الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

حفلة الأقلام













بمناسبة قدوم المدارس، يتوجه الناس هذه الأيام مع أبنائهم وبناتهم لشراء اللوازم المدرسية، من دفاتر ومساطر وأقلام لتلبية احتياجات العام الدراسي المقبل. ينظر الأب لقائمة الاحتياجات التي أعدها سلفاً، ابنته قد طلبت منه أنواعا متعددة من الاقلام بمواصفات دقيقة. الابنة تريد أقلاماً جافة بكل الألوان. وحين سألها عن السبب كانت الإجابة أن الأحمر تستخدمه في العناوين الرئيسة للمواضيع، فيما تستخدم الأسود للعناوين الفرعية، وتستخدم الأزرق لكتابة ملخصات المواضيع. ويبقى الأخضر لتكتب المراجع ورقم الصفحة ورقم الرسم التوضيحي المتعلق بعبارة ما.
تعجب الأب من هذه الطريقة، فلقد درج مدرسوه من قبل على احتكار اللون الأحمر فيما يذكر، فاللون الأحمر مختص بالمدرس للتصحيح والتعليق وإعطاء الدرجة.
يبدو أن الزمان تغير، وصار المتاح لطلاب المعرفة من آفاق وأدوات أكثر مما كان متاحاً لنظرائهم في الزمن السابق. في السابق كان (الطالب) الأب يعد واجباته وأبحاثه من مراجع المكتبة العامة، وطبعاً ينتظر دوره لأن الكتاب الذي يحتاجه قد اصطف لانتظاره كل المجتهدين من نفس السنة الدراسية حول البحرين. اليوم ابنته ترجع إلى جوجل وتكون انتقائية في المراجع التي تختارها من آلاف الخيارات المتوافرة، ولعلها حين تجد الأفضل في نظرها تطرحه للمشاركة مع الباقيات في الفيس بوك بلا صفوف انتظار ولا مذاكرة عبر الهاتف.
واستغرب الأب من أن القائمة التي أخذها معه لم يكن من ضمنها إلا عدد محدود من أقلام الرصاص. وتساءل مع ابنته وقت إعداد القائمة عن السبب، فأجابته أنها تستخدم قلم الرصاص للرسم أحياناً لا أكثر. عجيب هذا الجيل، صار الطالب جازماً وحازماً في كل شيء، فبالأمس كان هذا الاب لا يستغني عن الثلاثي المرح (الرصاص والممحاة والمبراة)، كان يكتب أكثر الأشياء بقلم الرصاص في مسودة قبل تبييضها فيما بعد، فقد كانت الكتابة فيما مضى مسؤولية، وكان لكل كلمة تكتب أهميتها وقدسيتها.
ويبتعد بفكره عن رف الأقلام، ليغوص في افكار أخرى حول أقلام الصحافة اليوم، وما تطرحه من فكر، وأسلوب وأخلاق صحافية، ليس في ألوانها فقط تعددت أنواع الأقلام، وليس في حزمها فقط تغير نمط استخدام الأقلام، لقد صار بإمكان القارئ بسبب التنوع الكبير أن يفرز الأقلام في هذه المحافل الصحافية الكثيرة، إلى أقلام رصينة، وأقلام سعيدة وأخرى راقصة.
أن تكتب بقلم رصين، فصعب أن تستقطب قرّاءً، فالناس تبحث عن الجديد، وإن كان كل ما تطرحه من الهموم قديماً، فما الداعي لقراءتك. صحيح أن القلم الرصين كثيراً ما يكون قلماً حراً، يؤثر في الساحة أكثر مما يتأثر، يحمل أجندة نابعة من البحث عن الحقيقة، من النظر إلى ما قيل أكثر من النظر إلى من قال، من البحث عن موارد الخطأ لتصويبها، وموارد الصواب لتعزيزها، لكن قدر هذه الأقلام أن تجلس على هامش الحفل، وتتحدث جانبياً إن كان في الحضور من يملك مزاج الاستماع وحس التقدير وقابلية مواجهة القناعات.
في طرفٍ آخرَ من الحفل يتجمع حشد من الأقلام الراقصة، يمسك كل قلمٍ جيداً بكف صاحبه الذي يملكه، ويرقصون جميعاً على الإيقاع العام، هؤلاء لا يرقصون دوماً، لكن اللحن يحدد إن كانوا يتمكنون من ذلك، أو أن يتنحوا جانباً، فلكل لحن راقصوه، ولكل راقص استراحته لاستجماع الحماس حتى صدور لحن جديد. ويبقى أن هناك من الراقصين، من لا يسأم ويحاول مجاراة جميع الألحان حتى وإن لم يكن أمهر الأقلام، إلا أن الأهم ألا يغادر الساحة ولو لثوانٍ معدودة.
أما أولئك السعداء فهم بين استراحة المحارب، وبين حماس المتابع، حتى ينضموا مؤقتاً إلى أحد طرفي الحفل، يستمعون قليلاً لقلم رصين، أو يدخلون لهنيهة ساحة الراقصين.
عن نفسه، كان الأب غير مستمتع بهذه المحافل، فرغم ما تطرحه من إثارة ونمط جديد لم يعتد عليه القارئ، إلا أنها تنقل دور الصحافة من ساحة للنقد والتغيير إلى ساحة للانتقاد والتفريق أو المجاراة والتزويق. الصحافي يجب أن يتمكن من تغيير واقعنا، من مخاطبة النفوس فرادى، فالتفكير الجمعي مؤطر بالجماعة والحزب الذي يحجب أطر العقل والمنطق والصواب. القلم الرصين يبقى حراً، لا يستعبد، وبعيداً فلا يستبعد.
وهنا أخذ الأب قلم رصاص إضافيا ومبراة وممحاة، لأن من حسنات قلم الرصاص على رغم مساوئه، أنه كلما اضطررت أن تبريه، سيخرج بخط قد يختلف عما توقعته، وستتمكن من أن تمحو عثراته إذا ما أخطأ، إن قلم الرصاص يعترف أن كل البشر خطاؤون ويعترف أن كل خطأ يمكن إصلاحه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق