الأحد، 30 يونيو 2013

أمر على الديار





الأحد 30 يونيو 2013


كان من جميل أشعار العرب في الحب قول الشاعر قيس بن الملوح:
أمر على الديار ديار ليلى
 أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
 ولكن حب من سكن الديارا
ولعمري، فإن الإنسان إذا أحب امرئا أحب كل متعلقاته من بيوت وبنين وأخبار وكل شيء يتصل به أو يذكره به. فهل ترى كان تقبيل قيس للجدار جنونا منه؟ أم كان إظهارا لما لا يخفى من حبه؟ هل اعترض عليه أحد؟ هل استنكر أحد شأنه؟ أم قيل إن قوله قول شاعر لا يقاس عليه والشعراء شأنهم المبالغة؟.
وقال آخر:
أحب الأرض تسكنها سليمى
 وإن كانت توارثها الجدوب
وما دهري بحب تراب أرض
 ولكن من يحل بها حبيب
والغريب أن الإنسان لا يحب الأرض ما لم تكن ذات ماء وخضرة، حتى قيل إن الجمال في ثلاثة، الماء والخضرة والوجه الحسن، إلا أن صاحبنا آثر وجه سليمى فتعشق أرضها الجدباء، لحبه إياها، فهام حبا بتلك الديار القاحلة لا لشيء إلا لأنها تقل على ظهرها سليمى.
وربما كان الأغرب منه تحذيرهم لجميل بن معمر حين رأوا أخا بثينة مقبلا كما يبدو من بيت الشاعر، إلا أن الرجل كان رابط الجأش كما يبدو من رده في أبياته:
وقالوا: يا جميل أتى أخوها
 فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب
وكان الأدعى أن يعتبر جميل هذا الأخ عذولا، رقيبا، شديد الأذى عليه، لتلازم الأخ والأب مع الغيرة، والحمية، كيف لا وهو يتنفس الشعر في حب بثينة صباحا ومساء، إلا أن ما يفيض به قلبه من محبة لم يترك مجالاً لخوف أو بغض تجاه هذا الأخ.
ومما يشابه ذلك من حب المتعلقات من الأهل والأقارب قول الشاعر:
ومن بينات الحب أن كان أهلها
 أحب إلى قلبي وعيني من أهلي
ويبدو أن صاحبنا هذا قد أفاق من حب الأرض الجدباء، فهو قد مالت نفسه إلى أهل من يحب فصاروا عنده أعز من أهله وأحب، ليس أحب لعينه فقط بل أحب لقلبه أيضا.
بل تجاوز غيره ذلك إلى تعلق متعلقات المحبين ببعضها البعض فقال:
وأحبها، وتحبني
 ويحب ناقتها بعيري
ورغم أني قد بدأت السطور بالعجب، فلا أدري إن كان تظافر كل هذه الأبيات في تعشق جدران وديار المحبوب، علامة على كونه معنى فطريا حقيقيا، أم أن له لذة في مبالغة الشاعر فحسب؟ أنا أميل للرأي الأول من فطرية المعنى، ومستعد لتقبيل الجدران والاحتفاظ بكل ما هو “من ريحة” من نحب.

الأربعاء، 26 يونيو 2013

و انطلق الشيطان من عقاله






الأربعاء 26 يونيو 2013

حين كنت جالساً في ذلك المقهى المصري منذ حوالي 13 عاماً، لم أكن أرى أي شيء مما تعيشه الأمة اليوم ولا ما يراه المصريون. لم يكن حدسي ليرى شيئاً من المستقبل القريب ولا البعيد، كنت أرى فقط شاي العم حسن المطيب بالنعناع وأستمتع بأجواء القاهرة القديمة حول مسجد الحسين. كنت أستلطف أي حديث عابر أو صداقة سريعة مع أهل مصر، أهل الطيبة والتسامح وهم من عرفتهم في المدارس طالباً، وفي المستشفيات مريضاً، ولأدبهم وفنهم قارئاً نهماً ومشاهداً شغوفا.
صادف أنه يعمل في هذا المقهى أخوان، أحدهما قادم من سنوات عمل في الخليج، بينما الآخر الذي يدعى أبا الخير قد عاش عمره كله في مصر. وكان هذا الأخير أطيبهما قلباً وأكثرهما تلقائية وبساطة. أخوه كانت نظراته مختلفة، وحين علم ببلدي أخذ يسأل أسئلة لا يسألها المصري ذو القلب الرحب والحس المتسامح، إلا أنني كنت أبادله أطراف الحديث بكل أريحية، وأتيقن مع كل كلام نقوله بأنه لا ينظر إلى إنسانية البشر بل كانت نظرته تدخل في ضمائرهم وأفكارهم وعقائدهم، ربما كان ذلك تأثير الحياة في الغربة وما تورثه للمرء من حذر وطباع وأفكار.
كان بعض الكلام يسترعي انتباه أبي الخير، فينصت، وكنت أنقل بعض أسئلة أخيه إليه، لكن أبا الخير لم يكن متمذهباً كأخيه، فأجاب عن أحد الأسئلة بصدق تام بأنه مسلم. الله يا أبا الخير، كم أود أن أشرب معك الشاي وأنت بهذه الأريحية والطيبة لا تحمل من نفاق مجتمعاتنا اليوم وذوبان إنسانيتها في نظرة ضيقة ما أنزل الله بها من سلطان. فلعلك تدري يا أبا الخير بأنك وسواك من مسلمي هذا الزمان مقبلون على عهد يكاد يكتب فيه مذهب الإنسان على بطاقة تعريفه وربما على ملصقات كتب الأطفال وعلى باب البيت وربما لوحة السيارة.
يا أبا الخير، كان الشيطان يقيم في التفاصيل، إلا أنه انطلق من عقاله، وأخذ يسرح ويمرح، ويدلي بلسانه في وجوهنا جميعاً. لقد بات يخبرنا بكل صراحة وبمباركة منا، أن أي فلتان يحصل في أي بلد من بلادنا سيجعلنا نتسابق إلى دماء بعضنا بعضا لنسفكها، بالضبط كما يتسابق مواطنو البلاد التي لا تؤمن بالله إلى سرقة ما يمكنهم حين ينقطع تيار الكهرباء. هل من المعقول أن بداخلنا وحوشاً تنتظر الانطلاق لتهاجم كل من تستطيع؟؟
هل هذه الوحوش الخبيئة التي تقتل جماعيا وتسفك الدماء جماعيا كما في أفلام مصاصي الدماء والمستذئبين هي نحن؟ هل من يقفون على أعواد المنابر للتحريض على الأموال والدماء والأعراض هم نحن؟ ألهذه الدرجة بلغ بنا الجوع إلى نهش لحوم بعضنا دون أي غضاضة؟ وكيف يمكننا التحول إلى هذا النمط البربري الهمجي إن كانت نفوسنا نظيفة فعلاً؟
إنطلق الشيطان من عقاله وصارت البوصلة تجعل قبلة كل منا تجاه دم أخيه، فهل بالفعل أتت الأديان بهذا النهج والنمط؟ أم إننا جعلنا من ديننا الوسيلة لاستباحة المحظورات، وهل هذه هي السماحة التي جاء بها هذا الدين؟
وها هي مصر التي طالما كانت بلد التسامح والطيبة تتأثر بهكذا أحداث، كان الفضل الأكبر فيها لدعاة التكفير بخطبهم التحريضية على المنابر، وللانفلات الأمني، حتى وصلت إلى مرحلة أن يسفك المصري دم أخيه، ولنحذر ولنتعظ، لأن ما يبدأ في مصر ينتقل إلينا حتما، من خير أو شر، والله من وراء القصد.

آخر الوحي:

لم يعد لي في الهوى لحن سواك
فأنا عود وحيد الوتر
نامت الأعين إلاي هناك
ساهرا أرقب ضوء القمر
فمتى أكحل عيني من لقاك
ما سوى ذكرك أمسى سمري...

الأربعاء، 19 يونيو 2013

و تستمر حرب الوكالة






الأربعاء 19 يونيو 2013


فيما يجلس الإمبراطور الروماني وسط مسرح الكولوسيوم، مرحباً بضيوفه من ملوك وأباطرة قدموا من دول الشرق والغرب، ويتبادل معهم أطراف الحديث الودي، كان الصراع مستعراً في وسط الحلبة بين مصارعيه ومصارعي ضيوفه. مساكين هؤلاء المصارعون، تتسايل دماء أحدهم هنا، وتفقأ عين الآخر هناك، ويكسر ذراع الآخر هنا. ومع صدى كل ضربة حاسمة، يتبادل الإمبراطور وضيوفه نظرات جذلة وضحكات منتشية، وتكشيرات امتعاض. كل هذه الملامح تدل على ما يدور في ذهن كل منهم، يتخيل كل منهم نفسه المصارع الذي يمثله في الحلبة، ويرى نفسه في انتصاره وخسارته، فيتألم معه قليلاً وينتشي بانتصاره ملياً.
إنها المصارعة يا سادة، تذكير للأباطرة بالأيام الخوالي، أيام الصراعات المستعرة والحروب الدامية، فيما هم اليوم يجلسون جلسة الأصدقاء ويقومون باستعراضات القوة عبر مصارعيهم الأشاوس في مسابقة وحشية لا تدوم كثيراً، ولكنها تحفظ لكل منهم بقاءه وجزءا من هيبته. وبعض هذه المنافسات تحمل في طياتها اتفاقاً مسبقاً، رهاناً معقوداً، يعطي للمنتصر امتيازات وحقوق، ويملي على المهزوم واجبات، إلا انها رهانات وحروب محدودة التأثير تحقن الكثير من الدماء، وتبعد ساحة الحرب عن ممالكهم وتحاصرها في حلبة الكولوسيوم.
هذه الحرب لا تقتصر متعتها على الإمبراطور، فعامة الشعب مدعوون للاستمتاع بجولات المصارعة بين هؤلاء الأشاوس المقنعين الموشومين بأوشام تدل على انتماءاتهم. يجلس الروماني في المدرج وهو ينظر بكل فخر إلى بطل مفتول من نفس عنصره وهو يقطع رجلاً آخر من انتماء آخر، ويختتم الجولة بكسر ظهره وإلقائه أرضاً، وهنا يسترحمه المهزوم طالباً منه إنهاء حياته.
الشعبي ينظر دوماً إلى الصراع من منظور الفخر بالعنصر، فوز المجموعة، من وجهة نظر إثنية محدودة البعد أو هكذا يراد له أن ينظر، فيما الرسمي ينظر له من منظور مصالح إستراتيجية قد لا تمت للمنظور الشعبي بصلة، إلا أنه يحافظ على النظرة تلك عند العامة؛ للمحافظة على تماسك جبهته الداخلية، وانشغال العامة بمكاسب معنوية يحسبونها.
هذا الأسلوب لم يتغير منذ عصر الرومان كثيراً، وتحولت مباريات المصارعة الرومانية إلى نمط يستخدمه الكبار في إدارة المشهد عبر ما يسمى الحرب بالوكالة، تنتقل فيه ساحة المعركة والمصارعون إلى بقعة مختلفة لا يهتمون بحصول الدمار فيها ولا ما ينتهي إليه الصراع ولا يكلف خسائر في الأرواح من العناصر (النبيلة).
في تحليل نشرته وكالة رويترز عام 2012، أكدت فيه أنه لا نهاية سعيدة تلوح في تحول الصراع الداخلي إلى “حرب إقليمية بالوكالة” بين طائفتي الإسلام، وينتهي التحليل إلى أنه حتى بعد سقوط الأسد لن تكون هناك قيادة متماسكة تجمع القوى المختلفة ذات الأولويات والولاءات والأحلاف المختلفة.
و أقول إنه من البراءة المفرطة بمكان النظر إلى الصورة كما يراد لها أن تكون بدلا من النظر إلى الصورة الحقيقية خلف مشهد حرب الوكالة المذكور. فنحن وإن كنا لا نختلف على وجود حرب بالوكالة، إلا أن هذه الحرب هل هي فعلاً بين الطوائف الإسلامية، أم أنها بين مجموعات ذات تسمية مختلفة أو قوى سياسية لا علاقة لها بالتقسيم المذهبي؟
نعم، لا شك أن الوضع اليوم يبين دخول قوى دينية / سياسية بكل ثقلها في المعركة، إلا أنها من حيث لا تدري أو من حيث تدري تقوم بالوكالة عن أطراف أكبر منها بكثير. وهذه الأطراف صدقنا أم لم نصدق، تنتهي في هرميتها إلى القوى الكبرى التي كانت تتنافس على حكم العالم أو الأقطاب، والتي كانت تخوض حرباً باردة في النصف الثاني من القرن العشرين. نعم، الصراع اليوم في حقيقته صراع بين الأمريكان والروس، تسيل بسببه دماء المسلمين الرخيصة في منظورهم وتستباح ديارهم وتستهلك مقدراتهم. وفي هذا الصراع يقوم المسلمون من خارج المعركة باستهلاك كل حماسهم وعزيمتهم، ويكتسبون مفاخرهم الظاهرية عبر انتصار من يمثلهم إثنياً أو عقيدياً.
و على أفضل الأحوال، يتحول المسلمان إلى مصارع أميركي وآخر روسي، يهزم أحدهما فيبقى الآخر في حال مستنزفة، وحيداً يحاصره حقد الأخ وعدم اكتراث الصديق، فيؤكل يوم أكل الثور الأبيض.
آخر الوحي:

لو أننا لم ندفن الوحدة في التراب
لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب
لو بقيت في داخل العيون والأهداب
لما استباحت لحمنا الكلاب..
نزار قباني

الأحد، 16 يونيو 2013

إملأ الفراغ





الأحد 16 يونيو 2013

ربما كانت من أجمل الروائح التي تحب أن تداعب خلايا أنفك بالإضافة إلى رائحة القهوة ورائحة الصباح الممطر، رائحة أحبار الطباعة وورق الروايات القديمة، ولا أدري إن كان هذا الانطباع قد ولد عندي من محتوى الروايات نفسها وتعلقي بها في حين من الأحيان، أم بسبب تولعي بالقراءة الذي جعلني أتعشق كل ما يلامس حواسي منها. وجعلني أراوح خطواتي بين القراءة والكتابة ربما من باب ذائقة القارئ وأمنياته، الذي يقول وهو يقرأ لو كان كتب كذا لكان أحسن ولو ترك كذا لكان يستحسن.
ولا أدري أهي نعمة أم نقمة حين يبتليك زمانك بمساحة عليك أن تملأها، أتراه يكرهك على كتابة الجيد والردئ والغث والسمين، أم أنه يجعلك أمام التزام يفرض عليك بث لواعجك للورق بشكل مستمر بحيث لا توفر فكرة إلا وتفكرها بصوت مسموع. أو لعل ذلك الاستمرار يجعلك أمام ما عبر عنه العرب وهم يتكلمون عن الشعر، فقالوا إنه كعين الماء “إن استهتنتها انهتنت وإن تركتها اندفنت”.
ليس عيباً ملء الفراغ في حد ذاته إن كان مسؤولية، وصدق أن سطوري هذه ليست من هذا المنطلق. على أني أحترم من يلتزم بملء الفراغ ما دام ملتزما بأن يكون الفراغ بعد أن امتلأ أكثر نفعاً منه قبل امتلائه. البستاني يملأ الفراغ الكبير بزهور تحيل المكان من مساحة صفراء إلى بقعة يانعة تضج بالجمال، والبناء يملأها ببيت يبث في هذه البقعة الحياة، والآخر يشق طريقاً يقترب بهذه البقعة إلى التواصل، وكل هذا ليس عيباً في ملء الفراغ.
العيب في ملء الفراغ أن تتحول الزاوية التي يكتبها المرء محولة معها هذه الصفحة وربما الصحيفة إلى بقعة قاتمة يفوح منها السباب، فتنقلب الصورة الجميلة إلى أخرى كريهة. حين يتحول الفراغ إلى ذم أشخاص، إلى قدح في فئات، إلى كلام بذيء، فلاشك أنه تحويل للمساحة البيضاء إلى مكب نفايات. تتحول الكتابة إلى فعل استفراغ وبصق في طريق عام. وتصير بالضرورة تلك المساحة بسبب رائحة الكلام المكتوب فيها إلى حاجز نفسي يمنع كل صاحب فطرة سليمة من مواصلة القراءة.
وبدون أية مواربة أقول إنه في الفترة الأخيرة تحولت أجزاء كبيرة من مساحات الكتابة إلى هذا النوع، ولم يعد من قبيل المفاجئ أو العجيب أن نرى لغة تبعث على الغثيان في بعض السطور، ولكنه من المزعج أن ترى مقالاً كاملاً من أول سطوره إلى آخرها يملأ الفراغ بكل ما هو قبيح، فيعطيك تصوراً عن نفسية الكاتب وعن كل من يسمح بهذا الانحدار والسقوط أو يدفع باتجاهه.
حينها تتحول رائحة أحبار الطباعة التي تكلمت عنها إلى عدم لا يشم له عطر، إلا أن ما كتبته تلك الأحبار يحمل رائحة نفاذة، لا يشمها الأنف ولكن تشمها كل نفس تترفع عن الساقط من القول، وكل نفس تبتعد عن صغار الأمور، وتربأ عن الدخول في ما لا يجمل. وتصير قراءة تلك السطور من المستقبح غير المحبب.
إذا كانت هذه هي الصحافة التي يتخيلها الكاتب، وإذا كانت هذه المستويات هي طموح من ينتقي المقالات انتقاء البستاني للزهور، فإن صحافة اليوم لا تغادر في سياق نفسية القارئ وفي سياق مساحة الورق وفي مساحة الفضاء الإلكتروني وفي سياق الوصف الذي يليق بها، صحافة “املأ الفراغ”.

آخر الوحي:
والذي أطمع اللئيم وأغراه
بسب الكرام حلم الكرام
والذي صير الكريم حليما
كره أن يعد صنو الطغام
منع البوم أن يصاد ويرمى
كونه غير صالح للطعام
إيليا أبوماضي

الأربعاء، 12 يونيو 2013

القرد بيتنطط










الأربعاء 12 يونيو 2013

في فيلمه الرائع جري الوحوش، قبل محمود عبدالعزيز أن يبيع جزءا صغيرا من دماغه سماه “الترلب” لشريكه في البطولة نور الشريف بعد أن أقنعهما الطبيب أن هذا الجزء سيساعد الأخير على الإنجاب الذي حرم منه. محمود عبد العزيز الذي ضاق بكثرة العيال وقلة المال وافق بكل سهولة على بيع الترلب حتى ولو تسبب ذلك بمنعه من الإنجاب، رغم تأكيدات الطبيب أنه لن يكون هناك تأثير على أي جانب من جوانب صحته. وقبيل حدوث الإتفاق، قام الطبيب حسين فهمي بعرض حالة تجريبية عليهما، حيث أراهما قردين أجرى لأحدهما عملية النقل وللآخر عملية الزراعة، وكان يكرر للطرفين أنظروا للقرد كيف يقفز بنشاط وكأن شيئاً لم يكن.
حال الطبيب وهو يقنع البطلين بالعملية عبر عرض ما وصلت إليه التجربة المسبقة يذكرنا إلى حد كبير بسباق الربيع العربي، ففيما تسارعت الأحداث بدءا من حريق البوعزيزي وهروب بن علي، إلى مقتل خالد سعيد وسقوط مبارك، إلى هتاف الجرذان ومقتل القذافي، وإلى اليمن واحتراق وجه علي صالح، ثم تصاعد الأحداث السورية، إلى كل الأحداث في الدول التي شهدت أحداثا في العامين الفائتين، فإن كل حراك كان يقيس نجاحه وفشله بما وصل إليه سابقه، ويتابع بشغف وصول الآخر وعدم وصوله إلى ضفة مستقرة.
وفي أعراض تشبه تلك التي رأيناها في دول الربيع العربي، ها نحن نرى الأتراك يخرجون في الميدان وتتم مواجهتهم من قبل قوات الأمن أولا، ثم يقومون بمواصلة المشوار، فيما الحكومة ينفد صبرها وتقف ضد المطالبات التي تنادي باستقالة رئيس الوزراء الذي وصف المتظاهرين بالجبن والتخريب وشتى الأوصاف؛ لوقوفهم ومطالبتهم برحيله.
الوضع التركي مختلف عما رأيناه في دول الربيع العربي، فأردوغان الذي تسارع العرب إلى وصفه بالطيب؛ اشتقاقا من اسمه الأوسط واعتمادا على مواقف معينة تجاه إسرائيل، قد وصل إلى منصبه عبر الانتخابات بخلاف كل زعماء ما قبل ما سمي بالربيع العربي، والذي أؤكد على تسميته بالفوضى الخلاقة، وهو بخلافهم أيضا من قاد بلاده إلى نهضة اقتصادية وسياسية رفعت من اسم تركيا في خريطة العالم، إلا أن الحراك الذي بدأ في ميدان تقسيم يصر على تنحيه من منصبه، وفتح هذا المنصب لانتخابات مبكرة.
ولا شك أن الوضع في تركيا ما قبل الاحتجاجات هو مثال كان يتمنى ثوار الدول الأخرى الوصول إليه، إلا أن الحراك القائم اليوم يقف ضد ما أسفرت عنه صناديق الاقتراع يوما ما، ولا ندري إذا وقف ثوار الدول الأخرى مؤيدين لهذا الحراك إن كانوا يطمحون إلى دول مستقرة عبر آلية محددة للحكم، أم أن نشوة الاحتجاج والإثارة الناجمة من التغيير هي بحد ذاتها هدف.
وفيما صارت نماذج ليبيا وتونس ومصر تطرح تصورا للمرحلة الانتقالية بين عهود موصوفة بالاستبداد وعهد حكم الشعب لنفسه، فإن النموذج التركي يطرح تصورا لما بعد هذه المرحلة، بغض النظر عن حق الأتراك من عدمه في تنحية أردوغان. وهذه النماذج جميعها اليوم تقف أمامنا كمثال حي وتجربة تصور الطريق وتبدي للجميع كل التحديات والعقبات والنتائج التي مرت بها.
ونعود لبطل فيلمنا محمود عبدالعزيز الذي جنى الأموال بعد قيامه بالعملية من جيب الثري نور الشريف الذي لم يستطع الإنجاب حتى بعدها، إلا أن محمود عبدالعزيز بدأ يشعر بصداع مستمر لا يمكنه من الجلوس مستقرا، ويحس أن رأسه ستنفجر، فيفهم سر قفز القرد المتواصل قبلها، فيهتف في وجه الطبيب مرارا وتكرارا ليريه ما حل بسابقه في التجربة قائلا “عايز أشوف القرد، بيتنطط ولا بطل تنطيط”.

آخر الوحي:
فيالك أمةً قُسمت ثلاثاً
وعشريناً وتسألُ هل مزيدُ؟
تُعد لكل واحدةٍ طبولٌ
وحراسٌ وترتفعُ البنودُ
وعند الهندِ ربعُ الكون عدَّاً
وفي شطرين تنقسمُ الهنودُ

محمد مهدي الجواهري

الأحد، 9 يونيو 2013

إشكال البوعزيزي








الأحد 9 يونيو 2013

منذ ما يزيد على العامين حرق الرجل نفسه، بعد أن أهينت كرامته وسد باب رزقه وقامت موظفة حكومية من نظام بن علي بصفعه على وجهه. وحين لم يبق أمامه شيء سوى اليأس والشعور بالمهانة والذل، اختار لنفسه الموت على ما تعرض له ويتعرض، فكانت قطرات البنزين التي صبها على نفسه وكانت النار التي أضرمها، لكنها لم تكن في جسده البائس فحسب، بل أشعل النار في عدد من الدول العربية لم ينطفئ لظاها إلى اليوم، بل ربما كان ما نراه في تركيا اليوم أو ما سنراه في سواها غدا جزء من نفس المسلسل الذي بدأه البوعزيزي.
ومن الطبيعي والمنطقي أن يتجه العالم أجمع للكلام عن الأسباب التي تدفع بالمواطن لليأس وإحراق نفسه بدلاً من أن يعلقوا على فعله ذاته، ربما لأنه ضحية، وربما بفعل النشوة بالتوابع التي حصلت بعد الفعل وكم الإثارة، وربما لأن الحركة المقدسة في أي بلد لم يتقبل المعجبون بها أن تكون شرارتها فعلا غير مقدس.
ونقاش هذا التصرف اليوم لا يستهدف إرجاع الرجل، ولا منع الحالات التي من الممكن أن تسعى لتقليده في ثقافة باتت تنتشر في الشرق العربي فوق ما كانت منتشرة في الشرق الهندي، فالإنسان الذي يصل إلى هذه الحالة من اليأس لا يمكن استهدافه بوعظ أو نصح، ولكن الموضوع يظل موضوع ثقافة يجب مراجعتها لئلا تأخذنا في عجالتها شرقا أو غربا. ومراجعتها على شقين ربما يوصلنا إلى المطلب، الأول منهما، هو حول وسائل الاحتجاج، ففي سؤال إلى أحد المشايخ حول فعل البوعزيزي، قال إن الرجل لا يبعد أن يكون مثابا رغم أنه قتل نفسه، لأن الظلم الكبير كان يحتاج احتجاجاً بليغاً. والكلام هنا على قتل نفس أو انتحار بالمفهوم الشرعي الذي يفترض أن ينطلق منه ذلك الشيخ في جوابه، إلا أنه فضل كما يبدو أن ينتشي بتوابع الفعل عن النظر إلى أصل الفعل. فهناك ثمة سؤال يطرح نفسه، أنه إذا كان إهلاك النفس ممكن أن يثاب عليه المرء بوصفه احتجاجاً على الظلم، فإن ما دون ذلك من الأفعال التي هي دون الانتحار تكون باباً للثواب بالعنوان الثانوي الذي تفضل به هذا الشيخ، فهناك من لا يقتلون أنفسهم ويحتجون بالتعري مثلاً، فهل سيتجمد ضمير الشيخ ليقبل بهلاك النفس ولن يقبل بالتعري؟. وهناك الكثير من وسائل الاحتجاج التي هي دون قتل النفس، فهل بالعنوان الذي ينطلق منه الشيخ أن أي أذى للنفس أو للآخرين دون مستوى إهلاك النفس يصير فعلا يثاب عليه المرء؟ هي ثقافة تنتشر بإمضاء البعض، ولكن هي ليست الأخطر في الموضوع.
النقطة الأخطر التي ندخل لها عند مراجعة أية ظاهرة دخيلة هي نقطة ثقافة الغاية تبرر الوسيلة، التي لا تنفك أن تخرج لنا من كل ملف وكل قضية، فبعيدا عن الوسائل البديلة التي ستكون بشكل أوتوماتيكي جائزة ومقبولة وربما محبذة، فإن التركيبة الذهنية في النظر إلى مثل هذه القضية بفعل التبرير لها، تعزز عند المجتمع ككل، ناشئة وشبانا وشيبانا، مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. وهو مبدأ ذاتي التدمير لكل شيء، هو قمة الوصولية، غاية البراغماتية، لا يبقي شيئاً من مبدأ غير قابل للكسر، ولا قانون غير قابل للتجاوز، والحال أن ما تعيشه مجتمعاتنا من الفوضى بحد ذاته كاف، فكيف إذا وجدنا الأذهان تتحول بهذه التركيبة، فعندها يصير تجاوز كل إنسان مبررا، وخطأ كل شخص مقبولاً، سواء قتل نفسه أو قتل غيره، والتدليل على هذا لا يستغرق أكثر من مطالعة تغريدات بعض البحرينيين لتجد التباين الواضح تجاه أوضح الواضحات، والله من وراء القصد.

آخر الوحي:
وإذا سمعت حكاية عن عاشق
عرضا حسبتني الفتى المقصودا
مستيقظ ويظن أني نائم
يا هند، قد صار الذهول جمودا
ولقد يكون لي السلو عن الهوى
لكنما خلق المحب ودودا
إيليا أبوماضي

الأحد، 2 يونيو 2013

لصوص التقسيط



الأحد 2 يونيو 2013



لا يخفى على أحد أن اللصوص يتفاوتون في أساليبهم وطرقهم وفي مدى إجرامهم وفي جرأتهم ووقاحتهم. واللصوص اليوم لا يبدون كما نتخيلهم من خلال مجلة ميكي ماوس يلبسون ثياب السجن المخططة ويغطون أعينهم بعصابات مثقوبة، وإنما كثيرا ما يرتدون الثياب الأنيقة ويركبون السيارات الفارهة، وينفقون ضمن شعار أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب وشعار “كل يا كمي”. وبينما لا تعدو هذه الملابس كونها جزءا من عدة العمل، فإن لهجتهم الواثقة وكلامهم المنمق يعد الجزء الأكبر من هذه العدة التي تخفي وراءها القناع والثياب المخططة والضمير المتعفن. وفي غالب الأحيان، ما عاد اللص اليوم يدخل إليك خلسة أو حاملا على عاتقه سلاحا يهددك به، إنما تجده عبر إعلاناته المغرية وعروضه الآسرة يجرك إلى الدخول في شركه جراً والاستسلام لكل طلباته.
وبعيداً عن التاجر الشريف الذي يقوم بالعروض التي يربح منها الطرفان عبر تخفيض السعر أو تأجيل الدفع أو زيادة المميزات، فإن هناك لصوصاً يقومون بعروض تتبعها التزامات لا تنتهي إلا بعد مص دماء الضحية وجعله أسيرا بسبب تصديقه لمحتال لا يملك اسم الضمير ولا يحمل معه ذرة من الإحساس.
الموضوع قديم حديث يتعلق ببعض المحلات التي توفر بعض السلع والخدمات عبر عروض التقسيط المريح ويستفيد منها أصحاب المداخيل المحدودة. ورغم أن العرض المبدئي في حد ذاته إجحاف بحق المشتري حين يقبل أن يشتري هاتفا أو جهاز كمبيوتر لا تتجاوز قيمته المئتين أو الثلاثمئة بقرابة ضعف الثمن فقط بسبب تقسيط قيمته لمدة عامين أو ثلاثة أعوام، فإن ما ينتظر هذا الزبون من التاجر الجشع هو أكبر بكثير مما يتوقعه. فبعد أن يوقع عقوداً لتقسيط القيمة، لا يلاحظ أن هذه العقود المبرمة تحمل في طياتها شروطاً تحمل غرامات جزائية في حال التأخير في السداد لأي قسط، وتكون هذه الغرامات من الثقل بحيث تتحول القيمة المدفوعة للجهاز إلى عشرة أضعاف قيمته الحقيقية.
ورغم أن شركات الاتصالات اليوم قد أراحتنا من شر هؤلاء حين صارت تقدم عروضا لتقسيط أجهزة الاتصالات وأجهزة الكمبيوتر، إلا أنهم اقتحموا مجالات أخرى وربما نجدهم في الغد في مجال المفروشات أو السياحة والسفر أو أي مجال يستغلون فيه أمنية بسيطة لإنسان عادي، فيقع في شباكهم غير عارف بما ينتظره من الويلات التي تبدأ بالمنع من السفر وقد تنتهي بدخوله السجن رغم الغبن الواقع عليه، وكل ذلك بسبب أن ذلك المحتال أحكم صياغة شروط عقده من الناحية القانونية وأغفل الناحية الإنسانية والأخلاقية.
وبالرغم من أن هذه القضايا قد مرت عليها عدة سنوات إلا أنه أثارت الشجن نحوها بعض الحالات التي رأيتها والتي لا تزال تراوح في مخالب بعض هؤلاء الأشقياء، ومن هنا أردت التنبيه لمصاصي الدماء الذين لم يكفهم الربح الجيد المتوفر عبر تجارتهم ليتجاوزوه إلى اقتطاع قطع من لحم زبائنهم يأكلونها بلا أدنى شفقة ولا رحمة.
رسالة أولى أوجهها في هذا الصدد إلى قسم حماية المستهلك بوزارة التجارة وأناشدهم فيها اتخاذ كل الإجراءات القانونية الممكنة تجاه هذه الحالات التي أجزم أنها لا تخفى عليهم، وإن خفيت فإن ضغطة زر في محرك جوجل ستجعلهم يتصفحون معاناة الكثيرين مع أسماء معينة من المحلات.
الرسالة الثانية أوجهها إلى البنوك وشركات التمويل طالبا منهم توسعة مجالات عملهم لتطال الاحتياجات المتناهية الصغر عبر التعاون مع مختلف الشركات وألا يقصروا قروض الشراء على العقارات والمركبات، وتوسعة مجال تعاملهم مع الأفراد وتسهيل اشتراطاتهم في المبالغ الصغيرة ليسدوا الباب أمام هؤلاء المحتالين.
الرسالة الثالثة موجهة إلى صاحبة الجلالة، السلطة الرابعة، صحافتنا، لتسليط الضوء عبر التحقيقات والملفات على ضحايا هذا النوع من السرقة والابتزاز مما سيسهم مؤكداّ وبشكل فعال في تنبيه الناس والسلطات المختصة إلى ما يتعرض له المواطن فيتخذوا احتياطاتهم وتجنب وقوع مثل هذه المديونيات التي لا فكاك منها كما في حكاية تاجر البندقية، والله من وراء القصد.

آخر الوحي:
يدك التي حطت على كتفي
كحمامة..نزلت لكي تشرب
عندي تساوي ألف مملكة
ياليتها تبقى ولا تذهب
تلك السبيكة كيف ارفضها؟
من يرفض السكنى على كوكب

نزار قباني