاحبي حالكم لا يختلف كثيراً عن هؤلاء فأنتم أينما كنتم واقعون بين استهبال الخصم واستحمار الرفيق.
حارت حواسي وأفكاري لكلام أبي صابر الدقيق فتساءلت معه، ترى ما الذي يشلنا عن التفكير ويوقعنا في جمود التفكير حتى مع أنفسنا، قاطع حينها تساؤلاتي وقال: قد أجبتك من قبل وقلت لك إن الاستحمار يحشرك بين الخوف والطمع ويشير لك بالعصا والجزرة فيكبت حريتك، ولكن لا تتوقع أن تراه دوماً ماثلاً أمامك عياناً، وانما قد يغزو دواخل نفسك ومجامع عقلك الباطن دون أن تدري!! كم مرة فكرت أن تكون حليماً وتسكت فمثل في ذهنك القول إن “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، وكم مرة فكرت أن تتكلم فوعظك واعظ داخلك أن الحاصل هو لا شك لحكمة غابت عنك فاكتفيت عن التساؤل عن ماهيتها بتسليمك بوجودها.
ثم إن من أعجب العجائب أنك تخاف دوماً من شق عصا الجماعة، وكأن الجماعة هي الفئة أو الطائفة، فوجدت لها العصا والجزرة وما وجدت الحق جامعاً لشملك والباطل مفرقاً لك ولمن تتمنى الانتماء لهم. وتأثرت بما يختلق لك من أزمات الضمير من أصحابك وخصومهم فصرت بين الهجوم والتبرير بحسب ما يلقنه الحزب الذي يسور نفسه كل مرة بسور يجمع بين جدرانه المزيد والمزيد وهو سور هلامي يكبر ويصغر ويضيق ويتسع بحسب المصلحة.
الا أن أشد الاستحمار يقع حين يقومون بتخويفك من أن تصير حماراً برغبتك في تبني رأي مخالف أو انتقاد شديد المرارة، وكأنهم يلعبون معك اللعبة القديمة التي يستخدمها الكبار بخبث فيقولون للأطفال تلك العبارة “سكت الجميع ونطق الحمار قائلاً “ حينها تجد كل الأطفال مطبقين أفواههم ينتظر كل منهم من الآخر أن يفوه بكلمة لتشير الأصابع كلها اليه كحمار، رغم أنه قد كسر الطوق ورفض أن يتم استحماره واسكاته كالآخرين.
هذا هو الواقع يا صديقي، انهم يتخذونكم مطايا ويطلبون آراءكم فيهتفون أنكم شياطين خرس ان صمتتم، ثم يسكتونكم عن الانتقاد أوالتساؤل بعبارة سكت الجميع ونطق الحمار قائلاً. وبين هذا وذاك تهاجمك الآلة الجمعية المصنوعة بالايحاء للتنافس بين الجماهير والتدافع في التخوين أو التهكم، دون طائل غير التحكم في الجميع من الأعلى وقمع الصوت المختلف النشاز أو الصمت المريب الذي قد يشتت باقي الأتباع.
قلت له، هذا صحيح، فقد تساءل أحدهم مرة عن رأي الفقهاء والمراجع في شئون الساحة والذين يستأنس الناس بآرائهم حتى في ثبوت الهلال، فهتف في وجهه الجميع، هذا تعريض بعلماء الساحة!! وتساءل عن المعايير العالمية والقانونية لحقوق الانسان فهتف في وجهه الجميع هذا تعريض وتحريض وعمالة!!
قال لي: لا تكن مثلي واختر أنت صاحبك بمعنى من تصحبه لا بمعنى من يستخدمك. ثم غمز أبوصابر بعينه وقال لي: يجب أن تتوقع هذا الهجوم من الآخرين يا صاحبي، فقد سكت الجميع عن ذلك ونطق “أبوصابر” قائلاً!!

آخر الوحي:

سقـط الحمار من السفـينة في الدجى فـبــكى الرفــاق لفـقـده وتـرحـمـوا
حـتـى اذا طـلــع الـنـهـار أتـت بـه نـحــو الـسـفـيــنة مـوجــة تـتــقــدم
قـالــت خــذوه كـما أتانـي سـالـمــا لــم أبــتــلـعـه لأنــه لا يــهــضـــم
 أحمد شوقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق