الأحد، 10 فبراير 2013

ذاكرتنا المهترئة

















الأحد 10 فبراير 2013


في أحد الأفلام الممتعة من حيث اللفتات الرمزية والفلسفية، تحت اسم “خمسون موعد أول” يلتقي البطل بفتاة فيتبادلان الإعجاب، ثم ما يلبث أن يلتقيها ثانية في ذات المكان فتنكر أية معرفة لها به. وأمام حيرته الكبيرة، تحذره صاحبة المطعم من العبث بقلب المسكينة، ثم تخبره أن هذه الفتاة هي ضحية حادث سبب لها خللاً أو شرخا في دماغها في الجزء الخاص بذاكرتها القصيرة الأمد. إنها لا تستطيع أن تختزن في ذاكرتها أية أحداث لاحقة لليوم الذي صادف يوم الحادث. وبمعنى آخر فهي مازالت لا تعرف انها تعرضت لحادث. إنها تصحو كل يوم على اعتبار أنه ذلك اليوم السعيد الذي ستحتفل فيه بعيد ميلاد والدها.
من الظلم أن نتهم أباها والمحيطين بها بالخداع، فهم كلما حاولوا إخبارها بالحقيقة أصيبت بالصدمة، ثم ما تلبث أن تنام وتصحو مجدداً وهي لا تتذكر شيئاً من هذا كله. مازال والدها يحتفظ بعشرات النسخ من صحيفة ذلك اليوم، ومازال يحتفل معها كل يوم رغم ضجره بعيد ميلاده، ومازال يحتفظ بشريط مسجل للمباراة التي كان يفترض أنها ستحدث ذلك اليوم ليشاهده أخوها المغرم بالرياضة على مرأى منها، ومازال يشاهد معها ذلك الفيلم الذي أعداه لذلك اليوم لقضاء عيد ميلاد مميز لوالدها المحبوب. كل هذا يحدث يوميا بصبر بالغ من كل المحيطين.
بعد أن قابل أباها وعلم بكل شيء، أصر الفتى أن يحاول بشكل يومي إثارة انتباهها بطريقة مختلفة، فما ينجح اليوم قد لا ينجح في الغد. ثم قام بإعداد شريط يروي لها قصة حادثها، ويظهر هو فيه، وكان هذا الشريط هو أول ما يعرض عليها لتشاهده صباحا ثم تبكي وتنهار قليلا ثم تواصل حياتها لتستمتع بأربع وعشرين ساعة مختلفة غير مكررة ولا مخدوعة، وتستمر رحلة حياتهما بالتوثيق وربما بالتوفيق.
ورغم المعنى اللطيف والرسالة الودودة التي تقتنص من الأحداث بأن الإنسان ينبغي أن يجعل  من كل يوم جديد مناسبة للتعبير بطريقة مختلفة عن محبته للآخرين وألا يعتمد بشكل كلي على الذكريات الجميلة السابقة، فهو يحمل رسائل أخرى يمكن ترجمتها بأشكال مختلفة منها السلبي ومنها الإيجابي. فمن الرسائل السلبية التي يمكن اقتناصها هو أن من تحسن إليه اليوم لن يذكر صنيعك غدا، فلابد أن تقدم في كل يوم صنيعا يراك به في أبهى صورة، ولعل حمل الفيلم لهذا المعنى تجاه امرأة يقدم مشاكل أكبر.
إلا أن الفلسفة التي يقدمها الفيلم بعيدا عن معاني الرومانسية، حين نعمم الفكرة أكثر، هي صورة عن ذاكرتنا المهترئة وكيف أن المدى الطويل في حياتنا مهما كان اساسياً، إلا أنه يتحول إلى ريشة في مهب الريح أمام الأحداث اليومية التي بإمكانها أن توجه حياتنا إلى اتجاهات مختلفة لا نملك السيطرة عليها ونحن تحت تأثير هذه المؤثرات قصيرة المدى.
نعم، كثيراً ما يختفي السؤال المهم عن الهوية قبل تحديد صحة تصرف ما، أو على رأي الإعلان التجاري “إنت مو إنت وإنت جيعان”، ففي مؤثرات قصيرة المدى أو لحظية، ينسى الحليم حلمه ويتجاوز العاقل عقله، وتتحرر النفس التي تبطش تحت تأثير العصبية أو الأخرى التي تزهو فتحرر الطاووس داخلك أو أية نزعة أخرى لم نكن نتمنى لها الظهور. حين يصنف الإنسان لنفسه منظومة معينة من الأخلاق والتصرفات، فيجب أن يحاذر كي لا تنحدر نفسه إلى منحدر سحيق يدفعه إليه جنون اللحظة بغض النظر عما ينساه لنفسه من مكانة معينة من الأخلاق لا تتناسب معها بعض تصرفاته المثارة فيتجه إلى اتجاه لا تحمد عقباه. ليس هناك رد فعل طبيعي وآخر غير طبيعي، هناك انسياق وراء الحدث ينسى معه كل صاحب هوية أو قناعة حقيقة قناعته أمام رغبته التي هي مؤثر لحظي ما يلبث أن يزول.
نعم ينسى الأطباء والصحافيون والمدراء وحتى رجال الدين أهدافهم ورسالتهم أمام حدث مزلزل، فتنحسر ذاكرة بعيدة أمام ذاكرة قصيرة تطول شيئا فشيئا وتتضخم وربما تتحول إلى اصل بدلا من كونها حالة طارئة. هل نحتاج أن نذكر أنفسنا كل يوم من نكون، لنقوم بتصفية ما نقبله وما لا يصح أن نقبله، أم أننا صرنا مجردين من الذاكرة، ضحايا للقضايا الكبرى، التي جعلناها غطاء نغطي وعينا به ونلحفه بغية الوصول إلى ما نبتغي ونتمنى. إن ما نسميه تحت تأثير تتابع الأحداث قضية كبرى هو نفسه ذلك الحادث الذي يشرخ ذاكرتنا فتصير مهترئة مبتورة الأجزاء، قد ننسى معه من نكون أو ماذا يجب أن نفعل، أو نخسر ما استفدناه من دروس ماضية، خبرنا من خلالها معدن بعض الرجال أو عرفنا كيف تدبر الأمور بليل أو نهار. ويبقى هناك من لا ينسى فيقرر ما يذكرنا به وما ينسينا إياه.. ما يسجله وما يمحوه في تلك الذاكرة المهترئة.

آخر الوحي:
قد رأيت الحسن ينسى مثلما تنسى العيوب
و طلوع الشمس يرجى مثلما يرجى الغروب
و رأيت الشر مثل الخير يمضي و يؤوب
فلماذا أحسب الشر دخيلا، لست أدري!
إيليا أبوماضي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق