الأربعاء، 11 أبريل 2012

رفقاً بعقولنا







الأربعاء ١١ أبريل ٢٠١٢



في حرب احتلال العراق، كان وزير الاعلام الصحاف يخرج لوسائل الاعلام ويتجول في الشوارع ويطلق من الأخبار ما يكاد لا يصدقه عقل، بل ربما لا يتحمله عقل، الا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة هذا الدور الذي جعل منه نجماً جماهيرياً حول العالم وأيقونة لهذه الحرب بلا منازع. النظام العراقي حينها كأي نظام يعيش صراعاً لم يدخر اشاعة ولا أقصوصة سخيفة الا استخدمها لصنع الرأي العام واشغاله تارة، وللحرب النفسية تارة أخرى ولرفع معنويات أتباعه وجنوده في ثالثة. بلغ من سخافة هذه الأقاصيص أنها كانت من شر البلية الذي يضحكك حد الاعياء بل يضحك الثكلى والأرملة واليتيمة. فمن تلك مثلاً قصة الطائرة الأباتشي التي أسقطها المزارع البسيط “منقاش” ببندقية صيد. وأذكر أن التندر بهذه الرواية قد دفع أحد الكافتيريات الى ابتكار سندويتش أسماه “منقاش”، وآخر سماه “الصحاف” ولعل هذه الكافتيريا مازالت تقدم هاتين الشطيرتين.
ومن أمثال ذلك ما خرج به اللبنانيون حول ما حصل خلال حرب تموز حين رأى بعض اللبنانيين أجساماً تقاتل معهم وتدفع عنهم الأعداء. أحد هذه الأدوار قام به أحد الدعاة الدينيين وهو يروي على الهواء قصة من سوريا عن فرسان بيض على أفراس بيضاء بدت لجنود بشار في اليقظة لا المنام كما لو كان بشرى بقرب انتصار ثوار سوريا على نظامهم بل كانت عوناً لهم في معاركهم.
ومن أمثال ذلك الكلام عن أن الثورة المصرية هي ثورة شعبية خالصة، غير أن واقع الحال يدل على غير ذلك. فمنذ أول يوم لدخول الجيش، ظل المشهد المتكرر على الشاشة مشهد الدبابات تعبر الكوبري من أمام الاشارة وقد كتب عليها عبارة “يسقط مبارك” وكأن الجيش طرف في المعركة وجزء مهم من الثورة، طبعاً في حينها حين تتكلم وتشير الى شيء مريب يحصل وأن الثورة يتم استغلالها لتغطية انقلاب عسكري تتم مواجهتك بحمية وحماس شديدين للدفاع عن الثورة، حتى يسفر الصبح لذي عينين وترى من كان يرفض ذلك التحليل وهويهتف ضد حكم العسكر و ضد الفلول من نظام مبارك.
هذا هو الحال في أوقات الأزمات عقول مستعدة للتصديق بسهولة، لا تملك من الوقت ما يكفي للتشكيك في أي اشاعة أو بروبوغاندا، يدفعها لذلك الحماس والخوف والطمع، الا أنه ما ان ينقشع الغبار حتى يتجلى ما كان خافياً وهنا يبدأ دور التاريخ في توضيح وتوثيق ما لعبه الاعلام من أدوار قذرة في استغلال عواطف الناس ومشاعرهم وتجييرهم في اتجاهات معينة بناء على الخديعة، وتنقلب الأدوار فيصير المتهم ضحية والضحية متهماً.
بعد كل هذا تجد بعض الأقلام والوجوه التي جرت ما جرت على الناس من كذب وافتراء وفبركة تملك بعض الحياء لتعتزل بعد أن سودت وجه التاريخ وحان اسوداد وجهها وقليل هم هؤلاء، فأغلبية من يعتزل فهو يعتزل مكرهاً، ولعله يصدر كتاباً فيما بعد يستثمر فيه سواد وجهه. أما الغالبية منهم فيقومون باعادة خرط اقلامهم خرطة جديدة تتناسب مع العهد الجديد والدور الجديد والفكر الجديد.
ومن الطريف في ذلك ما يحكى في المقامة الدينارية من مقامات الحريري، حين طلب من رجل أن يمدح الدينار مدحاً لا يوصف ليستحق أن يعطى ديناراً فقال مدحاً كان منه:
أكرم به أصفر راقت صفرته... جواب آفاق ترامت سفرته
مأثورة سمعته وشهرته... قد أودعت سر الغنى أسرته

وقارنت نجح المساعي خطرته... وحببت الى الأنام غرته
وختم هذه الأبيات بقوله “لولا التقى لقلت جلت قدرته”.

فطلب منه أن يذمه أسوأ الذم لينال ديناراً آخر، فكان مما قال مرتجلاً:
 تبا له من خادع مماذق... أصفر ذي وجهين كالمنافق
يبدو بوصفين لعين الرامق... زينة معشوق ولون عاشق
وحبه عند ذوي الحقائق... يدعو الى ارتكاب سخط الخالق
وربما كان حال شاعرنا في هذه المقامة حال الكثير من كتابنا الذين يتطرفون في اتجاه حتى ينتهي أمده فيضطرون مرة أخرى للتطرف في الاتجاه الآخر، فلا يرفقون بعقولنا عند تصديقهم في الأولي، ولا هم يرفقون بها عند انقلابهم في الثانية، فانتظروا وأنا معكم من المنتظرين، فعجائب الدنيا لا تنقضي وغرائبها في كل يوم تتجدد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق