الأربعاء، 30 مايو 2012

وزارة التربية ... سلامة خالهم






الأربعاء 30 مايو 2012



يقال إن رجلاً من أهل العراق خرج من المحافظة التي يقطنها ليزور أخته في محافظة أخرى، فلما أن بلغ مقصده، أحسنت شقيقته استقباله ووضعت أمامه من موائد الفاكهة ما لذ وطاب. وبينما هو ينظر لتلك الموائد، تفقد أحد الأصناف ولعله المانجو فلم يجده. وهنا قال لأخته مررت في طريقي ببائع فاكهة يبيع من المانجو صنفاً لا مثيل له، حتى تمنيته لأبناء أختي واشتهيته لهم. فقالت له أخته إنه لا داعي لهذه الكلفة فما هم غرباء، فزاد إصراره وقال أبناء أختي يستحقون هذا الصنف الطيب، لقد كدت اشتريه لهم، فأجابت الأخت وفيم العناء، تكفينا زيارتك عن كل فاكهة فهتف محتداً متمسكاً بموقفه كما لو أنه بالفعل قد جلب لهم الفاكهة “خل ياكلون بسلامة خالهم”.
وكما بدا لكم في إصرار الرجل أن أبناء أخته يستحقون الفاكهة كأنه جلب لهم أرطالاً منها لا تعد، تذكرت هذه القصة حين قرأت في نشرة جمعية الرابطة حول السؤال الذي قدمه النائب العطيش إلى وزير التربية والتعليم عن اختبارات التوظيف في وزارته. فهذه الوزارة التي تنتج لنا المخرجات التعليمية التي تعمل على إعدادها إثني عشر عاماً، ثم تتكفل بإبتعاث المتفوقين منها ثم يكون وزيرها ضمن مجلس أمناء الجامعة الوطنية رئيساً لهذا المجلس. إلا أن هذه المخرجات تتقدم لإختبارات التوظيف فيرسبب ثلثا هذه المخرجات في اجتياز هذه الاختبارات.
وبدون شخصنة، فإن وزارة التربية بسياساتها ولا شك تتحمل مثل هذا الإخفاق الكبير الذي يدل على تدني جودة مخرجات مؤسساتها إن صحت نتائج إختبارات التوظيف. فمن اجتاز الإختبارات لمدة 16 عاماً لا يعقل أن لا يكون مؤهلاً لتجاوز اختبارات توظيف الجهة المسئولة عن تأهيله منذ نعومة أظفاره. فبحسب ما ورد في النشرة أن 1335 متقدماً قد اجتازوا الإختبارات من أصل 3040 بحرينياً تنافسوا لنيل الوظائف التعليمية عام 2011-2012. ولذا قامت الوزارة بإبرام 300 عقد جديد مع أجانب وجددت عقود 900 آخرين. أو بمعنى آخر، وبحسب فهمي القاصر، كنا نتمنى توظيف بحرينيين، إلا أنه لم يوجد أكفاء لهذه الوظائف. وحيث أن ثلث الدرجة يعتمد على المقابلة الشخصية، نجح أقل من نصف المتقدمين في الإختبار ككل.
إلا أن النائب علي العطيش في رده على إجابة الوزير قال أن أسئلة المقابلة تحتوي أمثلة من قبيل “ما رأيك في رئيس الجمعية الفلانية؟ هل حضرت التجمع الفلاني؟ هل تؤيد القانون الفلاني؟ لماذا لقبك هكذا؟” والعهدة على النائب العطيش ومن نقل عنه النائب العطيش.
وأقول لسعادة النائب المحترم، أن مثل هذه الأسئلة غير مستغربة، إذا كان عندنا من الكتاب الذين يظهرون على شاشات التلفاز ويقومون بالتنظير حول المؤامرات الحاصلة في التعليم، والمؤامرات الحاصلة في العمل في سوق السمك، والمؤامرات الحاصلة في الإنضمام لسلك المحاماة والمؤامرات الحاصلة في العمل التجاري، وفي التوالد السياسي كما يسمونه، ومؤامرات في التنفس حتى لا يتنفس الشرفاء، وأحب أن أنبه أن هذه الكتابات كانت في 2010 ومثلها في السنوات السابقة إلى ما قبل الألفية. إذا كانت الثقافة التي يعمل المأزومون على نشرها تقوم على هذا الأساس، المأزومون الذين يسمون سنوات الإصلاح بالسنوات السوداء، والسياسات التي ضيعت كل شيء. إذا كانت هذه هي الثقافة التي تبث، فلا تستغرب من هكذا أسئلة عند التوظيف. والله من وراء القصد..

الأحد، 27 مايو 2012

إني خيرتك








الأحد 27 مايو 2012

جلس بجانبي في الطائرة، و استأذن قبل جلوسه، رحبت به و جلس هادئاً يطالع الصحف. و بطبيعة الحال، ما لبثت الأحاديث تبدأ بيننا عرضياً. و لأنه مصري، ولأن يومها كان يوم ظهور النتائج للإنتخابات الرئاسية، بادرته بالسؤال عن توقعاته. كنت قد علمت قبيل صعودي للطائرة أن المرشحين مرسي و شفيق يتقدمون الباقين، و كانت نتائج الجيزة و القاهرة لتحسم هذا السباق و تحدد إسم المرشحين الصاعدين للجولة الثانية.
وجدته يهتف بأنه يتمنى وصول حامدين صباحي إلى الجولة  الثانية و لا يتمنى أبداً أن يجد مرشح الإخوان يتسابق في الدور الثاني بتاتاً. قال لي، أن وصول شفيق بالنسبة له أفضل من وصول مرشح الإخوان المسلمين. و بدا شديد الحنق و ربما التحامل على تنظيم الإخوان المسلمين. قال لي، لو صعد المرشح مرسي للجولة الثانية فسنفضل أن ندعم شفيق على أن ندعم مرشحاً للإخوان المسلمين. و استرسل بالكلام على تيار الإخوان المسلمين ناعتاً إياهم بأشد النعوت من حيث التطرف و الإحتيال على الدين و اللعب على عقول البسطاء.
قلت له، ان جماعة الإخوان كما يبدو تتمتع بشعبية كبيرة في صفوف مجتمعك المصري، فقال هذا صحيح لأنهم يصورون للناس أن الإنتصار لهم يمثل انتصاراً للدين، بينما هم حين تناقشهم في أمر ما و تستدل بآية أو حديث لا يقبلون قولك و لا يقبلون منك أن تستدل، فالإستدلال حتى تساؤلاً أو جدلاً غير مقبول منك و الحكم هو ما ينطق به كبار الجماعة، و هؤلاء الكبار هم الدين و هم مصدره، فجعلوا لهم مكانة فوق مكانة الدين، بل أن التساؤل عن تصرفاتهم غير مقبول و قد يعتبر تطاولاً.
قلت له، و لكن هل من الممكن أن تفضلوا عليهم وجهاً ينتمي إلى الحقبة الفائتة، قال لي حينها لن يكون أمامنا خيار فنار شفيق خير لنا من جنة الإخوان، و أردف، لا ألوم الأقباط لتصويتهم لشفيق، فلو كنت مكانهم لفعلت الشئ نفسه قبال تيار يحتكر الدين في توجهه و في أفكاره و في حزبه، و تأكد أنهم لا يتعاملون في تعصبهم هذا مع المسيحي فحسب بل هي نظرتهم لكل أصحاب المذاهب الأخرى.
و استرسل مرة أخرى يقول، ما أعرفه أن الدين مظلة كبرى لكل أصحاب المذاهب، و هؤلاء يقلصونها إلى حيز أصغر، بل إن الدين الذي جعل هداية لكل الناس و هدفه خير الإنسان حتى غير المسلم، فكيف بنا و هؤلاء ينظرون بنظرة ضيقة و يتمسكون بما يفرقنا لا ما يوحدنا كمسلمين و كمجتمع مصري. كلما أخذته بالكلام مرة أخرى نحو الإنتخابات كان يدعو الله أن لا تضيع فرصة التغيير و أن تسفر نتائج القاهرة و الجيزة عن خروج المرشح مرسي و وصول صباحي قبالة شفيق، و يعيد التأكيد على أن شفيق سيكون خياره لو قابله مرشح الإخوان، ثم يدعو بالنصر و بتحقيق آمال “الغلابة” الذين سعوا للتغيير.
إعتذر فيما بعد لكثير الكلام الذي أبداه حنقاً عند أي ذكر للإخوان، فأجبته أن لا عليك، فمن دواعي سروري أن أستمع مباشرة لمشاعر مصري يترقب النتائج في مثل هذا اليوم.
 ودعته على أمل اللقاء لما رأيته من كرم أخلاقه كعموم من قابلتهم من مصريين و أخذت أفكر فيما سمعته منه، و أخذت أفكر فيما قاله و في الوضع الذي تنبئ به انتخابات مصر. الخيار القادم يراوح بين وجوه النظام السابق و وجوه الإخوان، إنها كما قال أحد أصدقائنا المغردين نفس الثنائية، ولكن مع تبادل الأماكن ربما لو وصل الإخوان للحكم. هل هذه هي ثورة شباب مصر التي أقامت الدنيا، أين هؤلاء الشباب الذين قادوا الجموع إلى ميدان التحرير؟ هل كانوا أشباحاً؟ ألم يتمكنوا من تنظيم أنفسهم بما يكفي ليعودوا بقوة عبر الصناديق؟
هل كانت الفتوى التي تقود الناس للصناديق من ناحية؟ و عصا النظام السابق التي تلوح من بعيد و تعد الناس بالحاكم الظلوم الذي يريحهم من فتنة تدوم؟ ثنائية الوجوه على الأقل هي نفسها عائدة، و ما الدماء التي بذله بسطاء الناس إلا ثمن لنقل المعركة إلى أفق آخر. هل لهذا السبب لم يظهر الإخوان علناً في حركة ميدان التحرير؟ هل كان امتناعاً ليخدموا ثورة مصر خارجياً؟ أم كان لأنهم بعبع على المستوى الداخلي أيضاً كان بإمكان النظام حينها أن يستخدم فزاعته؟
هل خافوا أن يكون الخيار للناس نار النظام او جنة الإخوان، و خافوا أن يختار الناس نار النظام؟ أفكار غير مستبعدة، و ممكنة جدا، و ربما لهذا كان لا بد لكل حركات الربيع العربي أن تخفي وجوه اللاعبين الحقيقيين و تعتمد على البروبوغاندا من أن شباب التويتر و الفيسبوك يصنعون القادم و كأن هؤلاء وجوه فضائية. لئلا يقع الناس بين هذين الخيارين  فيجدوا أن الإثنين لا يستحقون التضحية، لأن التضحية دوماً تنبع من الامل.

آخر الوحي:
مرهقة أنت و خائفة
و طويل جداً مشواري
غوصي في الماء أو ابتعدي
لا بحر من غير دوار
الحب مواجهة كبرى
إبحار ضد التيار
نزار قباني

الأربعاء، 23 مايو 2012

معضلة الأعواد







الأربعاء 23 مايو 2012

مقاوماً رغبتي في الكتابة لأجل الكتابة، والجدال من أجل الجدال، وربما الحوار من أجل الحوار. قررت أن أتعامل بحرفية ومهنية النائب، وترتيبه للأولويات. وقررت أن أكتب عن قضايا متناهية الصغر لدرجة أنه لا أحد يهتم بها، ويظن الجميع أنه لا فائدة منها، الا أنني بفطنتي منقطعة النظير وجرأتي التي فاقت كل حدود الخوف وتجاوزت كل حواجز التردد، قررت أن أخوض في الغمرات وأصارع أبطال المشكلات. ذلك أن كل ما يحق للنائب كسلطة أولى قبل التنفيذية والتشريعية، يحق للكاتب كسلطة رابعة.
وحيث انه من الأهم عند نوابنا التفرد في طرح أعاجيب اللفتات وفريد الملاحظات، فانه للكاتب بل عليه أن يحذو حذوهم ويمارس شبيه دورهم لأن له سلطة رقابية على المنهج والخطاب والاستراتيجية والآلية. الا أن نوابنا حفظهم الله لم يبدأوا من قمة الهرم في المعضلات بحسب هذه التراتبية المعكوسة، فلم يفكروا فيما قد يظنه الناس أتفه التوافه، وانما فكروا فيما قد يقل عنها بساطة ويزيد تعقيداً، وهنا يأتي دورنا لنسلط الضوء على مشكلة بالغة الأهمية وقليلة التعقيد في ظاهرها وكثيرة المحاذير في حقيقتها.
المشكلة يا سادة تكمن في الأعواد، أعواد العصير، وما أدراك ما الأعواد، انها أهم جزء من أجزاء علبة المرطبات، الا أنها وللأسف واقعة في حيز الاهمال ودائرة الاستغلال. ذلك أنكم لولاحظتم بعين فاحصة، لوجدتم أن العصير الموضوع على رفوف ثلاجات الأسواق كثيراً ما يكون فاقداً لعود الشرب، وذلك يتسبب في مشكلة للمستهلك، اذ يصير غير قادر على تناول العصير بعد شرائه فيظل ملقى في ثلاجته حتى تنتهي صلاحيته ويكون مصيره الى سلة المهملات. لوعددنا ما يذهب الى سلة المهملات بسبب عدم وجود عود لعرفنا أن عشرات الآلاف من الدنانير المفقودة من قوة المواطن الشرائية قد أهدرت. وأما جانب آخر فهو ما قد يتسبب ذلك من خلاف وشجار بين طفل وأخيه على علبة العصير ذات العود، انها النهاية اذن، فرقة بين الأخ وأخيه وتفكك أسري لا نهاية له وأحقاد تزرع وتمتد. وربما وصل الخلاف بين الأخوين الى خلاف بين الأبوين، فيكون الطلاق وهدم ذلك البيت المترابط.
هذه بعض النتائج الكارثية، ولكن ما هي المسببات الكارثية للأعواد المفقودة، انه الغش في استخدام الصمغ، وهذا مؤشر على الفساد في الجهة المسؤولة عن المواصفات والمقاييس، وربما في الموانئ حين تدخل سلع دون الجودة المطلوبة، ولكن الاحتمال الأقرب هو بسبب الثقافة السائدة في المجتمع وعدم تقديس العمل. وبما أنها الثقافة، فالمسؤولية تقع على وزارة الثقافة.
لا أستطيع المواصلة بهذه الطريقة، أحس بأمراض الضغط والأعصاب تتسلل الي، فكيف بمن قرأ سطوراً من هذا الكلام الفارغ أكثر من مرة. وكيف بكثير من نوابنا الذين يغرقون في التساؤل عن كل ما لا يكلفهم المجهود، ويخوضون في جدل حول كل ما هو تافه، ويقومون بالتنظير لطبيعة العلاقات الدولية التي صنعت المؤامرات دون أن يفكروا يوماً في أن يكونوا جزءاً من معادلة الحل لمشاكل البلد الحقيقية. يخوضون الطريق السهل بالانضمام الى أحد جوانب التخوين دون أن ينظروا الى الدعوة لاصلاح مكامن الخلل، ولو من باب أن يكونوا الناصح الأمين.
اليوم والبلاد تعيش الأزمة، ما زال نوابنا يتعاملون بالمنطق القديم والنظرة القديمة لأدواتهم الاستجوابية، فتراهم ينقسمون سماطين في الدفاع عن وزير أو مسؤول، وها هو فريق يهدد باستجواب وزير، فيلمح الفريق الآخر بتصفية الحساب عبر استجواب وزير آخر. هذا هو حال الكثير من نوابنا، انهم لا يسمحون حتى بخلق متنفس للمواطن في مجلسهم، فضلاً عن أن يقوموا بخلق فارق وايجاد تجربة مشاركة حقيقية وفاعلة، لا يكون فيها النائب موظفاً لا يلتزم بحضوره وغيابه كما هوحاصل حالياً، ولا يكون فيها النائب موظفاً متلقياً للتوجيهات بدلا من أن يكون منتجاً لها، وتجربة يساهم النائب في تحريك عجلة التنمية ولا يكون ترساً اضافياً لا يضيف أي قيمة للعملية سوى استهلاكه جزءاً من ميزانيتها.
ولا أعلم حقيقة ان كان تصرف الكثير من النواب بهذه الطريقة المخزية نابعاً من عدم تمكن من أداء المسؤوليات المناطة بهم فعلياً، أم لأن لهم حدوداً ضيقة يتحركون فيها كما هو الحال في الكثير من الصحف اليومية. أقول إن حجب المناصحة من قبل المؤتمن هي غش وتملق وخداع وهدر للموارد واستغلال ووصولية، وأنا أربأ بسلطتنا التشريعية والرقابية المتمثلة في مجلس النواب وأربأ بصحافتنا أن يقتلهما الركود، والغياب والاصطفاف، والله من وراء القصد.

آخر الوحي:

اني لأرفض أن أكون مهرجا
قزما على كلماته يحتال

نزار قباني

الأحد، 20 مايو 2012

مقهى السوق










الأحد 20 مايو 2012


يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، بهذا الدعاء دخل عامل المقهى إلى مسرح مقهاه و بدأ في تنظيف المناضد و تلميع الكراسي، بعد أن عدلها من وضعيتها المقلوبة لإقفال المحل يوم أمس. و في عمل متواصل و جهد دؤوب أخذ في إعداد الشاي و القهوة، و تشغيل النار على قدري النخج و الباقلة. تأكد من إعداد كل ما يستلزمه الجزء الصباحي من اليوم حيث سيتوافد بعيد صلاة الفجر العمال و بعدهم الموظفون ثم المتقاعدون و كل هؤلاء ينتظرون منه أفضل إفطار يبدأون به نهارهم الطويل و الشاق.
 يلتفت العامل عند صندوقه النقدي ليتأكد من وجود حصيلة اليوم الماضي فيفاجأ بوجود راعي الحلال جالساً في الركن. يسرع إليه ليرحب به و يتعوذ بالله من شر يقظته المبكرة التي قد لا يكون سببها خيراً. بعد أن يقدم له الشاي، يخبره العم أن قدومه المبكر مقصود ليسبق وجود الزبائن، و ليأخذ منه حصيلة اليومين الماضيين. ينظر إلى الغلة القليلة فيبدأ بتوبيخه على تقصيره، إذ كيف يمكن أن تكون هذه حصيلة القهوة ليومين، قلة المدخول بهذا الشكل غير مقبولة. يتساءل صاحب القهوة، ما سر إنخفاض المدخول، العمال ما زالوا يأتون لشرب الشاي، و الموظفون يأتون على كل ما يعده المقهى للإفطار، و المتقاعدون جالسون في المقهى إلى وقت الغداء يتناولون المشروبات و يدخنون القدو، من أين هذا القصور و المحل لا يخلو من الزبائن.
 أخذ عامل المقهى يشرح أسبابه في ضوء ما عاناه في السنوات الأخيرة : “يا أبا أحمد لو سمحت لي بالكلام لدقائق فسأخبرك عن مشكلتنا الكبرى في مقهانا، أنت ولله الحمد قد أنفقت من ميزانية المقهى لشراء قرابة أربعين “قدو” يملأون لنا المكان بالهدير و القرقرة، إلا أنهم لا يؤدون المطلوب منهم. أنظر لهذه “القداوة” العشرين الموسومة بالحروف، إنها محجوزة بأجمعها لبعض رواد المقهى الذين يعزون عليك، و هؤلاء حين حجزوها لإستخدامهم جعلوها موقوفة عليهم فلا يسمع لها هدير إلا مرة في السنة، إنها ليست “قداوة” للجميع، و لا نستفيد من عملها ولا دخلها، بل ربما كلفتنا تنظيفاً و تخزيناً أكثر مما تنتجه. ثم أنظر لهذه الخمسة المركونة، إنها مخصصة لأنواع معينة من التتن، و فوق هذا فهي مثقوبة ، لا بد عند استخدامها أن تسد ببعض قطع الورق ليمكن للزبون أن يسحب منها أنفاساً معدودة قبل أن يتذمر منها و يطلب تغييرها. عشرة من الباقين هي الأفضل، و هي التي تنتج ما تراه أمامك و لكنها لن تتحمل طويلاً، و ربما بدأت في الإهتراء و تغير لونها  و تفتت حوافها، والباقية ليس عندنا لها رؤوس، و لا يمكننا الإستفادة منها، أحدها فقط صرنا نستخدمه لتبريد ماء الشرب لأنه لم يستخدم في التدخين من قبل، قل لي بربك، كيف يمكننا أن نزيد حصيلتنا في ظل هذه الظروف.
 تواصلت نظرة التساؤل في عين صاحب المقهى، و كأنه يشير للفتى أن يكمل و يعطيه الحلول لما يراه من مشاكل، هنا هدأت ثائرة العامل و قال “ يا سيدي الكريم، في هذا السوق لا يوجد إلا هذا المقهى، و نحن نعمل بسمعتنا، أين ينفس الكادحون عن هموهم سوى في هذا المكان، إن كل نفس ينطلق من هذا “القدو” يهدئ نفس إنسان و يبعثه على التفاؤل، فإن لم يجد إلا واحداً مهترئاً لا يفيد و لا يزيد فسيعيش بقهره و يموت بقهره، و إنما جعل هذا المكان متنفساً، و ساحة للتفكير و التحاور و التسلية المحترمة ربما، و لذا أقترح عليك ما يلي “ أن تشتروا كمية جديدة من “القداوة” و أن تمنعوا ظاهرة القداوة المسماة التي تعطل عملنا و تكلفنا بلا طائل، ثم أن تفتحوا الميزانية بما يكفي لشراء أنواع جيدة من التتن، لأن الناس تستحق أفضل بكثير مما تحصل عليه من خدمات حالياً، ثم لا داعي لطلب الخدمة بالإتصال الهاتفي، فإننا حين نتلقى اتصالاً يظل القدو بلا نفع و لا صوت و ربما من غير سبب مقنع، فلا يستفيد من حجزه و لا يستفيد الناس. إذا قمنا بهذا فربما ينصلح حال المقهى، هناك أشياء كثيرة، لكن الجدية في إعادة الأمور إلى نصابها تبدأ بتبديل القداوة”.
 بدأ دخول الزبائن و طلبهم للطلبات، فاستأذن العامل و بدأ يوزع آلات الغليون على أصحابها، و بدأت تتردد الأصوات في ثنايا المكان، و كانت الأصوات تأتي في فرز و في اصطفاف بغيض و  تناغم أقرب ما يكون للتحدي و صار صوت أعلى، قبل أن يهم بالإنصراف، وعد صاحب المحل عماله خيراً ثم تساءل عن العدد الدقيق، فأجابه العامل: عندنا في هذا المقهى أكثر من ثلاثين و أقل من أربعين “قدو”.

آخر الوحي:
المشرب غص بجيل لا تعرفه..بلد لا تعرفه
لغة..ثرثرة..و أمور لا تعرفها....
 مظفر النواب

الأحد، 13 مايو 2012

لا أهلاً بماركس








الأحد 13 مايو 2012

في مقال لأحد الكتاب مؤخراً في صحافتنا المحلية، كان يتفاخر بجمعية من الجمعيات السياسية ذات التوجه اللا ديني. رغم أن هذه الجمعيات التي تحمل الفكر الشيوعي لم تكن في السنوات الأخيرة تحب الكلام ظاهرياً عن موقفها من الدين و من العقيدة. هذا التوجه من هذه الجمعيات كان محاولة للتخلص من الغربة التي يعيشها مثل هذا التيار في مجتمع متدين كمجتمع البحرين و مجتمعات الخليج بصورة عامة.
 عندنا ولله الحمد باتت أي جمعية سياسية لا دينية صار يشار إلى أعضائها بالوطنيين، و كأن الوطنية صارت مقابلاً للدين فيصير اللا ديني وطنياً!! على أي حال، يقول كاتب المقال في مدح هذه الجمعية و قد عنون مقاله بعنوان “عود المنبر التقدمي”، يقول فيه: “عقدوا عقوداً، و وعدوا وعوداً، و دفعوا نقوداً، على أن يكسروا عود المنبر و يثنوه عن الطريق الذي اختاره و اختارته له جبهة التحرير، طريق الماركسية اللينينية”.
  هنا، حين أتوقف عند هذه الكلمة فأنا لا أوجه أي سؤال للكاتب أو لرواد هذا الإتجاه أو أعضاء جمعياته السياسية، و إنما أوجه سؤالي للجمعيات الإسلامية المتحالفة مع هذه الجمعيات و التي صنعت بتحالفها معهم مكانة لهم في قلوب الشباب  و الذين لا يدرون عن واقع هذه الجمعيات و عما تحمله من فكر و ما هو موقفها من الدين. و بالطبع، فإن الملاحظ أن قيادات هذه الجمعيات صاروا يحملون شيئاً من الرمزية عند أعضاء الجمعيات المتحالفة معهم.
 لم يأنف الإسلاميون كما يبدو أو يستنكفوا من التحالف مع الماركسي، إلا ان هذا الماركسي صاحب المقال لم يتحمل أن يتحالف مع الإسلاميين. و هنا نقطة تستدعي التوضيح، حين يتكلم أحد عن ماركس فلا يمكن أن يغفل كلمته الشهيرة “الدين أفيون الشعوب” و حين يتكلم عن لينين فلا تغافل عن كلمته “ الدين خرافة و جهل”.
  نعم، لم يعد الماركسيون أو بقاياهم يجاهرون بالكلام عن موقفهم من العقيدة و من الدين، إلا لماماً، و إلا فلغة السبعينات و الستينات تغيرت ما لم تتكلم مع أحد كبار السن منهم، فهؤلاء أو بعضهم لا يتحملون حقيقة أنهم صاروا يعيشون في مجتمع لفظ التوجهات الإلحادية كما تلفظ اللقمة الفاسدة من الفم، فتراهم يزبدون و يرعدون، أما الأعم الأغلب فلا نرى كتاباتهم حول الدين أو آرائهم عن العقيدة، و لكن قد يأتي وقت غير بعيد يعودون فيه لطرح هذه البضاعة الكاسدة من الأفكار الإلحادية.
 يكمل صاحب المقال الذي تكلمنا عنه، فيخرج بقائمة من الألفاظ المغبرة و التي لم نعد نسمعها حتى من الجمعيات التي يتفاخر بها كونها ذات توجه شيوعي، فتتناثر كلمات مثل: الرجعية، الظلامية ، التنويريين. و هذه بلا شك هي نظرة عموم الشيوعيين إلى ذوات الدينيين الظلامية مقابل ذواتهم هم التنويرية، إلا أنه في مجتمعنا كان هؤلاء قد عرفوا حدودهم مع الدين على المستوى الظاهري، و اليوم قد فتح المجال لهم بالتنسيق و التمكين و التخندق ثم التحالف من قبل الناس، و  بهامش الحرية من قبل الدولة، فهل سنسمع قريباً كلامهم القديم في مهاجمة الدين؟! أم أن من يحالفهم سياسياً مستعدٌ لمواجهتهم عقيدياً؟! و الله من وراء القصد...

الأربعاء، 9 مايو 2012

غير مفهوم... يا وزارة التربية







الأربعاء ٩ مايو ٢٠١٢


خبر غريب سمعته عن وزارة التربية والتعليم ولا أعلم سر التصرف المنسوب لوزارة التربية. منذ أكثر من أسبوع أعلن أنه قد أقيمت مسابقة في احدى المدارس الابتدائية، يرتدي كل طالب ثياب مهنة يختارها للمستقبل. وتنوعت الملابس بين المهن المختلفة، وكان من ضمن المتسابقين طالب اختار زي علماء الدين. ويبدو أن لجنة التحكيم قد اختارت من يلبس هذا الزي ليفوز بجائزة المسابقة. حتى هنا والخبر لا يعدو كونه خبراً عادياً حول نشاط مدرسي هادف. الا ان المثير في الموضوع ما قيل عن تحقيق أجرته الوزارة مع لجنة التحكيم للوقوف على أسباب اختيار هذا المتسابق بهذا الزي كفائز بالمركز الأول.

 بالنسبة لي، فأنا لا أرى أي مشكلة في فوز هذا الطالب بالمركز الأول. فنحن ولله الحمد نعيش في بلد مسلم، يدعو للفضيلة، ويحث على طلب العلوم الدينية وغيرها. ومما لا شك فيه أن الدولة للترغيب في هذا المجال قد أقامت المعاهد الدينية، واهتمت بأن تشتمل مناهج التدريس في كل المراحل والسنوات على مواد التربية الاسلامية. هدف نبيل بلا شك أن يتم التشجيع على هذا المنحى، بحيث تزيد حصيلة طلبة العلوم الدينية من ذوي التحصيل العلمي المرتفع، بحيث يكون من يقوم بهذا الواجب أناسٌ يتمتعون بالوعي والاستعداد اللازمين لمثل هذا الطريق الصعب والذي يحتاج الى توطين النفس وتحمل المكاره وأن لا تأخذه في الله لومة لائم.


 بل حتى اذا لم يوفق من كان يتمنى الوصول لهذا الطريق لسبب من الأسباب، نكون قد كسبنا أفراداً يحملون بداخلهم بذور طيبة من تشجيع المدرسة لهم في هذا التوجه، فيكونون أفراداً يخدمون دينهم ووطنهم عبر مستواهم الخلقي الرفيع الذي لا بد ان يترسخ ان كانوا حقاً يثمنون مثل هذا التخصص الهام والحيوي.

 اليوم نجد الجامعات والمعاهد والمصارف تهتم بالاقتصاد الاسلامي، وبتدريس علوم متعلقة بفهم المجتمع المسلم بين لغة واقتصاد وعقائد. نعم، يهتمون بدراسة ثقافة المجتمع المسلم ومعرفة خصوصياته، لأن التسويق في مجتمع ما يستلزم التعرف على ثقافته.

مع هذا كله، نجد من المسلمين، ومن الوزارة التي يفترض أن تكون رائدة في نشر التسامح وفي زرع ثقافة الاعتزاز بالهوية من يتعامل مع مثل هذه الأنشطة بنظرة ضيقة لا تليق بالمربين الأفاضل والمعلمين الذين يستحقون منا كل احترام وتبجيل.

 اليوم الكثير من الأخبار والأقاويل لا تخفى بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، ولا أدري ان كان هذا من محاسنها أو من مساوئها، الا أنني أتمنى على وزارة التربية أن توضح هذا الموقف، لأن ما يتداوله الرأي العام وما يفهم من الحادثة لا يسر أحداً خصوصاً ونحن جميعاً نأتمن هذه الوزارة على عقول وأفكار النشئ القادم والذي هو أغلى ما يمتلكه الجيل الحالي. غير مفهوم يا وزارة التربية!! والله من وراء القصد...


 آخر الوحي:

قم للمعلم وفه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا


أحمد شوقي

الأحد، 6 مايو 2012

ما بعد الشهرة








الأحد 6 مايو 2012


الشهرة كما اشتهر عند الناس جميعاً، هي أمر له ضريبته التي لا بد لكل المشاهير أن يدفعوها. فحياتهم الشخصية بأدق تفاصيلها لا تعود ملكاً لهم و إنما هي ملك للجمهور و لوسائل الإعلام التي تلاحقهم في كل مكان و زمان. و لنا أن نتذكر كيف قضت الأميرة ديانا و صديقها عماد الفايد و هم ملاحقون بكاميرات الصحافة. هي ضريبة للشهرة يضطر الإنسان أن يتخفى و يتحمل التطفل و يخسر حياته كإنسان عادي لصالح النجم الذي يراه الناس على الشاشات و في صفحات المجلات و الجرائد.
 إلا أن هذه الضريبة التي يدفعونها من حياتهم الشخصية تقابلها امتيازات يحظون بها على كل المستويات. و لن أتحدث عن الإمتيازات المالية و المادية و إنما عن أمر هو في صميم حياتهم المهنية و نظرة الناس لما يقدمونه من أعمال فنية أو إبداعات أو حتى تصرفات. و هذا الحديث هو حديث قديم جديد، حول الهالة التي تحيط بالنجوم في مجالاتهم، حين ينظر الناس لما يقوله الإسم الفلاني بعين الإعجاب و الإنبهار فقط لان قائله هو الإسم الفلاني، بغض النظر عن دقته أو إبداعه أو حتى توافقه مع أدنى حدود الأدب أو الذوق أو الأخلاق. كل هذا يأتي لاحقاً لأن عين الرضا عن كل عيب كليلة، و ربما لأن الجمهور من النوع الموسمي لذلك المجال و ليس من جمهور المتخصصين و ذوي الخبرة، فلا يتمكن من نقد او انتقاد ما يقال أو يقدم من أعمال.
 صارت تراكمية الحضور تصنع إسماً تعتاده الآذان، و يكبر في العيون و تخضع له العقول حتى لو كان لا يساوي شيئاً في مجاله، و تصير كل تصرفاته و أفعاله إبداعات. ربما يبدأ مبدعاً إلا أنه بعد أن يحوز شهادة الإبداع، يصير بإمكانه أن يمارس الإسفاف و الإستسخاف بشكل بليد دون أن يستهجنه ذوق أو يرفضه مزاج أو يلفظه الإهتمام، و هنا يبدأ الذوق العام في الإنحطاط. و لعلها علاقة تبادلية ذات إتجاهين، فمن ناحية يكون هو عرف أكثر ما يبحث عنه عموم الجمهور فتجاهل الإنتاج الإبداعي لصالح “الجمهور عاوز كدة”.
 بعد أن ينال النجم شهرته و لمعانه يبدأ في إخراج لسانه في وجوه الجميع فيفرح الجميع بتبسطه معهم، يسخر من عقولهم فيطالبونه بالمزيد، يصرخ شاتماً غباءهم فينبهرون بنظرته الكاريزمية المهيبة. من ضمن ما لا انساه من أمثلة التصرفات على الصعيد الشخصي، تصرف الممثل توم كروز الذي طالعتنا به صحف 2010 ربما، حين ابتهج بقدوم طفلته الصغيرة إلى الدنيا فقام بالإحتفاظ بأول عينة من فضلاتها بعد أن قام بطلاءها بالذهب و صنع منها تحفة يعتز بها. اعذروني على التعليق على هذا الموضوع، فلا أريد أن يزيد الكلام عنه طين الإهتمام الإعلامي به ، و لكنني أذكره من باب المثال و  المثال يقرب و يبعد.
 ما فعله توم كروز هو حقه و له أن يفرح بفضلات ابنته كما يشاء، إلا أن وسائل الإعلام التي اهتمت بمطالعتنا بالخبر لم تكن تحترم نفسها و لا جمهورها. المريع في موضوع هالات التقديس التي توضع حول المشاهير أنها تجعلهم محط أنظار المهتمين و غير المهتمين، فيتحولون أصناما تعبد في مجالهم، فيصير تصرفهم هو المقياس للصواب و الخطأ و الإبداع و الإسفاف، يصيرون في عيون الناس آلهة لمجالاتهم، و إن كانوا من الطبقة الثالثة أو الرابعة من حيث تفوقهم الفعلي في مجالاتهم.
 بل أن هناك من يملك النفس لتكريس حضوره بالإسفاف و الخربشة لزمن طويل، حتى تألفه الأسماع و الأبصار، بل كثيراً ما تعد (إبداعاته) مدرسة جديدة مذيلة نظرياتها و نواتجها بتوقيعه، حتى تفسد مجموعة كبيرة من الأذواق بتقبلها و يصير لها قيمة عند من صار يتابعها فتصير ذات قيمة، فيتساءل الناس عن آخر إبداعاته و يقارنون سواه به و كأن نتاجه هو المحك و قوله هو الفصل، بينما هو لا يحافظ على أكثر من الحضور، حتى لو كان حضوره مهلهلاً و لا يحمل أي جمالية تذكر، أو كان متأرجحاً بين الإبداع و الإسفاف و الغموض المستفز مع جرعة قوية من الإعتداد و من الصفاقة أحياناً، إلا أن الإسم بعد أن يصنع و رصيد الجمهور بعد أن يتكون يصير مقبولاً منه أن يقدم الفضلات على طبق من ذهب لتتعالى صيحات الإعجاب.

آخر الوحي:
وداعاً أيها الدفتر
وداعاً يا صديق العمر، يا مصباحي الأخضر
و يا صدراً بكيت عليه أعواماً و لم يضجر
و يا رفضي، ويا سخطي ، ويا رعدي و يا برقي
و يا ألماً تحول في يدي خنجر
 نزار قباني

الأربعاء، 2 مايو 2012

لو تكاشفتم !






الأربعاء ٢ مايو ٢٠١٢


حديث نبوي شريف ذو معنى عميق وخطير، يفسر عن الإنسان وما تخفيه نفسه من مشاعر وأفكار وهواجس وتمنيات. “ لو تكاشفتم، ما تدافنتم”، جوامع الكلم والبلاغة والعمق حين يتكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أناس من القرب بحيث يكون دفن أحدهم واجباً على الآخر، ربما كابني آدم إذ دفن أحدهما الآخر رغم أنه هو من قتله، وربما كما يدفن أحدنا الآخر وهو من ربما تمنى هلاكه.

 رغم هذا القرب وهذا الواجب، إلا أن الحي لو علم بما كان يبطنه الميت، فلربما استنكف من أن يدفنه، ومن يدري فلربما أحرقه أو مثل به أو مزق جثته. إن أحدنا قد يفعل ذلك في الآخر رغم أنه لا يعلم ما يبطنه له، أو لربما يفعله مع من يعلم حبه وإخلاصه، فكيف إذا علم منه الحقد والبغض وإضمار الشر.

وإذ كان الإنسان يستخفي بهذه المشاعر، ولما كان علم ما في النفوس مختصاً برب العزة، وحيث إن ما في نفس الإنسان لا يبرح أن يخرج في فلتات لسانه وفي سبق أفعاله، كان من أكثر الأفعال ذماً إفساد ذات البين والسعي بالوشاية والنميمة بين الناس، وكذا التجسس وكل ما يمكن أن يطلعك على ما يسوءك من أخيك. بل إنك إن سمعت منه ما يسوءك كان الحمل على محمل الخير وابتغاء العذر أولى من أخذه بالجريرة.  

عظيم ذلك الإثم، وكبيرة تلك الخطيئة لو كان إفشاء لما هو حقيقي سيئ ولكنه خافٍ عن عيون الناس. فكيف به حين يكون إشاعة للكراهية والبغضاء وتشطيراً للمجتمع وشحناً للنفوس واختلاقاً للأحقاد؟ أي أنفسٍ تقبل لنفسها هذه الدناءة من القول والفعل، حين يغدو مال الإنسان ودمه وعرضه مباحاً لتجار الفتن وأقلام البغضاء ومنتفعي الحروب؟ لا شك أن أي مشعلٍ لهذه الفتن يعلم بشاعة ما يفعل، ولكنه إما مستفيدٌ منه أو متكسب.


 الكلام هنا للأقلام الطائفية، لدعاة المقاطعة من مستحلي أموال الناس، لكل يد مشبوهة لا تعبأ بما تزهق من أرواح، للقنوات التكفيرية الطارئة على السياسة قبل تلك الملتزمة بمنهج التكفير العقدي وحده، اتقوا أن تشعلوا ناراً بدت لها بوادر تحرق الأخضر واليابس، إن لم تكونوا تتقون يوماً يتبرأ المتبوع من التابع، وتيقنوا أن قدركم واحد ولا مستفيد من البغضاء إلا العدو، فأصلحوا بين أخويكم!!




  آخر الوحي:

  عاد الربيع إلى الدنيا بموكبه ***فازينت واكتست بالسندس الشجر

 وظلت التينة الحمقاء عارية ***كأنها وتد في الأرض أو حجر

 ولم يطق صاحب البستان رؤيتها*** فاجتثها، فهوت في النار تستعر

 من ليس يسخو بما تسخو الحياة به*** فإنه أحمق بالحرص ينتحر

  إيليا أبوماضي