الأربعاء 26 يونيو 2013
حين كنت جالساً في ذلك المقهى المصري منذ حوالي 13 عاماً، لم أكن أرى أي شيء مما تعيشه الأمة اليوم ولا ما يراه المصريون. لم يكن حدسي ليرى شيئاً من المستقبل القريب ولا البعيد، كنت أرى فقط شاي العم حسن المطيب بالنعناع وأستمتع بأجواء القاهرة القديمة حول مسجد الحسين. كنت أستلطف أي حديث عابر أو صداقة سريعة مع أهل مصر، أهل الطيبة والتسامح وهم من عرفتهم في المدارس طالباً، وفي المستشفيات مريضاً، ولأدبهم وفنهم قارئاً نهماً ومشاهداً شغوفا.
صادف أنه يعمل في هذا المقهى أخوان، أحدهما قادم من سنوات عمل في الخليج، بينما الآخر الذي يدعى أبا الخير قد عاش عمره كله في مصر. وكان هذا الأخير أطيبهما قلباً وأكثرهما تلقائية وبساطة. أخوه كانت نظراته مختلفة، وحين علم ببلدي أخذ يسأل أسئلة لا يسألها المصري ذو القلب الرحب والحس المتسامح، إلا أنني كنت أبادله أطراف الحديث بكل أريحية، وأتيقن مع كل كلام نقوله بأنه لا ينظر إلى إنسانية البشر بل كانت نظرته تدخل في ضمائرهم وأفكارهم وعقائدهم، ربما كان ذلك تأثير الحياة في الغربة وما تورثه للمرء من حذر وطباع وأفكار.
كان بعض الكلام يسترعي انتباه أبي الخير، فينصت، وكنت أنقل بعض أسئلة أخيه إليه، لكن أبا الخير لم يكن متمذهباً كأخيه، فأجاب عن أحد الأسئلة بصدق تام بأنه مسلم. الله يا أبا الخير، كم أود أن أشرب معك الشاي وأنت بهذه الأريحية والطيبة لا تحمل من نفاق مجتمعاتنا اليوم وذوبان إنسانيتها في نظرة ضيقة ما أنزل الله بها من سلطان. فلعلك تدري يا أبا الخير بأنك وسواك من مسلمي هذا الزمان مقبلون على عهد يكاد يكتب فيه مذهب الإنسان على بطاقة تعريفه وربما على ملصقات كتب الأطفال وعلى باب البيت وربما لوحة السيارة.
يا أبا الخير، كان الشيطان يقيم في التفاصيل، إلا أنه انطلق من عقاله، وأخذ يسرح ويمرح، ويدلي بلسانه في وجوهنا جميعاً. لقد بات يخبرنا بكل صراحة وبمباركة منا، أن أي فلتان يحصل في أي بلد من بلادنا سيجعلنا نتسابق إلى دماء بعضنا بعضا لنسفكها، بالضبط كما يتسابق مواطنو البلاد التي لا تؤمن بالله إلى سرقة ما يمكنهم حين ينقطع تيار الكهرباء. هل من المعقول أن بداخلنا وحوشاً تنتظر الانطلاق لتهاجم كل من تستطيع؟؟
هل هذه الوحوش الخبيئة التي تقتل جماعيا وتسفك الدماء جماعيا كما في أفلام مصاصي الدماء والمستذئبين هي نحن؟ هل من يقفون على أعواد المنابر للتحريض على الأموال والدماء والأعراض هم نحن؟ ألهذه الدرجة بلغ بنا الجوع إلى نهش لحوم بعضنا دون أي غضاضة؟ وكيف يمكننا التحول إلى هذا النمط البربري الهمجي إن كانت نفوسنا نظيفة فعلاً؟
إنطلق الشيطان من عقاله وصارت البوصلة تجعل قبلة كل منا تجاه دم أخيه، فهل بالفعل أتت الأديان بهذا النهج والنمط؟ أم إننا جعلنا من ديننا الوسيلة لاستباحة المحظورات، وهل هذه هي السماحة التي جاء بها هذا الدين؟
وها هي مصر التي طالما كانت بلد التسامح والطيبة تتأثر بهكذا أحداث، كان الفضل الأكبر فيها لدعاة التكفير بخطبهم التحريضية على المنابر، وللانفلات الأمني، حتى وصلت إلى مرحلة أن يسفك المصري دم أخيه، ولنحذر ولنتعظ، لأن ما يبدأ في مصر ينتقل إلينا حتما، من خير أو شر، والله من وراء القصد.
آخر الوحي:
لم يعد لي في الهوى لحن سواك
فأنا عود وحيد الوتر
نامت الأعين إلاي هناك
ساهرا أرقب ضوء القمر
فمتى أكحل عيني من لقاك
ما سوى ذكرك أمسى سمري...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق