الأربعاء 19 يونيو 2013
فيما يجلس الإمبراطور الروماني وسط مسرح الكولوسيوم، مرحباً بضيوفه من ملوك وأباطرة قدموا من دول الشرق والغرب، ويتبادل معهم أطراف الحديث الودي، كان الصراع مستعراً في وسط الحلبة بين مصارعيه ومصارعي ضيوفه. مساكين هؤلاء المصارعون، تتسايل دماء أحدهم هنا، وتفقأ عين الآخر هناك، ويكسر ذراع الآخر هنا. ومع صدى كل ضربة حاسمة، يتبادل الإمبراطور وضيوفه نظرات جذلة وضحكات منتشية، وتكشيرات امتعاض. كل هذه الملامح تدل على ما يدور في ذهن كل منهم، يتخيل كل منهم نفسه المصارع الذي يمثله في الحلبة، ويرى نفسه في انتصاره وخسارته، فيتألم معه قليلاً وينتشي بانتصاره ملياً.
إنها المصارعة يا سادة، تذكير للأباطرة بالأيام الخوالي، أيام الصراعات المستعرة والحروب الدامية، فيما هم اليوم يجلسون جلسة الأصدقاء ويقومون باستعراضات القوة عبر مصارعيهم الأشاوس في مسابقة وحشية لا تدوم كثيراً، ولكنها تحفظ لكل منهم بقاءه وجزءا من هيبته. وبعض هذه المنافسات تحمل في طياتها اتفاقاً مسبقاً، رهاناً معقوداً، يعطي للمنتصر امتيازات وحقوق، ويملي على المهزوم واجبات، إلا انها رهانات وحروب محدودة التأثير تحقن الكثير من الدماء، وتبعد ساحة الحرب عن ممالكهم وتحاصرها في حلبة الكولوسيوم.
هذه الحرب لا تقتصر متعتها على الإمبراطور، فعامة الشعب مدعوون للاستمتاع بجولات المصارعة بين هؤلاء الأشاوس المقنعين الموشومين بأوشام تدل على انتماءاتهم. يجلس الروماني في المدرج وهو ينظر بكل فخر إلى بطل مفتول من نفس عنصره وهو يقطع رجلاً آخر من انتماء آخر، ويختتم الجولة بكسر ظهره وإلقائه أرضاً، وهنا يسترحمه المهزوم طالباً منه إنهاء حياته.
الشعبي ينظر دوماً إلى الصراع من منظور الفخر بالعنصر، فوز المجموعة، من وجهة نظر إثنية محدودة البعد أو هكذا يراد له أن ينظر، فيما الرسمي ينظر له من منظور مصالح إستراتيجية قد لا تمت للمنظور الشعبي بصلة، إلا أنه يحافظ على النظرة تلك عند العامة؛ للمحافظة على تماسك جبهته الداخلية، وانشغال العامة بمكاسب معنوية يحسبونها.
هذا الأسلوب لم يتغير منذ عصر الرومان كثيراً، وتحولت مباريات المصارعة الرومانية إلى نمط يستخدمه الكبار في إدارة المشهد عبر ما يسمى الحرب بالوكالة، تنتقل فيه ساحة المعركة والمصارعون إلى بقعة مختلفة لا يهتمون بحصول الدمار فيها ولا ما ينتهي إليه الصراع ولا يكلف خسائر في الأرواح من العناصر (النبيلة).
في تحليل نشرته وكالة رويترز عام 2012، أكدت فيه أنه لا نهاية سعيدة تلوح في تحول الصراع الداخلي إلى “حرب إقليمية بالوكالة” بين طائفتي الإسلام، وينتهي التحليل إلى أنه حتى بعد سقوط الأسد لن تكون هناك قيادة متماسكة تجمع القوى المختلفة ذات الأولويات والولاءات والأحلاف المختلفة.
و أقول إنه من البراءة المفرطة بمكان النظر إلى الصورة كما يراد لها أن تكون بدلا من النظر إلى الصورة الحقيقية خلف مشهد حرب الوكالة المذكور. فنحن وإن كنا لا نختلف على وجود حرب بالوكالة، إلا أن هذه الحرب هل هي فعلاً بين الطوائف الإسلامية، أم أنها بين مجموعات ذات تسمية مختلفة أو قوى سياسية لا علاقة لها بالتقسيم المذهبي؟
نعم، لا شك أن الوضع اليوم يبين دخول قوى دينية / سياسية بكل ثقلها في المعركة، إلا أنها من حيث لا تدري أو من حيث تدري تقوم بالوكالة عن أطراف أكبر منها بكثير. وهذه الأطراف صدقنا أم لم نصدق، تنتهي في هرميتها إلى القوى الكبرى التي كانت تتنافس على حكم العالم أو الأقطاب، والتي كانت تخوض حرباً باردة في النصف الثاني من القرن العشرين. نعم، الصراع اليوم في حقيقته صراع بين الأمريكان والروس، تسيل بسببه دماء المسلمين الرخيصة في منظورهم وتستباح ديارهم وتستهلك مقدراتهم. وفي هذا الصراع يقوم المسلمون من خارج المعركة باستهلاك كل حماسهم وعزيمتهم، ويكتسبون مفاخرهم الظاهرية عبر انتصار من يمثلهم إثنياً أو عقيدياً.
و على أفضل الأحوال، يتحول المسلمان إلى مصارع أميركي وآخر روسي، يهزم أحدهما فيبقى الآخر في حال مستنزفة، وحيداً يحاصره حقد الأخ وعدم اكتراث الصديق، فيؤكل يوم أكل الثور الأبيض.
آخر الوحي:
لو أننا لم ندفن الوحدة في التراب
لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب
لو بقيت في داخل العيون والأهداب
لما استباحت لحمنا الكلاب..
نزار قباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق