الأحد، 20 مايو 2012

مقهى السوق










الأحد 20 مايو 2012


يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، بهذا الدعاء دخل عامل المقهى إلى مسرح مقهاه و بدأ في تنظيف المناضد و تلميع الكراسي، بعد أن عدلها من وضعيتها المقلوبة لإقفال المحل يوم أمس. و في عمل متواصل و جهد دؤوب أخذ في إعداد الشاي و القهوة، و تشغيل النار على قدري النخج و الباقلة. تأكد من إعداد كل ما يستلزمه الجزء الصباحي من اليوم حيث سيتوافد بعيد صلاة الفجر العمال و بعدهم الموظفون ثم المتقاعدون و كل هؤلاء ينتظرون منه أفضل إفطار يبدأون به نهارهم الطويل و الشاق.
 يلتفت العامل عند صندوقه النقدي ليتأكد من وجود حصيلة اليوم الماضي فيفاجأ بوجود راعي الحلال جالساً في الركن. يسرع إليه ليرحب به و يتعوذ بالله من شر يقظته المبكرة التي قد لا يكون سببها خيراً. بعد أن يقدم له الشاي، يخبره العم أن قدومه المبكر مقصود ليسبق وجود الزبائن، و ليأخذ منه حصيلة اليومين الماضيين. ينظر إلى الغلة القليلة فيبدأ بتوبيخه على تقصيره، إذ كيف يمكن أن تكون هذه حصيلة القهوة ليومين، قلة المدخول بهذا الشكل غير مقبولة. يتساءل صاحب القهوة، ما سر إنخفاض المدخول، العمال ما زالوا يأتون لشرب الشاي، و الموظفون يأتون على كل ما يعده المقهى للإفطار، و المتقاعدون جالسون في المقهى إلى وقت الغداء يتناولون المشروبات و يدخنون القدو، من أين هذا القصور و المحل لا يخلو من الزبائن.
 أخذ عامل المقهى يشرح أسبابه في ضوء ما عاناه في السنوات الأخيرة : “يا أبا أحمد لو سمحت لي بالكلام لدقائق فسأخبرك عن مشكلتنا الكبرى في مقهانا، أنت ولله الحمد قد أنفقت من ميزانية المقهى لشراء قرابة أربعين “قدو” يملأون لنا المكان بالهدير و القرقرة، إلا أنهم لا يؤدون المطلوب منهم. أنظر لهذه “القداوة” العشرين الموسومة بالحروف، إنها محجوزة بأجمعها لبعض رواد المقهى الذين يعزون عليك، و هؤلاء حين حجزوها لإستخدامهم جعلوها موقوفة عليهم فلا يسمع لها هدير إلا مرة في السنة، إنها ليست “قداوة” للجميع، و لا نستفيد من عملها ولا دخلها، بل ربما كلفتنا تنظيفاً و تخزيناً أكثر مما تنتجه. ثم أنظر لهذه الخمسة المركونة، إنها مخصصة لأنواع معينة من التتن، و فوق هذا فهي مثقوبة ، لا بد عند استخدامها أن تسد ببعض قطع الورق ليمكن للزبون أن يسحب منها أنفاساً معدودة قبل أن يتذمر منها و يطلب تغييرها. عشرة من الباقين هي الأفضل، و هي التي تنتج ما تراه أمامك و لكنها لن تتحمل طويلاً، و ربما بدأت في الإهتراء و تغير لونها  و تفتت حوافها، والباقية ليس عندنا لها رؤوس، و لا يمكننا الإستفادة منها، أحدها فقط صرنا نستخدمه لتبريد ماء الشرب لأنه لم يستخدم في التدخين من قبل، قل لي بربك، كيف يمكننا أن نزيد حصيلتنا في ظل هذه الظروف.
 تواصلت نظرة التساؤل في عين صاحب المقهى، و كأنه يشير للفتى أن يكمل و يعطيه الحلول لما يراه من مشاكل، هنا هدأت ثائرة العامل و قال “ يا سيدي الكريم، في هذا السوق لا يوجد إلا هذا المقهى، و نحن نعمل بسمعتنا، أين ينفس الكادحون عن هموهم سوى في هذا المكان، إن كل نفس ينطلق من هذا “القدو” يهدئ نفس إنسان و يبعثه على التفاؤل، فإن لم يجد إلا واحداً مهترئاً لا يفيد و لا يزيد فسيعيش بقهره و يموت بقهره، و إنما جعل هذا المكان متنفساً، و ساحة للتفكير و التحاور و التسلية المحترمة ربما، و لذا أقترح عليك ما يلي “ أن تشتروا كمية جديدة من “القداوة” و أن تمنعوا ظاهرة القداوة المسماة التي تعطل عملنا و تكلفنا بلا طائل، ثم أن تفتحوا الميزانية بما يكفي لشراء أنواع جيدة من التتن، لأن الناس تستحق أفضل بكثير مما تحصل عليه من خدمات حالياً، ثم لا داعي لطلب الخدمة بالإتصال الهاتفي، فإننا حين نتلقى اتصالاً يظل القدو بلا نفع و لا صوت و ربما من غير سبب مقنع، فلا يستفيد من حجزه و لا يستفيد الناس. إذا قمنا بهذا فربما ينصلح حال المقهى، هناك أشياء كثيرة، لكن الجدية في إعادة الأمور إلى نصابها تبدأ بتبديل القداوة”.
 بدأ دخول الزبائن و طلبهم للطلبات، فاستأذن العامل و بدأ يوزع آلات الغليون على أصحابها، و بدأت تتردد الأصوات في ثنايا المكان، و كانت الأصوات تأتي في فرز و في اصطفاف بغيض و  تناغم أقرب ما يكون للتحدي و صار صوت أعلى، قبل أن يهم بالإنصراف، وعد صاحب المحل عماله خيراً ثم تساءل عن العدد الدقيق، فأجابه العامل: عندنا في هذا المقهى أكثر من ثلاثين و أقل من أربعين “قدو”.

آخر الوحي:
المشرب غص بجيل لا تعرفه..بلد لا تعرفه
لغة..ثرثرة..و أمور لا تعرفها....
 مظفر النواب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق