٢٩ يونيو ٢٠١١
حين قمت بشراء جهاز الآيفون منذ أشهر، سألني أحد الأصدقاء إن كنت قد قمت بعمل “الجلبريك”، فقلت له ليس بعد. قال لي إن هاتفك من دون جلبريك لا يساوي قيمته التي اشتريته بها. فلما سألته عن الجلبريك، قال إن هذا البرنامج يخولك تركيب تطبيقات وبرامج مجانية كثيرة. قلت له إن الجهاز يوفر منفذاً لمثل هذه العملية، هو المنفذ الرسمي “متجر التطبيقات”، قال لي صحيح إن الكثير من البرامج المجانية متوفرة، ولكن هناك الآلاف غيرها التي لن تجدها هنا، سواء بسبب كونها برامج من صنع هواة أو بسبب تكلفتها التي ستضطر لدفعها في هذه الحالة.
قال: جهازك الذي يرتبط بشركته الأم عبر المنفذ “الأصلي” لا يمكنه التواصل مع أي منتج برامج غير معتمد من الشركة الأم. إن جهازك معلق بأمه الشركة كما يتعلق الجنين عبر حبله السري بأمه، فيأخذ منها كل احتياجاته. حين تقوم بعمل الجلبريك، فإنك تطلق له العنان ليأخذ التطبيقات التي يشاء من حيث يشاء، ولا يعود أسيراً لشركة “التفاحة المعضوضة”.
فكرت، إنها ميزة رائعة، في إطلاق العنان وفتح الأفق أمام المزيد والمزيد من الأفكار الجديدة والتطبيقات المفيدة التي لن تتوقف، بل وقد تتوفر بالمجان. ثم هالني تفكير آخر، كم من البشر يسبح في عالم الأفكار بعوامة عقول الآخرين عبر أفكار معلبة جاهزة ويستغني ربما بإرادته عن التفكر والبحث والتساؤل؟ ما أكثر الناس الذين يحتاجون أن تطبق عليهم وعلى عقولهم عملية الجلبريك؛ لإنقاذهم من هذا الأسر الاختياري الذي يقعون فيه.
يا ترى كم من الناس يضيف لأبواب الجنة المباشرة طرقاً ودهاليز طويلة لا توصلهم إلى الحق والحقيقة، ولكن توصلهم إلى، حيث يراد لهم الوصول؟
لكن هل بالفعل هو أسر اختياري؟ وهل كل إنسان له القدرة على مراجعة ذاته وفلسفته في الحياة لينطلق نحو آفاق السعادة المنشودة والتي يجدها بين ذراعي العلم والحرية؟ لا أدعي أن لي أنا الشجاعة بعد لمواجهة كل آفات نفسي ونزعات عقلي وقيود ضلالي، لكن أليس جهاد النفس هو الجهاد الأكبر؟ فهل نتوقع هذا الجهاد معركة سهلة أو قصيرة؟
ثم، إن لم أبدأ في التفكير دون اعتماد على أحد، فهل سأنتظر أحداً أن يحاسب على نتيجة أعمالي ويدفع الفاتورة عما تقترفه يدي وترتكبه جوارحي؟ هيهات، فإن كان متوقعاً لعقوبة الناس الوقوع في الظلم والعقاب الجماعي، فإن عقوبة الضمير تستهدفك فرداً حتى تخنق كل إحساس لديك بأي قيمة لنفسك. ستجد نفسك حقيراً وضئيلاً لدرجة أنك تلوم نفسك على ما فعلته بأمر غيرك، ثم لا تجد هذا الأمر واتباعه عذراً منقذاً من عذاب الضمير.
الغريب أن الأديان قد حضت على ترك العبودية للبشر وعدم عبادة الأحبار والرهبان، وعدم الانسياق الأعمى وراء موروث الآباء وعدم جعل الحياة لعباً ولهواً، وذمت الكثرة ونهت عن الاغترار بها، وأكدت أن الحق نور وشعاع لا تخفيه الأكف ولا المناخل. حتى تاه رجل فصاح به علي عليه السلام “إنك ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله”.
وحين تتوصل لرأي وتقتنع به، فلا تخش من اختلاف رأيك عن الآخرين، فلست ملزماً بآراء الناس، وحذار أن تقول إنك واحد من الناس إن أصابوا أصبت وإن أخطأوا أخطأت. بل إن تفكيرك وظهور آراء مختلفة لك هو دليل وجودك كما قال ديكارت “أنا أفكر إذن أنا موجود”.
أعط الجلبريك فرصة ليخرجك من قائمة من المسلمات الموروثة، والتي استفاد من وجودها السياسي والتاجر والواعظ والرئيس وربما الحانوتي. كل هؤلاء ربما كان موتك فرجاً لهم، عذابك مصدر لرزقهم، مشاحناتك باب لوجاهاتهم، فهؤلاء يا عزيزي هم الجالسون على الطرف الآخر من الشبكة، بينما تتصل أنت وآلاف غيرك بالجهاز نفسه والبرنامج نفسه، والمعادلة الخاسرة نفسها.
اعلم أن من حقك أن تستمع لكل الآراء، ولا يخدعنك كاذب يقول بخلاف الآية “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب”. ولا يغرنك من يصنف البشر ويقول: دع عنك هذا، فإنما الناس إما أخوك في الدين الذي يستحق منك النصيحة أو نظيرك في الخلق الذي يستحق منك الرأفة.
يبقى أن إجراء عملية الجلبريك تتطلب أن العمل الجاد لصناعة برنامج يفكك شفرات الشركة الأم المسيطرة على أدمغة الأجهزة، وإذا لم يحصل هذا الإعداد، فإن توعية المستخدمين باستخدام الجلبريك دون توفره بعد ستجعلهم تحت رحمة الشركة وعلى قوائم الانتظار.
آخر الوحي:
ليس في وُسْعِكِ، يا سيِّدتي، أَن تُصْلِحيني ..
فلقد فاتَ القِطَارْ ..
إنَّني قرَّرتُ أن أدخُلَ في حربٍ مع القُبْح،
ولا رَجْعَةَ عن هذا القَرَارْ.
فإذا لم أستطعْ إيقافَ جيش الرُومِ،
أَوْ زَحْفِ التتارْ.
وإذا لم أَستطعْ أن أَقتلَ الوَحْشَ .. فحسبي
أَنَّني أَحْدَثْتُ ثُقْباً في الجدارْ ...
“نزار قباني”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق