الأحد، 20 فبراير 2011

الرقص مع الذئاب










الأحد 20 فبراير 2011

من منا لم يشاهد رائعة كيفن كوستنر في الإخراج والتمثيل مطلع التسعينات من القرن الفائت التي نال بها عدداً من جوائز الأوسكار. نال هذا الفيلم إعجابي لدى مشاهدته في حينه لما يحمله من حس إنساني راق ومتميز. وربما لا يكون هذا الحس غريباً على الرجل، فقد قدم فيما بعد فيلماً يحمل الحس ذاته، وهو فيلم رجل البريد.
في فيلمه الأول، كان الدور المنوط بالرجل كملازم في الجيش هو الالتحاق بحامية للبيض على مشارف ديار إحدى قبائل الهنود الحمر. وهؤلاء بالطبع كانوا يعتبرون حينها أعداء للأمة الأمريكية ذات الدم الأزرق. وعند وصوله لموقعه، وجد أن البيض قد تخلوا عن الحصن وفروا خوفاً من الهنود. وهنا بدأ بتكوين علاقات مباشرة مع الهنود الذين أخذوا يتقبلونه شيئاً فشيئاً.
ضمن أحداث الفيلم تتكون علاقة حميمة بين البطل وبين ذئب يعيش في الأنحاء نفسها، وبطبع الهنود أطلقوا عليه لقب “الراقص مع الذئاب” كونهم يلقبون كل شخص بسمته المميزة عندهم.
علاقة الرجل والذئب في الفيلم كانت تحمل رمزية رائعة لانعدام الثقة الموجودة بين البيض والسكان الأصليين في أميركا. كان كل من الطرفين – البيض والهنود - يعتبر الآخر ذئباً كونه لا يثق فيه، وقديماً قيل “الناس أعداء ما جهلوا”.
بل إن العلاقة المذكورة نفسها في الفيلم والاستعارة غير غريبة على أدبيات العرب، إذ يقول الشاعر العربي الفرزدق:
وأطلس عسّالٍ وما كان صاحباً
 دعوت بِنَـاري مـَوْهِنـاً فأتـانـي
فلمـا دَنَا قلـت ادْنُ دونك إنّـنـي
وإِيَّـاكَ فـي زادي لَـمُشْتَرِكـَــانِ
فبت أُسَـوَّي الـزاد بيـنـي وبينه
علـى ضـوء نـار مـرة ودخـان
فقلـت لـه لمـا تَكـَشَّــر ضاحكـاً
 وقائـمُ سَيْفِــي مـن يـدي بمكـان
تَعَـشَّ فإن واثقتـني لا تخونـني
 نكن مِثْلَ من يا ذئبُ يصطحبان
   هذه المقاربة أكثر ما تكون حاضرة في عالم السياسة، وبالذات في السياسة الدولية بين دول الإقليم الواحد. هذه الدول تعيش دوماً أزمات الثقة فيما بينها وبين الآخرين لدرجة أنها تحتاج عرابا من الخارج يتبنى العلاقة ويكون وصياً عليها، ومن ثم يضمن ألا يجور أحدها على الآخر. وأتصور أنه لو أمكن نزع أجواء عدم الثقة بكلمة الشرف بين هذه الدول ووفق ضمانات بينية لأمكن الاستغناء عن وجود أي وساطات خارجية.
لقد احتاج أطراف النزاع جنوب السودان عراباً من الخارج، واحتاجت قضية صحراء المغرب عرابين من الخارج، واحتاجت قضية جزر حوار عرابين من الخارج، بل ومحكمة دولية، والقضايا في محيطنا العربي تفوق العد والحصر.
ولعل الثقة إذا انتزعت أصعب في العودة من زرع الثقة ابتداء، مثل قضية الطير (فنزة) في حكايات كليلة ودمنة، أو حكاية القرد والغيلم (السلحفاة). إذ يروى أن قرداً وغيلماً اصطحبا وائتلفا حتى ثقل ذلك على زوجة الغيلم فاحتالت لتقطع ألفتهما. فتمارضت وادعت لزوجها أن دواءها قلب قرد يحضر لها لتأكله. فحار الغيلم ثم احتال، وطلب من صاحبه أن يحضر معه إلى جزيرته ليكرمه، فلما انتصف بهما الطريق، أخبر صاحبه بمرض زوجته ودوائها. وحينها تأوه القرد وقال لصاحبه الغيلم: ليتك أخبرتني قبل أن نمضي في طريقنا، فنحن معاشر القردة لا نحمل قلوبنا معنا، بل نتركها في بيوتنا في الأشجار، فعد بي إلى شجرتي حتى آتيك به. فلما وصلا إلى الشجرة، قفز القرد مودعاً وقال لصاحبه هيهات أن أعود وقد بدا لي ما تنويه من هلاكي.
يبقى أن كيفن كوستنر في الفيلم، رغم أنه كفرد استطاع تجاوز أزمة الثقة مع الهنود، واستطاع تفهم حقيقة سلوكهم وتفكيرهم ومخاوفهم، إلا أنه لم يتمكن من كسر الجليد بين قومه الأصليين (البيض) وقومه الجدد (الهنود). وهل يتمكن صوت العقل والحكمة أن يتجاوز المطامع والمخاوف إلا بشق الأنفس؟ لعل هذا سبب لكون صوت الحكمة والعقل رقصاً مع الذئاب، إذا أمنت عواقبه، فإن جدواه تبقى محدودة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق