الأحد 9 يونيو 2013
منذ ما يزيد على العامين حرق الرجل نفسه، بعد أن أهينت كرامته وسد باب رزقه وقامت موظفة حكومية من نظام بن علي بصفعه على وجهه. وحين لم يبق أمامه شيء سوى اليأس والشعور بالمهانة والذل، اختار لنفسه الموت على ما تعرض له ويتعرض، فكانت قطرات البنزين التي صبها على نفسه وكانت النار التي أضرمها، لكنها لم تكن في جسده البائس فحسب، بل أشعل النار في عدد من الدول العربية لم ينطفئ لظاها إلى اليوم، بل ربما كان ما نراه في تركيا اليوم أو ما سنراه في سواها غدا جزء من نفس المسلسل الذي بدأه البوعزيزي.
ومن الطبيعي والمنطقي أن يتجه العالم أجمع للكلام عن الأسباب التي تدفع بالمواطن لليأس وإحراق نفسه بدلاً من أن يعلقوا على فعله ذاته، ربما لأنه ضحية، وربما بفعل النشوة بالتوابع التي حصلت بعد الفعل وكم الإثارة، وربما لأن الحركة المقدسة في أي بلد لم يتقبل المعجبون بها أن تكون شرارتها فعلا غير مقدس.
ونقاش هذا التصرف اليوم لا يستهدف إرجاع الرجل، ولا منع الحالات التي من الممكن أن تسعى لتقليده في ثقافة باتت تنتشر في الشرق العربي فوق ما كانت منتشرة في الشرق الهندي، فالإنسان الذي يصل إلى هذه الحالة من اليأس لا يمكن استهدافه بوعظ أو نصح، ولكن الموضوع يظل موضوع ثقافة يجب مراجعتها لئلا تأخذنا في عجالتها شرقا أو غربا. ومراجعتها على شقين ربما يوصلنا إلى المطلب، الأول منهما، هو حول وسائل الاحتجاج، ففي سؤال إلى أحد المشايخ حول فعل البوعزيزي، قال إن الرجل لا يبعد أن يكون مثابا رغم أنه قتل نفسه، لأن الظلم الكبير كان يحتاج احتجاجاً بليغاً. والكلام هنا على قتل نفس أو انتحار بالمفهوم الشرعي الذي يفترض أن ينطلق منه ذلك الشيخ في جوابه، إلا أنه فضل كما يبدو أن ينتشي بتوابع الفعل عن النظر إلى أصل الفعل. فهناك ثمة سؤال يطرح نفسه، أنه إذا كان إهلاك النفس ممكن أن يثاب عليه المرء بوصفه احتجاجاً على الظلم، فإن ما دون ذلك من الأفعال التي هي دون الانتحار تكون باباً للثواب بالعنوان الثانوي الذي تفضل به هذا الشيخ، فهناك من لا يقتلون أنفسهم ويحتجون بالتعري مثلاً، فهل سيتجمد ضمير الشيخ ليقبل بهلاك النفس ولن يقبل بالتعري؟. وهناك الكثير من وسائل الاحتجاج التي هي دون قتل النفس، فهل بالعنوان الذي ينطلق منه الشيخ أن أي أذى للنفس أو للآخرين دون مستوى إهلاك النفس يصير فعلا يثاب عليه المرء؟ هي ثقافة تنتشر بإمضاء البعض، ولكن هي ليست الأخطر في الموضوع.
النقطة الأخطر التي ندخل لها عند مراجعة أية ظاهرة دخيلة هي نقطة ثقافة الغاية تبرر الوسيلة، التي لا تنفك أن تخرج لنا من كل ملف وكل قضية، فبعيدا عن الوسائل البديلة التي ستكون بشكل أوتوماتيكي جائزة ومقبولة وربما محبذة، فإن التركيبة الذهنية في النظر إلى مثل هذه القضية بفعل التبرير لها، تعزز عند المجتمع ككل، ناشئة وشبانا وشيبانا، مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. وهو مبدأ ذاتي التدمير لكل شيء، هو قمة الوصولية، غاية البراغماتية، لا يبقي شيئاً من مبدأ غير قابل للكسر، ولا قانون غير قابل للتجاوز، والحال أن ما تعيشه مجتمعاتنا من الفوضى بحد ذاته كاف، فكيف إذا وجدنا الأذهان تتحول بهذه التركيبة، فعندها يصير تجاوز كل إنسان مبررا، وخطأ كل شخص مقبولاً، سواء قتل نفسه أو قتل غيره، والتدليل على هذا لا يستغرق أكثر من مطالعة تغريدات بعض البحرينيين لتجد التباين الواضح تجاه أوضح الواضحات، والله من وراء القصد.
آخر الوحي:
وإذا سمعت حكاية عن عاشق
عرضا حسبتني الفتى المقصودا
مستيقظ ويظن أني نائم
يا هند، قد صار الذهول جمودا
ولقد يكون لي السلو عن الهوى
لكنما خلق المحب ودودا
إيليا أبوماضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق