الأحد، 16 يونيو 2013

إملأ الفراغ





الأحد 16 يونيو 2013

ربما كانت من أجمل الروائح التي تحب أن تداعب خلايا أنفك بالإضافة إلى رائحة القهوة ورائحة الصباح الممطر، رائحة أحبار الطباعة وورق الروايات القديمة، ولا أدري إن كان هذا الانطباع قد ولد عندي من محتوى الروايات نفسها وتعلقي بها في حين من الأحيان، أم بسبب تولعي بالقراءة الذي جعلني أتعشق كل ما يلامس حواسي منها. وجعلني أراوح خطواتي بين القراءة والكتابة ربما من باب ذائقة القارئ وأمنياته، الذي يقول وهو يقرأ لو كان كتب كذا لكان أحسن ولو ترك كذا لكان يستحسن.
ولا أدري أهي نعمة أم نقمة حين يبتليك زمانك بمساحة عليك أن تملأها، أتراه يكرهك على كتابة الجيد والردئ والغث والسمين، أم أنه يجعلك أمام التزام يفرض عليك بث لواعجك للورق بشكل مستمر بحيث لا توفر فكرة إلا وتفكرها بصوت مسموع. أو لعل ذلك الاستمرار يجعلك أمام ما عبر عنه العرب وهم يتكلمون عن الشعر، فقالوا إنه كعين الماء “إن استهتنتها انهتنت وإن تركتها اندفنت”.
ليس عيباً ملء الفراغ في حد ذاته إن كان مسؤولية، وصدق أن سطوري هذه ليست من هذا المنطلق. على أني أحترم من يلتزم بملء الفراغ ما دام ملتزما بأن يكون الفراغ بعد أن امتلأ أكثر نفعاً منه قبل امتلائه. البستاني يملأ الفراغ الكبير بزهور تحيل المكان من مساحة صفراء إلى بقعة يانعة تضج بالجمال، والبناء يملأها ببيت يبث في هذه البقعة الحياة، والآخر يشق طريقاً يقترب بهذه البقعة إلى التواصل، وكل هذا ليس عيباً في ملء الفراغ.
العيب في ملء الفراغ أن تتحول الزاوية التي يكتبها المرء محولة معها هذه الصفحة وربما الصحيفة إلى بقعة قاتمة يفوح منها السباب، فتنقلب الصورة الجميلة إلى أخرى كريهة. حين يتحول الفراغ إلى ذم أشخاص، إلى قدح في فئات، إلى كلام بذيء، فلاشك أنه تحويل للمساحة البيضاء إلى مكب نفايات. تتحول الكتابة إلى فعل استفراغ وبصق في طريق عام. وتصير بالضرورة تلك المساحة بسبب رائحة الكلام المكتوب فيها إلى حاجز نفسي يمنع كل صاحب فطرة سليمة من مواصلة القراءة.
وبدون أية مواربة أقول إنه في الفترة الأخيرة تحولت أجزاء كبيرة من مساحات الكتابة إلى هذا النوع، ولم يعد من قبيل المفاجئ أو العجيب أن نرى لغة تبعث على الغثيان في بعض السطور، ولكنه من المزعج أن ترى مقالاً كاملاً من أول سطوره إلى آخرها يملأ الفراغ بكل ما هو قبيح، فيعطيك تصوراً عن نفسية الكاتب وعن كل من يسمح بهذا الانحدار والسقوط أو يدفع باتجاهه.
حينها تتحول رائحة أحبار الطباعة التي تكلمت عنها إلى عدم لا يشم له عطر، إلا أن ما كتبته تلك الأحبار يحمل رائحة نفاذة، لا يشمها الأنف ولكن تشمها كل نفس تترفع عن الساقط من القول، وكل نفس تبتعد عن صغار الأمور، وتربأ عن الدخول في ما لا يجمل. وتصير قراءة تلك السطور من المستقبح غير المحبب.
إذا كانت هذه هي الصحافة التي يتخيلها الكاتب، وإذا كانت هذه المستويات هي طموح من ينتقي المقالات انتقاء البستاني للزهور، فإن صحافة اليوم لا تغادر في سياق نفسية القارئ وفي سياق مساحة الورق وفي مساحة الفضاء الإلكتروني وفي سياق الوصف الذي يليق بها، صحافة “املأ الفراغ”.

آخر الوحي:
والذي أطمع اللئيم وأغراه
بسب الكرام حلم الكرام
والذي صير الكريم حليما
كره أن يعد صنو الطغام
منع البوم أن يصاد ويرمى
كونه غير صالح للطعام
إيليا أبوماضي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق