الأحد، 19 يونيو 2011

حصار الشعب






١٩ يونيو ٢٠١١


بكسر الشين وتسكين الباء يكون نحواً من طريق بين جبلين، وفي هذا يقول المثل “أهل مكة أدرى بشعابها”. وربما لو مررت في مكة لرأيت شعاباً كثيرة بسبب الطبيعة الجبلية للمنطقة. بل وستجد أن لكل شعب اسماً يعرفه أهل مكة به منذ غابر السنين. فمنها شعب عثمان الذي يعرف اليوم بحي الروضة، وشعب عمرو، وشعب بني عامر (يسمى بشعب عامر اليوم)، وشعب أبي دب، وشعب الصيفي، وشعب آل قنفذ، وشعب الأخنس، والكثير الكثير غيرها مما يعرفه أهل مكة.
ومن الشعاب المشهورة شعب أبي طالب، والذي يعرف اليوم بشعب علي، ولهذا الشعب قصة معروفة في تاريخ الإسلام، حيث حاصر أهل مكة بني هاشم وبني عبدالمطلب في هذا الشعب وتعاهدوا ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يكلموهم حتى يسلموهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليقتلوه أو يتخلى عن دعوته وكتبوا بذلك صحيفة علقت في جوف الكعبة.
حوصر بنو هاشم وأخذ يضيق الخناق عليهم حتى قطع عنهم المال والطعام وجعل أهل مكة لا يتركون طعاماً يدخل مكة إلا واشتروه، والتجأ الهاشميون للجلود وأوراق الشجر يأكلونها كما يروى من شدة ما نزل بهم.
بقي الحال بهذا السوء أعواماً ثلاثة عجافاً، ثم بدأ يدب الخلاف في أهل مكة حوله، ويقال إن زهير بن أبي أمية أخذته الغيرة والحمية، فهتف “يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة”. فقال أبو جهل “كذبت، والله لا تشق”، فقال زمعة بن الأسود “أنت والله أكذب، مارضينا كتابتها حيث كتبت”. ودارت سجالات حتى أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرضة قد أكلت الصحيفة إلا باسمك اللهم. ويروى أن أبا طالب رضي الله عنه قال: “إن صدق ابن أخي ترجعون عن قطيعتنا وظلمنا، وإن كذب خلينا بينكم وبيننا”. قيل، فوجدت كما قيل، فارتفع الحصار وعادت الدعوة الإسلامية كما كانت.
إن التقاطع والتدابر لا يمكن أن يستمر لا وعظاً وإنما كضرورة اجتماعية، لذا كان لكل حصار نهاية، ولكل مقاطعة أمد تنتهي بعده. ولا تستمر حتى بمقدار ما تستمر العداوة. هذا والمقاطعة في الشعب كانت بين قوم من ملتين مختلفتين، فكيف إذا كانوا جميعاً على ملة واحدة.
في الأيام الفائتة رأينا الكثير من الكتاب الحزبيين بالمعنى الاجتماعي وبالمعنى السياسي يذكون نار التقاطع والتدابر دون أي حياء، ودون أي مجاملة ودون أن ينفعهم تذكير مذكر أو وعظ واعظ.
أحد الكتاب الوطنيين بلا حياء يدعو لمقاطعة محلات السيارات والمجوهرات والعطورات والأطعمة، على أساس طائفي مهما حاول تلبيسه بلبوس سياسي أو وطني. وليس هو الوحيد في صحيفته والصحف الأخرى. وهذا بالذات لا أستغرب منه أي شيء وهو الذي يسمى سنوات الإصلاح السنوات العشر السوداء، ويسمي السياسة الإصلاحية السياسات التي أضاعت الوطن وكل شيء، ثم يدعي الوقوف خلف راية القيادة بلا حياء ولا استرجاع.
ولو اقتصر الأمر عليه لهان علينا ذلك، ولكن أن نسمع دعوات المقاطعة في الإذاعة والتلفزيون الرسمي، فذلك مما يدمي القلب. ذلك أن القيادة ما فتئت تدعو للتهدئة والحوار ونبذ التصعيد والعنف، فيما يتساهل المذيعون مع المتصلين الطائفيين الذين يذكون الخلاف ويشقون الصفوف ويزيدون التهاب اللحمة الوطنية بدلاً من مداواتها.
أما الكتاب الحزبيون، فقد بدأوا يعملون على تفريق المجتمع والبيت الواحد إلى جماعات وأحزاب، ويلوحون لنا بإعادة حصارات ومقاطعات التسعينات التي قسمت البيت الواحد. يأتون بهذه الدعوات في سياق من المصادرة للرأي الآخر، وكأن الاجتهاد السياسي حق لهم ولأحزابهم ولعل باقي المجتمع أن يكون تابعاً لهم وإمعة.
يريدونك كما قال المدني رحمه الله “لعبة على خشبة مسرحهم”، وإلا فأنت الخائن والعميل والمنشق والمرتزق وغير ذلك من ألفاظ البذاءة السياسية. إما أن تدخل في المشروع الحزبي أو تكون المتسلق والمتمصلح من آلام الآخرين وويلاتهم. وليت شعري لقد “رمتني بداءها وانسلت”. ألا يستحي من يعلم أن كرام قومه حالهم كحال عنترة الذي قال:
ينـادونني في السلــم يا ابــن زبيبــة          وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب
ولولا الهوى مـاذل مثلي لمثلهـــم         ولا خضعت أسد الفلا للثعالب
سيذكرني قومي إذا الخيل أصبحت         تجول بها الفرسان بين المضارب
 أقول صادقاً إن هذه الدعوات دعوات المقاطعة أيا كان مصدرها واتجاهها، فهي دعوات لا تقل خبثاً عن دعوات المشركين في حصار شعب أبي طالب. ذلك أن التفريق بين المسلمين أنفسهم وإخوانهم أشد وطأة وأنكى أثراً من مقاطعة من يخالفك في الدين. كما أن هذه الدعوات لن تغير موقف أحد ممن رأى الحق فيما يعتقده وما يضمره من رأي وعقيدة وسلوك.
آخر الوحي:
ومن الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج
كانوا يعدون الجنازة.. وانتخاب المقصلة
أنا أحمد العربي فليأت الحصار
جسدي هو الأسوار، فليأت الحصار
وأنا حدود النار، فليأت الحصار.. وأنا أحاصركم.. أحاصركم
وصدري باب كل الناس فليأتي الحصار
“محمود درويش”

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق