الأحد 24 يونيو 2012
وقف ذلك الفتى الفقير على باب بائع الكباب و وضع رغيفه في مهب الدخان، و أخذ يتمايل مع الرائحة الشهية و يقتنصها بقطعة الرغيف ثم يأكلها. ثم قال لصاحبه أن أفضل شئ في الكباب رائحته لأنها بلا ثمن. و رغم أنه بات طاوي البطن ليلتها إلا من الخبز الحاف كما يقول المصريون، إلا أنه صنع لنفسه قصراً من أضواء الحوانيت، و فراشاً وثيراً من أرصفة الشوارع ووليمة شهية من رائحة الكباب المشوي.
وحقيقة فإن ما قاله الفتى يحمل جانباً من الحقيقة الصوفية، خصوصاً و هو لم يذق طعم الكباب، فلو كان تذوقه لما استطاعت نفسه أن ترضى بالرائحة، لأن اللذات يمسك بعضها بعنق الآخر، فالرائحة تجر المذاق، و المذاق يتمنى المطيبات، فلا بد من بعض السلطات هنا و بعض المقبلات هناك، ثم لا بأس بشئ من المشروبات ليبدل الموالح و الحوامض بالمحليات، و ربما يكون مسك الختام أن يتناول الحلويات ثم يختمها بالقهوة المرة. و بعد أن يكمل هذه الرحلة بين الروائح و المذاقات يأتي وقت النوم على الفراش الوثير. و هكذا دواليك بلا نهاية حقيقية طالما الوفرة غير متنغصة بانقطاع.
نعم، إن الإنسان من الممكن أن يعيش على رائحة الكباب، بل ربما اشتراها أو اضطر لدفع ثمنها إن وجد من يقف على أبواب الشوائين ينشر أرغفة في طريق الرائحة حتى تتشبع بها، ثم يبيعها و يجد من يشتريها فمن الناس من سيعيش الكفاف بالخبز الحاف و منهم من سيسعد نفسه بالتغيير لنكهة مختلفة للخبز أو رائحة مختلفة على الأقل.
لقد حاول أحد العرب أن يفعلها من قبل فأمسك بتلابيب الفقير و أخذه للقاضي يطالبه بدفع ثمن ما شمه من الشواء، و الحمدلله أن القاضي كان حكيماً فأعطاه ثمن الرائحة التي متع الفقير بها إحدى حواسه، فأسمعه رنين النقود لتستمتع بها بعض حواسه هو الآخر.
الحقيقة أن المحروم يستمتع بالرائحة أكثر من الإنسان العادي، و لذا تجد الصائم حين يدخل المحلات في شهر رمضان يشم كل تفاصيل الحلوى فيشعر بوخز الهيل و بغمرة ماء الورد و بلذعة القرفة و وهج الزعفران.
حين تكون متعطشاً لشئ ما، فإنك بعد أن يتم توفير جرعات منه، فلا يمكن أن ترى في الحياة شيئاً يستحق الإهتمام سواه، و من هنا يدخل الداخل إلى النفس، و من هنا يجرك لفعل أي شئ لتصل إلى مبتغاك.
في هذه الزاوية، يقول صاحب كتاب “المؤمن الصادق” : “ليس البؤس الفعلي إذاً هو الذي يدفع إلى الثورة، بل طعم الأشياء الطيبة القادمة، ليس من الممكن أن تقدم ثورة شعبية في روسيا، إلا إذا بدأ الناس يتذوقون طعم الحياة السعيدة، لن يواجه الحزب الشيوعي خطراً إلا عندما تتحسن الأوضاع الإقتصادية لمجموع الناس، و عندما تخف وطأة القبضة الحديدية”, أما عن بائعي الرائحة فيقول نفس الكتاب: “لا شيء يحث أتباع الحركات على التحرك مثل الإعتقاد أن الأمل على وشك التحقق،...، بينما وعد البلاشفة الأوائل بالخبز و الأرض، وعد هتلر أنصاره أن ينهي على الفور العبودية التي فرضتها معاهدة فرساي”.
و الواقع كما حكاه في نفس الباب من أن الحركات بعد وصولها لمواقع القرار ستحتاج لتصنع مخدرها هي الأخرى فتتكلم عن الرؤية و الأهداف بعيدة المدى لتكبح جماح جموعها ثم تدعوهم للتأقلم مع واقعهم، و هكذا تستمر الحلقة المفرغة.
نعم، لا بد للتغيير أن يأتي، و لا بد أن يحصل الباحث عن الكباب عليه لا على رائحته، شرط أن لا يقدم نفسه ثمناً لها و لمن يريد أن يجره إلى نار التنور ليتشمم، لتتوفر له هو مائدة الكباب.
آخر الوحي:
ألا فاسقني خمراً و قل لي هو الخمر
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
و بح باسم من أهوى و دعني من الكنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر
الحسن بن هانئ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق