٨ يونيو ٢٠١١
العذول لغة هو اللائم أو هو صيغة مبالغة للعاذل فيعني بها كثير اللوم. أما ما درج العرب على اصطلاحه فهو اللائم في الحب، وهو الذي يدخل بين محبين فيلوم أحدهما على وجده وولعه بالآخر، ولا يختلف إن كان الملوم حاضراً أو مذكوراً في غيابه ليكون المتكلم عاذلاً. ولأهمية العذول ولشهرته فقد حضر في أدب العرب وفي أشعارهم بقدر ما ذكر الحب والمحبون في الأدب العربي.
والشواهد في هذا المجال أكثر من أن تحصى ولكن لا بأس بتناول بعضها للتدليل على هذا الفرض.
وفرق ابن حزم الأندلسي في رسالته “طوق الحمامة في الألفة والإيلاف” بين الرقيب والعاذل والواشي فجعل لكل منهم باباً منفرداً.
فأما العاذل – كما يقول - أقسام أحدها صديق سقطت الكلفة بين المحب وبينه فهذا نعمة من النعم وزاجر للنفس ومقوٍ لها. وآخر زاجر شديد لا يكف عن الملامة فذلك خطب شديد وبلاء ثقيل. وقد يبلغ الحب بالمحب أن يرى العذل أحلى الملذات ليخالف عاذله ويكيده ويستلذ بعصيانه ومغالبته. وفي هذا المعنى يقول ابن حزم:
أحب شيء إلي اللوم والعذل كي أسمع اسم الذي ذكراه لي أمل.
ويقول أبونواس في عشقه للمدام:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لومسها حجر مسته سراء
وعن الرقيب فيقول “وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتحن بالعشق قديماً ودهي به وطالت مدته فيه ثم عري عنه بعد إحكامه لمعانيه فكان راغباً في صيانة من رقب عليه. فتبارك الله أي رقيب يأتي منه وأي بلاء مصبوب يحل على أهل الهوى من جهته”.
وثالث من ذكرنا وشرهم هو الواشي وهو عندي من أنواع العواذل أيضاً بل هو أشدهم على المحب وطأة، يقول ابن حزم، ان الواشي على ضربين أحدهما يريد القطع بين المتحابين فقط وإن هذا لأفترهما سوأة على أنه السم الزعاف والصاب الممقر والحتف القاصد والبلاء الوارد. أما الثاني فهو واش يسعى للقطع بين المحبين لينفرد بالمحبوب ويستأثر به وهذا أشد شيء واقطعه واجزم لاجتهاد الواشي واستماتة جهده. ومن الوشاة جنس ثالث يسعى بهما جميعاً ويكشف سرهما فهذا لا يلتفت إليه.
وأما في طرق الوشاة فيقول ابن حزم ان منهم من يذكر للمحبوب أن محبه غير كاتم للسر وهذا مكان صعب المعاناة بطيء البرء. أو ربما ذكر الواشي للمحبوب أن ما يظهره المحب من المحبة هو زيف وخداع وأن مبتغاه من ذلك شفاء نفسه وبلوغ وطره، وهذا أهون أثراً من سابقه وإن كان شديداً في النقل على نفس المحبوب.
ولعل الواشي إن كان قاصداً للاستئثار بالمحبوب يصدق عليه لقب الغريم، وفي التاريخ قصص كثيرة للكيد بين الغرماء وتحايل بعضهم لهلاك البعض الآخر والاختصاص برضا المحبوب.
وما بين هذا وذاك فإن المحبوب قد يكون معشوقة أو سلطاناً أو فكرة ومعتقداً. نعم قد يكون عقيدة، فمن من العقلاء لا يدعي أنه يمتلك الحق والحقيقة وأن من سواه على ضلال مبين، وكأن ألوان الدنيا كلها قد انحصرت في الأبيض والأسود، وكأن ما وافق هواه هو الحق المطلق. ولعل قول الشاعر في بعض المقامات هو أصدق ما يصف هذا الجانب:
وكلُ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم وصالا
وأرى أن اختلاف الناس في آرائهم لا يستدعي التقاطع والتدابر والنميمة والبهتان، فحتى المحب الصادق لا ينبغي أن يدفعه حبه لمحبوبه أن يسعى بالظلم والبهتان والكيد والانتقام لغريمه. يقول ابن حزم في ذم الواشي “وما في جميع الناس شر من الوشاة وهم النمامون وإن النميمة لطبع يدل على نتن الأصل ورداءة الفرع وفساد الطبع وخبث النشأة ولا بد لصاحبه من الكذب”.
ولحديث المحبين صلة، مع طوق الحمامة وغيره، وحتى ذلك أسأل الله أن يحفظ لكم كل من تحبون.
آخر الوحي:
يقول المتنبي في محبوب له:
عَذْلُ العَواذِلِ حَوْلَ قَلبي التّائِهِ
وَهَوَى الأحِبّةِ مِنْهُ في سَوْدائِهِ
يَشْكُوالمَلامُ إلى اللّوائِمِ حَرَّهُ
وَيَصُدُّ حينَ يَلُمْنَ عَنْ بُرَحائِهِ
وبمُهْجَتي يا عَاذِلي المَلِكُ الذي
أسخَطتُ أعذَلَ مِنكَ في إرْضائِهِ
إنْ كانَ قَدْ مَلَكَ القُلُوبَ فإنّهُ
مَلَكَ الزّمَانَ بأرْضِهِ وَسَمائِهِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق