الأربعاء، 27 يونيو 2012

الحيرة بعد الخيرة





الأربعاء 27 يونيو 2012


قيل قديماً وتداول بين الناس القول المأثور إن الخيرة عند الحيرة، وذلك بمعنى أن الاستخارة تكون عندما يقع الإنسان في حيرة من أمره إلا أن عنوان المقال هنا هو العكس. فهو يذكر الحيرة التي تقع بعد الخيرة. وهي رغم أنها غير مأثورة كقول، إلا أنها مشهورة كحالة يقع فيها الإنسان.
فكل شخص ربما مر عليه الموقف الذي يكون فيه يميل نفسياً لاتجاه أو موقف بين اتجاهين ولذا يقرر أن يختار أحدهما عبر الاستخارة، ويتمنى أن تقع الاستخارة على ما يتمناه، والحال أنه لا يحدث، فلا تجري الريح بما اشتهته سفنه. هنا يبحث عن مخرج مما ألزمته به استخارته، فيظل يبحث ويبحث حتى يحصل على أي حل.
والمفترض عقلاً قبل أن يكون شرعاً هو أن يعتمد الإنسان ما أنتجته هذه الاستخارة، ولا يبحث عن حل بديل، إلا أن رهانه بداية كان هو أن تؤيد الاستخارة ما تمناه، فلم يكن في الحسبان أن تخالف مشتهاه، ولكن تمني الشئ وحده لا يجعله يتحقق.
الاستخارة عند اللجوء إليها دون تسليم تام قد لا تعدو كونها رهاناً وربما رهاناً خاسراً. وهناك كثير من الأمور التي نفعلها ونحن نمني أنفسنا الأماني فيما نعلم يقيناً أنها غير مأمونة العواقب. فمثلاً، حين نضع أمام الطفل الحلوى والوجبة على أمل أن يختار الوجبة، فنحن ندري مسبقاً أن الوجبة لن تكون خياره. ومثلاً حين نبقي الباب موارباً آملين ألا تسرق بضائعنا. ومثلاً حين نترك الراحلة بلا قيد آملين ألا تهرب.
والأمثلة أكثر من أن تعد من المراهنة معلومة النتائج. ووجه الشبه بين هذه الأمور أن الإنسان كان الخيار بيده ثم لم يعد بيده بسبب أمل كان يطمح تحققه.
وفيما قرأناه في الفترة السابقة، وجدنا من يتكلمون على الديمقراطية بأشد ما يمكن أن يقال من كلام، ومن أنها أسوأ الحلول التي أنتجتها البشرية لمشكلة آلية اتخاذ القرارات التشريعية والرقابية، ومن أنها تصنع من قول الأغلبية حقاً، ومن قول الأقلية باطلاً. إلا أنهم بعد كل هذا الكلام يطرحون آراؤهم النظرية جانباً، قائلين أن الشارع بما يحمله من وعي عميق، وخلق رفيع، لا يمكن أن تصل به الآلية الباطلة إلى خلاف مبادئه الحقة.
لا أدري إلى أي درجة يصح مثل هذا القول، إلا أننا لو كنا لنراهن على هذا الاتجاه، فإن كل تشريع يفتح الباب أمام أمر محظور أخلاقياً لا يصح أن يخاف منه على المجتمعات التي تحمل القيم والمبادئ ويفترض فيها أن تكون واقية وحامية له من الوقوع في تلك المحظورات. وهنا لا يعود هناك داع للتشريعات أياً كانت، لأن هذه النظرة تفترض أن النفس الإنسانية فاضلة وكاملة وعالمة تمام العلم بكل ما فيه ضرر لتتجنبه وكل ما فيه نفع لتسعى له. وهذا المثال هو مثال عام يجب أن يعمل ليستدعي كل الوقائع التي حصلت، والاحتمالات التي يصح وقوعها ولا يعد مستحيلاً. أو كما قال أحد الأصدقاء الأعزاء، فهذا يفتح باب التساؤلات، وباب التساؤلات هو أفضل واعظ ودافع للبحث عن الحقيقة والتوصل إليها
فيما أرجو أن لا يؤخذ الكلام هنا باعتباره وعظاً، لأن المرء حين يتكلم في الوعظ فقد يكون أحوج ما يكون إليه. إلا أن هناك أشياء تقال بجدية بالغة فقط ليتم تسجيلها، لتقال وتكتب وربما ترمى، ولكن يبقى أنها قيلت. والله من وراء القصد...

آخر الوحي:
كالبَحرِ صَوتـُكَ يا محمودُ يأتـيـني
هـَديـرُ أمواجـِهِ يـَبـري شـَرايـيـني
كالبَحر... أسهَرُ طولَ الـلـَّيل أرقـَبـُهُ
يـَنـأى، فـَيَنشـُرُني دَمعـا ويَطويني
وأنتَ تـُوغِلُ في المَجهول أشرِعـَة
مُحـَمَّـلاتٍ  بـآلافِ الـدَّواويـن
عبدالرزاق عبدالواحد

الأحد، 24 يونيو 2012

رائحة الكباب







الأحد 24 يونيو 2012

وقف ذلك الفتى الفقير على باب بائع الكباب و وضع رغيفه في مهب الدخان، و أخذ يتمايل مع الرائحة الشهية و يقتنصها بقطعة الرغيف ثم يأكلها. ثم قال لصاحبه أن أفضل شئ في الكباب رائحته لأنها بلا ثمن. و رغم أنه بات طاوي البطن ليلتها إلا من الخبز الحاف كما يقول المصريون، إلا أنه صنع لنفسه قصراً من أضواء الحوانيت، و فراشاً وثيراً من أرصفة الشوارع ووليمة شهية من رائحة الكباب المشوي.
وحقيقة فإن ما قاله الفتى يحمل جانباً من الحقيقة الصوفية، خصوصاً و هو لم يذق طعم الكباب، فلو كان تذوقه لما استطاعت نفسه أن ترضى بالرائحة، لأن اللذات يمسك بعضها بعنق الآخر، فالرائحة تجر المذاق، و المذاق يتمنى المطيبات، فلا بد من بعض السلطات هنا و بعض المقبلات هناك، ثم لا بأس بشئ من المشروبات ليبدل الموالح و الحوامض بالمحليات، و ربما يكون مسك الختام أن يتناول الحلويات  ثم يختمها بالقهوة المرة. و بعد أن يكمل هذه الرحلة بين الروائح و المذاقات يأتي وقت النوم على الفراش الوثير. و هكذا دواليك بلا نهاية حقيقية طالما  الوفرة غير متنغصة بانقطاع.
نعم، إن الإنسان من الممكن أن يعيش على رائحة الكباب، بل ربما اشتراها أو اضطر لدفع ثمنها إن وجد من يقف على أبواب الشوائين ينشر أرغفة في طريق الرائحة حتى تتشبع بها، ثم يبيعها و يجد من يشتريها فمن الناس من سيعيش الكفاف بالخبز الحاف و منهم من سيسعد نفسه بالتغيير لنكهة مختلفة للخبز أو رائحة مختلفة على الأقل.
لقد حاول أحد العرب أن يفعلها من قبل فأمسك بتلابيب الفقير و أخذه للقاضي يطالبه بدفع ثمن ما شمه من الشواء، و الحمدلله أن القاضي كان حكيماً فأعطاه ثمن الرائحة التي متع الفقير بها إحدى حواسه، فأسمعه رنين النقود لتستمتع بها بعض حواسه هو الآخر.
الحقيقة أن المحروم يستمتع بالرائحة أكثر من الإنسان العادي، و لذا تجد الصائم حين يدخل المحلات في شهر رمضان يشم كل تفاصيل الحلوى فيشعر بوخز الهيل و بغمرة ماء الورد و بلذعة القرفة و وهج الزعفران.
حين تكون متعطشاً لشئ ما، فإنك بعد أن يتم توفير جرعات منه، فلا يمكن أن ترى في الحياة شيئاً يستحق الإهتمام سواه، و من هنا يدخل الداخل إلى النفس، و من هنا يجرك لفعل أي شئ لتصل إلى مبتغاك.
في هذه الزاوية، يقول صاحب كتاب “المؤمن الصادق”  : “ليس البؤس الفعلي إذاً هو الذي يدفع إلى الثورة، بل طعم الأشياء الطيبة القادمة، ليس من الممكن أن تقدم ثورة شعبية في روسيا، إلا إذا بدأ الناس يتذوقون طعم الحياة السعيدة، لن يواجه الحزب الشيوعي خطراً إلا عندما تتحسن الأوضاع الإقتصادية لمجموع الناس، و عندما تخف وطأة القبضة الحديدية”, أما عن بائعي الرائحة فيقول نفس الكتاب: “لا شيء يحث أتباع الحركات على التحرك مثل الإعتقاد أن الأمل على وشك التحقق،...، بينما وعد البلاشفة الأوائل بالخبز و الأرض، وعد هتلر أنصاره أن ينهي على الفور العبودية التي فرضتها معاهدة فرساي”.
و الواقع كما حكاه في نفس الباب من أن الحركات بعد وصولها لمواقع القرار ستحتاج لتصنع مخدرها هي الأخرى فتتكلم عن الرؤية و الأهداف بعيدة المدى لتكبح جماح جموعها ثم تدعوهم للتأقلم مع واقعهم، و هكذا تستمر الحلقة المفرغة.
نعم، لا بد للتغيير أن يأتي، و لا بد أن يحصل الباحث عن الكباب عليه لا على رائحته، شرط أن لا يقدم نفسه ثمناً لها و لمن يريد أن يجره إلى نار التنور ليتشمم، لتتوفر له هو مائدة الكباب.

آخر الوحي:
ألا فاسقني خمراً و قل لي هو الخمر
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
و بح باسم من أهوى و دعني من الكنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر
الحسن بن هانئ

الأربعاء، 20 يونيو 2012

مرسي وشفيق







الأربعاء 20 يونيو 2012


حتى كتابة هذا المقال، كان المصريون ينتظرون حسم نتائج التصويت في الدور الثاني من الانتخابات بين مرشح الاخوان المسلمين وبين المرشح الآخر شفيق والمحسوب عند المصريين على النظام السابق. والمصريون قد بلغت بهم الحماسة أوجها ليروا نتيجة أول انتخابات حقيقية كما يرونها منذ عصر الفراعنة. أحدهم كان معرفة صدفة تعرفت اليه في رحلة الى السعودية وكان يؤكد جازماً أنه سيصوت لشفيق في حال كان هو الخيار الوحيد أمام خيار الاخوان.
وما بين مقتل خالد سعيد ذلك الشاب المصري الذي خرجت على اثره مجموعة “كلنا خالد سعيد” الداعية لحركة مصر في 25 يناير وبين الانتخابات الرئاسية التي نترقب نتائج الدور الثاني منها كان المصريون بل العرب كمن يمشي في الظلام على ضوء اعلام سياسي مضلل بكسر اللام ووعي جماهيري مضلل بفتحها.
كانت الجماهير العربية تهتف بحماسة بكلمة الربيع العربي وترفض كلمة الفوضى الخلاقة، وكانت تستجدي وطنية الجيش قبل أن تشتم حكم العسكر، وكانت تنظر للمنظر برومانسية المنتصر قبل أن تستشيط غضباً بمرارة المخدوع.
المصريون وهم عمق العرب الأهم، كانوا يرفضون فرضية أن الجموع الثائرة قد تم استخدامها كأداة للعبة أكبر بكثير. ها قد بدأوا ينظرون بتردد ثم بتشكك وقريباً بقهر شديد الى حقيقة أن الخروج للشارع على نظام راسخ معمر لأكثر من ثلاثين سنة، باطش كما صورته أفلام “هي فوضى” و”احنا بتوع الأوتوبيس” وغيرها من الأفلام، أن الخروج على هذا النظام لمدة أيام لا يخلق واقعاً جديداً.
أحد الأصدقاء عبر عن المشهد بأنه لا لن يختلف كثيراًعن مشهد ما قبل 25 يناير الا أن هناك تبادل مواقع قد يحصل بين النظام السابق وبين معارضة الاخوان المسلمين، وقد لا يحصل.
ها قد تم حل البرلمان، وأسبغت تعزيزات على صلاحيات المجلس العسكري في وقت لا يوجد فيه مجلس شعب ولا يوجد فيه رئيس، وعاد المصريون للتنديد بحكم العسكر.
وحين تظهر نتائج هذه الانتخابات فهل ستحصل تغييرات حقيقية على الأرض، وهل سيختلف وضع المشاركة الشعبية في صناعة القرار عن العهد السابق؟ أم إن تغيير الوجوه سيكون مجرد تغيير شكلي أوقف التوريث بين حسني مبارك وابنه بينما عمقنا العربي المصري يأكل الهواء.
ما أعرفه أن كل الجدد كانوا قد وعدوا في حملاتهم الانتخابية بجنة الله على الأرض التي سيوفرونها للشعب، بينما يراهن أعمدة النظام السابق على قدرتهم لتوفير الأمان والاطمئنان، ويحذرون من الخطر المقبل على يد القادمين الجدد.
ننتظر لنرى ولكن ترى؟ هل سيرضى الفرقاء بالنتائج القادمة؟ لا أعتقد...

الأربعاء، 13 يونيو 2012

وداعاً للديناصورات







الأربعاء 13 يونيو 2012

الديناصورات، تلك المخلوقات هائلة الحجم، عملاقة الجثة، التي نراها في أفلام الخيال العلمي، على افتراض أنها عاشت في عصر من العصور منذ آلاف السنين ثم انقرضت لسبب من الأسباب. هذه المخلوقات صارت مضرب مثل للتعبير عن كل ما هو قديم، عن كل ما هو نادر، عن كل ما هو خرافي. وربما صارت تعبيراً شائعاً للكلام عن الفكر الشيوعي و الأحزاب الذي تحمله، فبنظرة خاطفة ستجد أن حملة هذا الشعار بما هو شعار هم اشخاص كبار في السن يلبسون نظارات طبية سميكة، قد غطى الشيب شعورهم إن لم يأت عليها الصلع. وهذا أمر ظاهر في عموم بلادنا العربية ولا أدري إن كانوا كذلك في غير الدول العربية.
نعم، لم يعد هناك حملة للشعار من جيل الشباب، ولم يعد أحد يواجه المجتمعات التي تتصاعد فيها التيارات السياسية الإسلامية بحقيقة ما يحمله من (لا عقيدة)، حتى باتت العلاقة العدائية الشخصية بين الإسلاميين وحملة الفكر اللاديني فاترة. بل باتت العداوة أو الخلاف الفكري بينهما في حالة هدنة لا تصادم فيها ولا جدال، وكأنما ألقى الطرفان السلاح وأجلا الخلاف إلى حين وضعه على المحك العملي. ربما كان ذلك من باب أن التشاجر لا محل له عندهما إذا كانا جالسين خارج اللعبة في مقهى عتيق يتحول أي جدلٍ فيه إلى ثرثرة. ربما لذلك يتم تأجيل الخلاف وترحيله إلى حين أن يكون هناك مجال للتطبيق العملي فيهتف كل منهما “هذا الميدان يا حميدان”.
الطريف أن هذه الهدنة، جعلت الناس تحمل فكرتين ساذجتين عن واقع الفكر الإلحادي، أولاهما أنه ليس هناك على أرضنا من يجحد بوجود الخالق، أي ليس هنالك مرتد أومنكر لوجود الخالق. أما الفكرة الأخرى فهي تقول أن الملحد لو وجد فلا يهم، لأن كفره أمر يخصه ولا يترتب عليه أي تأثير يمس علاقتي معه وإنما هي علاقته مع ربه يعيشها كيف يشاء.
أقول أن الفكرة الأولى مغرقة في البراءة والسذاجة لأن شيئاً من البحث البسيط في الجوجل واليوتيوب سيجعلك تصطدم بكمٍ كبير من الملحدين من شتى بقاع الوطن العربي، يمكنك من خلال معرفة أسماء الأحزاب التي ينتمون إليها معرفة نظرائهم ونظراء أحزابهم في بلادنا. وبالطبع هذا فضلاً عن قراءة أدبياتهم وآرائهم حول الدين لتكتشف كم يكنون من الكراهية له ويعتبرونه الجهل والخرافة والمخدر.
أما الفكرة الثانية فهي أبسط من سابقتها لأنها تنظر إلى بعد شخصي مادي مباشر في العلاقة بين المتدين والملحد، وهو عدم وجود أي ضرر مادي منه أو من العلاقة معه. ولذلك يقبل منه بأقل من الإمتناع عن الطعن المباشر في الدين بشكل مباشر وسمج، ويكتفي منه بالتشكيك واللمز.
إلا أن ما لا يفهمه البسطاء ويتغافل عنه غير البسطاء هو أن الملحدين يحملون (لاعقيدتهم) هذه كمقدمة لنتيجة أكبر وهي التشريع وجر المجتمع إلى القبول كرهاً بما لا يقبله دينهم تحت عناوين الحريات الشخصية وعناوين أخرى. إذن كل ما يقولونه لا ضرر منه؟ بل ربما كان الأصح والأفضل؟ وبالطبع فإنهم لا يشكلون خطر على العقيدة، لأنهم لا يتكلمون فيها!! وكأن إنساناً ذا عقل يحتاج للكلام فيما عذرته فيه وإحترمته منه وقبلت عدم مواجهته. إذن فالطريق معبد أمامهم ما داموا لا يستفزون (الجماهير) صراحة بمهاجمة الدين. وأقول، من كنت تخالفه يبحث منذ سنوات عن راحة يستطيع فيها ترتيب نفسه والدخول من مداخل أخرى، وقد تحقق له ذلك.
ورغم عدم الحاجة الحقيقية منهم لتعاطي الهجوم المباشر على العقيدة، إلا أنه وكما ذكرت حاصل وموجود، وأذكر أنه متوفر عبر فضاء الإنترنت لمن يريد أن يرى بعينه ويسمع بأذنه. وعوداً على بدء، فإن من صفات الديناصورهو أنه كائن يعد خرافياً لا يصدق أكثرالناس بوجوده.

آخر الوحي:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل***وكل نعيم لا محالة زائل
لبيد بن ربيعة

الأحد، 10 يونيو 2012

الخبر و التحليل









الأحد 10 يونيو 2012

مما كان ينقل عن فترة الحرب العراقية الإيرانية أن من يستمع لإذاعة إيران يقتنع بشدة أن القوات الإيرانية تكاد تقتحم بغداد، ومن يستمع إلى الإذاعة العراقية يعتقد أن صدام اقترب من ضم مجمل أراضي إيران إلى حدود دولته. ربما كان هذا التوصيف لحالة الغموض في الأخبار ينطبق على كثير من أحداث ذلك الزمان بسبب عدم تطور وسائل الإعلام ووسائل الاتصال. ورغم تطور هذه الوسائل اليوم، إلا أن مساحة الغموض الموجودة تكفي بشكل كبير للتلاعب في مجريات الأخبار. فما بين الأباتشي الأميركية التي أسقطها “منقاش” ببندقيته العتيقة وبين الطائرة الأميركية التي صارت بحوزة الإيرانيين، اختلفت الروايات حول سقوط الطيارتين، وربما لا تنكشف الحقيقة إلا عبر إصدارات الوثائق التي تصدرها الاستخبارات بعد عقود حين تفقد قيمتها الاستراتيجية. أو ربما صدرت قبل ذلك عبر ما يسمى بالويكيليكس الذي مازلنا نحمل كثيرا من التساؤلات حوله وحول الجهة التي تقف خلفه.
ويبقى أن مقارنة الأخبار المتضاربة كما تعلمنا من قبل، يمكننا من إثبات حدوث الواقعة ويترك كيفية حدوثها كمساحة رمادية لا يمكن الجزم بها.
اليوم، وسائل نقل الخبر لم تتطور فقط من حيث السرعة، إنما مكنت الإنسان العادي أن يتحول إلى مراسل ينقل الخبر بالصوت والصورة من مكان الحدث في دقائق معدودة. إلا أن هذا الانتشار لتكنولوجيا التواصل، كما سهل نقل الخبر على حقيقته، فإنه سهل أيضاً صناعة الأخبار واختلاق الإشاعات مع إضفاء المصداقية إليها، حتى يظنها الناس حقيقة غير قابلة للنقاش.
ومع مرور الوقت، سيبدأ الناس، كل الناس في معرفة هذه الحقيقة وسيتحرزون أكثر في قراءة الخبر، وسيعلمون أن الصوت والصورة ليسا هما كل الخبر، فهناك ما قبل الواقعة وما بعدها وسياقها ومجرياتها، كل هذا سيتم قراءته مع قراءة الخبر بصورة أدق وأكثر اهتماما.
ستبرز لكل المتابعين القريبين من الحدث والبعيدين فيما بعد أهمية متابعة وسائل الإعلام الأكثر مصداقية، فيما ستفقد تلك المنحازة إلى اتجاه معين الكثير من متابعيها. وحين نفكر في الانحياز فلسنا في وارد أن نقول إن هناك قنوات ووسائل إعلامية مستقلة تماماً أو لا تخدم توجهات معينة، إنما نتكلم عن المنحازة بمعنى أنها تقلب الحقيقة رأساً على عقب بشكل يلغي الثقة في أخبارها حتى من قبل الأشخاص والجهات الذين يحملون نفس التوجه والفكر.
لم يعد مقبولاً في عالم اليوم أن تكون الأخبار قالباً إنشائياً خالياً من المضمون، ووجود هذا النمط وحضوره يدلان على جهل بتطورات وسائل الاتصالات قبل كل شيء، بل يشي بحضور عقلية الإعلام الأرضي الذي كان يبث لجمهور لا يستقبل إلا قناة واحدة أو اثنتين. صار من الضروري أن يوفر كل خبر للمشاهد إضافة عما حدث وعما قيل وعما نوقش، وإلا ساهم بتوجه المشاهد إلى قناة أخرى دون مواربة، لأن المعلومة متوفرة إما على نفس القمر الفضائي أو عبر موقع آخر في الإنترنت.
من مؤشرات تدهور الإعلام عندنا كعرب بشكل عام، الزخم الذي تشهده مواقع التواصل، بحيث يندر أن يكون هناك مواطن لا يملك حساباً على موقع التويتر يعتمد عليه في تزويده بالأخبار والتصريحات من فم قائلها. والدليل الأقوى على ذلك هو حضور المسؤولين والشخصيات والجمعيات بأشخاصهم أو عبر من يمثلهم في هذا العالم الافتراضي.
إذا كان حضور الشخصيات العامة من مسؤولين ومثقفين وعلماء وأحزاب سياسية لتوفير مزيد من الشفافية، وإصلاح أخطاء سابقة، فهي ردة فعل موفقة، وأما إذا كان مجرد مواكبة تبدأ معها من جديد عناوين عامة وشعارات براقة وأخبار غير دقيقة، فكأنك يا بوزيد ما غزيت.

آخر الوحي:
وكنت أحسب أهلي سوف تعصمهم        سفينة الأمس إلا أنهم هجروا
كل يقول جبال الجمع تعصمني            كأنهم من جموع الأمس ما اعتبروا
حسين علي خلف

الأربعاء، 6 يونيو 2012

تحسبهم أغنياء







الأربعاء 6 يونيو 2012

أسمى ما تتمناه أي منشأة تسعى لخدمة المجتمع هو أن تتمكن من إيجاد الفئات المستهدفة من خدماتها دون أن تعرضهم لعناء وذل السؤال. وإذا كان ذلك ممكناً ومتيسراً بسبب توفر إمكانياته، فإن التخلي عنه كهدف هو خطأ لا يمكن التغافل عنه لأنه يكاد يكون تضييعاً لرسالة وهدف المنشأة. تتخلى المنشأة عن كونها باحثاً عن المحتاج، لتقبل لنفسها أن تكون معطياً للسائل.
ماذا تحتاج مؤسسة كصندوق خيري، أو جمعية أهلية غير قاعدة بيانات تشبه تلك التي تملكها المؤسسات التجارية والهيئات الحكومية. هذه القاعدة المتجددة تمكن هذه المؤسسات من إيجاد الفئة المستهدفة والتواصل معها وتزويدها بالخدمة ليتحقق بذلك هدف المؤسسة. ولذلك تنفق شركات التسويق على قاعدة البيانات المبالغ الطائلة وكذلك لأنها توفر ميزة تنافسية تضمن لها التفوق على منافسيها.
وربما صح أن نقول أن أكبر قاعدة بيانات في بلد ما هو ما يتوفر للدولة وهيئاتها ووزاراتها، كما هو الحال بالنسبة للبحرين، التي قطعت أشواطاً متقدمة في مشروع الحكومة الإلكترونية، الذي سهل والحق يقال كثيراً من الخدمات للمواطنين، كسداد الفواتير ودفع الرسوم وتجديد السجلات التجارية ودفع المخالفات المرورية وغيرها الكثير.
وفرت قاعدة البيانات في الحكومة الإلكترونية للدولة ربطاً بين أغلب الوزارات وربما كلها،حتى صار بالإمكان معرفة كل معلومات المواطن من قبل الدولة وصار موضوع فرض أي رسوم على مدخوله أو سكنه أمراً بسيطاً متيسراً. وإني أعرف أحدهم حين يذهب لتجديد بطاقته السكانية قال له الموظف: هل متأكد أنك مقيم في عنوانك، فهناك بحسب نظامنا الآلي حسابا كهرباء في مكانين مختلفين فتحا ثم أغلقا، ألم تغير سكنك، أم أنك فعلت ولم تقم بتحديث عنوانك ؟.
بل استغرب المواطنون حين تم فرض الإستقطاع الإضافي للتأمين ضد التعطل فكان متيسراً للدولة جبايتها بسهولة، وذهبت المبالغ بسهولة إلى حساب الهيئة الحكومية دون الحاجة لأي بيانات محدثة أو خلافه.
ولكن لاحظ المواطنون أن الوزارات لا تستخدم الشيء نفسه لمساعدة المواطن، فرسوم البلدية التي يدفعها المستأجرون من غير البحرينيين بنسبة عشرة في المائة من قيمة عقد الإيجار تستقطع أوتوماتيكياً، رغم أن النظام الذي يعطي مبلغ الإستقطاع قد يحوي أيضاً أن المستأجر بحريني، وأنه ربما لا يملك سكناً آخر، إلا أن الحكومة لا تقوم بتخفيض المبلغ إلى التعرفة المفروضة على المواطن إلا إذا تقدم بطلب إلى وزارة البلديات لتخفيض رسومه البلدية، بل إن التخفيض لا يكون بأثر رجعي.
كذلك بالنسبة لمعونة الغلاء، فالمواطن وكما  رأينا الصورة للرجل المسن منذ أيام يضطر للتقدم ببياناته واثباتاته وتجديد بياناته حتى يأتيه الفرج ويتم صرف العلاوة، ونفس الأمر يحصل بالنسبة لبدل التعطل وغيره وغيره. الإستنتاج الذي ذهب إليه الكثير من المواطنين، هو أن الدولة تعرف حين تريد أن تعرف، وتجهل حين تريد أن تجهل.
لماذا نحتاج للتثبت والتأكد مما يصلح للمواطن، لماذا نجعله يستجدي ما يستحقه، ولماذا لا يتلقى الخدمة التي يستحق دون أن يتقدم لها أو يطلبها؟ أليس هدفنا خدمته؟ ماذا نستفيد من ماء وجهه؟ فلنحفظه له، ولنحفظ المتعففين الذين نحسبهم أغنياء من التعفف. لسنا عاجزين عن ذلك، ولكن هل تتوفر النية والعزم؟؟ أقول كما تيسر الحكومة الإلكترونية على المواطن بلوغ أهدافه، فمن باب أولى أن تسهل للحكومة بلوغ أهدافها بالأدوات المتوفرة التي يجب أن تفي بالغرض. والله من وراء القصد.

آخر الوحي:

فقلت لها لو شئت لم تتعنتي***ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
أبو فراس الحمداني

الأحد، 3 يونيو 2012

بوفادي... تشاك بووم








الأحد 3 يونيو 2012

من مأثورات الفنان الكويتي سعد الفرج مقولة لا تخفى على خليجي أبداً، و هي مقولته “ودي أصدق ، ودي ، بس قوية” . هذه المقولة صارت مثلاً مرسلاً يفوق الأمثال و التعابير الأخرى التي عرفت قبلها و بعدها للتعبير عن عدم التصديق. و الفنان سعد الفرج لمن يتابعه كثيراً ما يتكلم عن الكذب و الكذابين و الإشاعات.
ففي نفس المسرحية، مسرحية “حامي الديار” مثلاً، نجده يدخل المقهى و يطلب مشروبات على حسابه لكل مرتادي القهوة و يبشرهم بالغنى، ثم يبدأ في سرد ما سمعه من أخبار أو بالأحرى إشاعات سمعها من بعض الديوانيات “الواصلة”.
وبدون رحمة، تكون أول إشاعة يطلقها في هذا المشهد، هي الإشاعة التي يتمناها كل إنسان و هي إشاعة إسقاط الديون، و التي باتت من الكلاسيكيات غير القابلة للتصديق، و لكن رغم ذلك، لا يستطيع الإنسان مع أصدائها إلا أن ينتشي بنشوة الحلم الجميل، و يسند رأسه للحائط وهو يتخيل الراتب  يحط بسلام في حسابه البنكي غير منقوص ولا ممسوس، سليماً معافى، لكن حركته في إسناده للحائط تجعله يرتطم بالواقع الصلب، فيستيقظ و يستعيذ من الشيطان الرجيم.
ثم ينثني سعد الفرج مرة أخرى و يطلق الإشاعة الثانية، و هي أن الحكومة تنوي تثمين البلد بكاملها، و ستقوم بشراء أراضي المواطنين، و بسبب التكلفة الهائلة للمشروع، ستضطر الدولة لطباعة أوراق مالية من فئة ألف دينار.
و يمد “بو فادي” كما يسمونه في المسرحية رقبته  ليتكلم عن المشروع الواعد و هو شبكة القطارات و المواصلات العامة التي ستغير وجه البلاد و ستغني الناس عن استخدام السيارات.
هذا النوع من الأحلام التي يعيشها المواطن في كل مكان، و عندنا نحن العرب بالذات، باتت تشبه أحلام الأطفال في الغرب ببابا نويل الذي سيدخل المنزل ليلاً من المدخنة، حاملاً معه الهدايا الجميلة، و يتركها عند شجرة عيد الميلاد. نعم، من المقبول أن نزرع الأمل و الأحلام الجميلة في نفوس الأطفال، ليتفاءلوا بالقادم من أيامهم، و يترقبوا ما ينتظرهم من السعادة مرفرفاً فوق رؤوسهم و مظللاً لهم ليحميهم من حرارة الواقع. و لكن، هل من المعقول، أن نضع نفس الغشاوة على عيوننا نحن بصنع واقع وردي مقبل، بدون أن يترافق معه الأمل الحقيقي المشرق الذي لا يأتي دون عمل متواصل و سعي لصنع ما هو أفضل؟
المتأمل لكثير من عناوين صحفنا يعتقد أن دولنا العربية على أعتاب جنة الخلد، فيما أن كثيراً مما هو مكتوب ليس أكثر من تمنيات لمستقبل لم نعمل بما يكفي لنكفل حضوره في واقعنا. عناوين أخبارنا دائماً تحمل أجمل التوصيفات للواقع الداخلي، و أسوأ الظروف لواقع الغير من الدول و الأمم، بالضبط كما يهتف البائع في السوق الشعبي “ الزين عندنا و الشين حوالينا”. و المؤلم أن هذا الكلام قد استنفذ و استهلك، حتى أن كثيراً منا لم يعد يصدقه.
في النهاية ينهض الفنان خالد النفيسي “بوهاني”، الذي يشارك في المشهد مزايداً على إشاعات بوفادي و مطلقاً إشاعات أقوى منها ،ينبري ليبرر لنفسه و لغيره سبب الإغراق في تعاطي مخدر الكذب و الإشاعات. فبين ظروف المواطن الإقتصادية، و بين الصراع الدائر الذي يقتتل فيه المعارضون داخل المجلس مع الحكومة، يخفت بريق الأمل في صناعة أي حل شيئاً فشيئاً، فلا يجد المواطن وسيلة أفضل من إطلاق الإشاعات و الإرتواء بسرابها حتى يحين الفرج الحقيقي، لأنه بين حانا و مانا، ضاعت لحانا.

آخر الوحي:
 نامي  فـإنْ  لـم    تشبَعِـــي        مِنْ  يَقْظـةٍ  فمِنَ  المنـامِ  
نــامــي علــى   زُبَـدِ  الوعـود        يُدَافُ  في  عَسَل ِ  الكلامِ
نامـي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ        فـي  جُـنْحِ    الظـلامِ
تَتَنَـــوَّري قُـــرْصَ الرغيـــفِ        كَـدَوْرةِ  البدرِ  التمـامِ
محمد مهدي الجواهري