الأربعاء، 27 يونيو 2012

الحيرة بعد الخيرة





الأربعاء 27 يونيو 2012


قيل قديماً وتداول بين الناس القول المأثور إن الخيرة عند الحيرة، وذلك بمعنى أن الاستخارة تكون عندما يقع الإنسان في حيرة من أمره إلا أن عنوان المقال هنا هو العكس. فهو يذكر الحيرة التي تقع بعد الخيرة. وهي رغم أنها غير مأثورة كقول، إلا أنها مشهورة كحالة يقع فيها الإنسان.
فكل شخص ربما مر عليه الموقف الذي يكون فيه يميل نفسياً لاتجاه أو موقف بين اتجاهين ولذا يقرر أن يختار أحدهما عبر الاستخارة، ويتمنى أن تقع الاستخارة على ما يتمناه، والحال أنه لا يحدث، فلا تجري الريح بما اشتهته سفنه. هنا يبحث عن مخرج مما ألزمته به استخارته، فيظل يبحث ويبحث حتى يحصل على أي حل.
والمفترض عقلاً قبل أن يكون شرعاً هو أن يعتمد الإنسان ما أنتجته هذه الاستخارة، ولا يبحث عن حل بديل، إلا أن رهانه بداية كان هو أن تؤيد الاستخارة ما تمناه، فلم يكن في الحسبان أن تخالف مشتهاه، ولكن تمني الشئ وحده لا يجعله يتحقق.
الاستخارة عند اللجوء إليها دون تسليم تام قد لا تعدو كونها رهاناً وربما رهاناً خاسراً. وهناك كثير من الأمور التي نفعلها ونحن نمني أنفسنا الأماني فيما نعلم يقيناً أنها غير مأمونة العواقب. فمثلاً، حين نضع أمام الطفل الحلوى والوجبة على أمل أن يختار الوجبة، فنحن ندري مسبقاً أن الوجبة لن تكون خياره. ومثلاً حين نبقي الباب موارباً آملين ألا تسرق بضائعنا. ومثلاً حين نترك الراحلة بلا قيد آملين ألا تهرب.
والأمثلة أكثر من أن تعد من المراهنة معلومة النتائج. ووجه الشبه بين هذه الأمور أن الإنسان كان الخيار بيده ثم لم يعد بيده بسبب أمل كان يطمح تحققه.
وفيما قرأناه في الفترة السابقة، وجدنا من يتكلمون على الديمقراطية بأشد ما يمكن أن يقال من كلام، ومن أنها أسوأ الحلول التي أنتجتها البشرية لمشكلة آلية اتخاذ القرارات التشريعية والرقابية، ومن أنها تصنع من قول الأغلبية حقاً، ومن قول الأقلية باطلاً. إلا أنهم بعد كل هذا الكلام يطرحون آراؤهم النظرية جانباً، قائلين أن الشارع بما يحمله من وعي عميق، وخلق رفيع، لا يمكن أن تصل به الآلية الباطلة إلى خلاف مبادئه الحقة.
لا أدري إلى أي درجة يصح مثل هذا القول، إلا أننا لو كنا لنراهن على هذا الاتجاه، فإن كل تشريع يفتح الباب أمام أمر محظور أخلاقياً لا يصح أن يخاف منه على المجتمعات التي تحمل القيم والمبادئ ويفترض فيها أن تكون واقية وحامية له من الوقوع في تلك المحظورات. وهنا لا يعود هناك داع للتشريعات أياً كانت، لأن هذه النظرة تفترض أن النفس الإنسانية فاضلة وكاملة وعالمة تمام العلم بكل ما فيه ضرر لتتجنبه وكل ما فيه نفع لتسعى له. وهذا المثال هو مثال عام يجب أن يعمل ليستدعي كل الوقائع التي حصلت، والاحتمالات التي يصح وقوعها ولا يعد مستحيلاً. أو كما قال أحد الأصدقاء الأعزاء، فهذا يفتح باب التساؤلات، وباب التساؤلات هو أفضل واعظ ودافع للبحث عن الحقيقة والتوصل إليها
فيما أرجو أن لا يؤخذ الكلام هنا باعتباره وعظاً، لأن المرء حين يتكلم في الوعظ فقد يكون أحوج ما يكون إليه. إلا أن هناك أشياء تقال بجدية بالغة فقط ليتم تسجيلها، لتقال وتكتب وربما ترمى، ولكن يبقى أنها قيلت. والله من وراء القصد...

آخر الوحي:
كالبَحرِ صَوتـُكَ يا محمودُ يأتـيـني
هـَديـرُ أمواجـِهِ يـَبـري شـَرايـيـني
كالبَحر... أسهَرُ طولَ الـلـَّيل أرقـَبـُهُ
يـَنـأى، فـَيَنشـُرُني دَمعـا ويَطويني
وأنتَ تـُوغِلُ في المَجهول أشرِعـَة
مُحـَمَّـلاتٍ  بـآلافِ الـدَّواويـن
عبدالرزاق عبدالواحد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق