الأحد، 30 أكتوبر 2011

مع الحجيج











٣٠ أكتوبر ٢٠١١


في موسم الحج تتجه أنظار العالم و عدسات التصوير و قلوب الموحدين صوب أطهر البقاع، نحو الحجاز بحرميه الشريفين، و مشاعره المقدسة. و بينما نشاهد خروج الحجيج من عرفات إلى المشعر الحرام في مزدلفة للمبيت ليلة العاشر من ذي الحجة، تتحرك في نفوسنا مشاعر مختلطة بمعان مختلفة.
فأول ما يخالجني و أنا أنظر لهذا المنظر كلمة يا ليتنا كنا معكم، إذ تتحرك الجموع الموحدة في مسيرة بيضاء لا متناهية و موجة عارمة دائبة الحركة، و في جوانب الصورة الجوية صور لرهبان و نساك في ثياب ناصعة على أطراف الجبال، كل منهم يرفع يديه بالدعاء لرب العزة و الجلال. و أخال الملايين التي تسعى في هذه الثياب الناصعة مجللة و مظللة بملايين أخرى من موحدي السماء، ملائكة تدعو لهم و تستغفر لذنوبهم و تسبح معهم، سبوح قدوس رب الملائكة و الروح.
منظر تلك المسيرة حين تقترب العدسة، يريك بعض مشاهد محشر القيامة، ترى الملايين و قد صارت جماعات أصغر، تتقدم كل مجموعة رايات ملونة منها الأخضر و الأحمر و شتى الألوان، بحيث لا تتفرق المجموعة أو يضل منها أحد، في صورة رغم توحدها في المسير يبقى كل فرد فيها يعرف طريقه و يعرف عشيرته. حين أعود بالذاكرة لنفس المشهد حين عايشته في دخول منى يوم العاشر، كانت الرايات تتفاوت بين الأعلام القماشية و قناني الماء كبيرة و صغيرة و قد علقت على العصي.
 هذه الرحلة الإيمانية التي تهفو لمنظرها قلوب من لم يجربوها، و تعتصر أفئدة من سبق لهم القيام بها، تشتاق لها قلوب حتى من ليس على دين التوحيد لما تحمله من معان سامية و تجربة روحية لا مثيل لها على وجه الأرض. حدثني مرة زميل هندي أعرف صدقه، أن من أصدقائه هندوسياً غير ديانته في أوراقه الثبوتية إلى الإسلام ليتسنى له دخول البقاع المقدسة و المشاركة في هذه الرحلة.
 مازالت ذكريات الحج تداعب نفسي رغم بعد العهد نسبياً، فالبحرينيون من الشعوب التي ربما لقلة عدد سكانها تتميز بأن أكثر من نصف حجاجها كل عام هم حجاج سنويون، يذهبون للحج كل عام أو عامين. هذه الذكريات التي تنتقل في عدة مشاهد و بقاع، بين الطواف و السعي و عرفات و منى و مزدلفة، ثم زيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة المنورة.
 في الروضة الشريفة وقفت بعد أداء الصلاة و أنا أستشعر عظمة صاحب البيت و المنبر فهمست “ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله” كان جاري المصري قد أنهى صلاته، و قد أحس أنه يحتاج أن يعلمني ربما لفارق السن بيننا فقال ملقناً إياي، و أنا أردد معه “أشهد أنك بلغت الرسالة، و أديت الأمانة، و نصحت الأمة، و كشفت الغمة، فجزاك الله عنا و عن المسلمين خيرا”. إحساس رهيب بالضآلة أمام عظمة سيد الخلق و هادي العباد خالجني و أنا أرى أهل كل عرق و قطر و لون و لسان، يسلمون على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و أحس أنهم – وأنا ضمنهم- لا يعرفون ما ينبغي له من القدر مع كل احترامهم له.
 و لا  أدري لماذا أحس أن المصريين من جميع شعوب الأرض استثناء في عشقهم له و تعظيم لقدره صلى الله عليه و آله و سلم. حالة متفردة من العشق و التبجيل و الذوبان بمجرد ذكر الإسم الشريف، و هو حقيق بذلك و أكثر. أذكر مرة أن مصرياً أخطأ أو نسي فقال جبلةً على فطرته “ما كامل إلا محمد” فصحت به أن الكامل هو الله لا غيره. ثم ندمت على كلامي أشد الندم، فالرجل كان و لا شك يقصد الكامل من المخلوقين و لم يكن يفترض أن يحضرني معنى آخر لولا ما ابتلينا به من وسواس خوف الوقوع في الشرك، مرض الوسواس الذي أصبنا به كمسلمين وصرنا بسببه نقع في بعض مصاديق سوء الظن الذي ربما كان آثماً.
 يبقى الحج من أكبر مصاديق التسليم لرب العزة و الإمتثال لأوامره و نواهيه، فما بين رهبنة الإحرام و ترك المخيط و الطيب و النساء، و بين هجر الجدال و الخصام و كراهة إنشاد الشعر، و حرمة الصيد، و بين شعائر طواف و سعي و رمي و انتقال و وقوف و مبيت و نحر. لكل هذه الأعمال معانٍ سامية، إلا أن أهم معانيها التسليم و الإمتثال لرب العزة و الجلال.
 أعادنا الله و إياكم على مثل هذه الأيام و نحن مع الحجيج بأبداننا كما نحن معهم اليوم بأرواحنا التي تهفو لتلك البقاع الطاهرة.

آخر الوحي:

أمر على الديار ديار ليلى          أقبل ذا الجدار و ذا الجدارا
و ما حب الديار شغفن قلبي             و لكن حب من سكن الديارا

قيس بن الملوح

الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

شولم شولم






الأربعاء ٢٦ أكتوبر ٢٠١١




 يبدو أنني مددت ذراعي في غار الثعابين حين مددتها إلى كتاب كليلة و دمنة بعد أن هجرته سنين عديدة. أقول ذلك لأن هذا الكتاب الذي نتداوله صغاراً كمصدر لقصص الحيوانات، هو كما قال عنه واضعه الهندي بيدبا الفيلسوف أن ظاهره لهوًٌ للعامة و باطنه سياسة للخاصة.
 إلا أنني كما زينت أواخر بعض المقالات بمثيلات ذلك من قصص الحيوان بشعر أحمد شوقي، فقد قررت أن أبحر قدماً مع أقاصيص بيدبا الفيلسوف في كتابه الثمين لمليكه دبشليم. وقد اتفق أن يكون في الكتاب باب أضافته الفرس إلى الكتاب عند ترجمته يسمى باب برزويه المتطبب. هذا الباب وحده درة ثمينة و جوهرة نفيسة فيها من كنوز الحكمة ما يغني من اطلع عليها عن الكثير من موارد الحكمة لما فيها من التسلسل في مراجعة القناعات و محاسبة الذات.
 يقول الباب على لسان برزويه “ فلما لم أجد إلى متابعة أحد منهم – أي الناس- سبيلاً، و عرفت أني إن صدقت أحداً لا علم لي بحاله كنت في ذلك كالمصدق المخدوع الذي زعموا فيه”. ماذا زعموا فيه؟ يروى أن سارقاً في جماعة من أصحابه قد علا سطح بيت رجل من الأغنياء، فاستيقظ الغني على صوت خطواتهم و أيقظ امرأته و أعلمها بما شعره. ثم قال لها: أيقظيني بصوت مرتفع ثم اسأليني عن أموالي الكثيرة و كنوزي العظيمة من أين جمعتها و ألحي علي في السؤال إن امتنعت عن جوابك ثم استحلفيني حتى أجيبك إلى ما تسألين. فلما فعلت، سمع اللصوص سؤالها و مدوا آذانهم يطلبون الجواب معها. فقال الغني لامرأته و لمن يسمع: إني ما جمعت هذا المال إلا من السرقة بعلم أصبته ييسر أموري و يستر فعلي. كنت أعلو أسطح المنازل حتى أصل إلى الفتحة التي يدخل منها الضوء للمنزل فأرقي نفسي بقولي “شولم شولم” ثم أمسك بحبال الضوء و أنزل إلى قعر المنزل بسلام و لا يبقى شئ ثمين في المنزل إلا أتاني من نفسه ببركة هذه الرقية فآخذ كل المال و المتاع و أتعلق بحبل الضوء و أخرج مرة أخرى سالماً غانماً. و كل من كان له الجرأة في ذلك من التعلق بالضوء يمكنه فعل ما أفعل. فلما سمع اللصوص ذلك انتظروا سكون صوت الغني و امرأته، فقام كبيرهم و رقى نفسه “شولم شولم” و اعتنق الضوء فوقع على الأرض على رأسه. فوثب عليه الغني بهراوته يضربه و يقول له من أنت؟ فقال :”أنا المصدق المخدوع  المغتر بما لا يكون أبداً، و هذه ثمرة رقيتك، و عاقبة من يصدق كل ما يسمع”. يقول برزويه “فلما تحرزت من تصديق مالا يكون، و لم آمن إن صدقته أن يوقعني في تهلكةٍ، عدت إلى البحث عن الأديان، و التماس العدل منها”.
أقول أن من شأن صاحب كل دعوة أن يجمع الناس من حوله بالترغيب ما أمكن ثم بالترهيب إن تمكن، و لو كان الناس من أصحاب العقول لا تعميهم المطامع فيتدبرون في ما يعطى لهم من الوعود لتزيين الدروب الشائكة، لما كان لأحد أن يخدعهم ثم يندموا حين لا يفيد الندم. إلا أن الإنسان و إن درس من الحكمة الشيء الكثير لم يكن له ليتعلم إلا مما يشاهد بأم عينيه مما يجري عليه أو على غيره من أهل زمانه. و لذا كان من الخير له أن يستغني بالعبرة التي يراها من تجربة غيره عن إيقاع نفسه في المهالك و موارد الخطر.
الناس يقعون تحت تأثير محتالي الإستثمار الوهمي فيضيعون أموالهم و مدخراتهم بالثقة و التصديق لما لا يكون أبداً، فيغنمها المحتال وحده. و الناس يقعون تحت تأثير السياسي الذي يجمعهم حوله و يريهم أن الجانب الآخر من السياج أكثر اخضراراً إذا هم مشوا معه و ساروا في ركابه. و الناس يسحرون بالخطيب ذي التوجيهات التي توصلهم لمراتب الملائكة دون جهد يذكر. و الناس يسحرون بالكاتب الذي يلمعهم بما يخط من مديح لهم و لتوجهاتهم، سواء كانوا معارضين أو موالين. أما من يصدق معهم و لا يمارس عليهم التنويم المغناطيسي، و يريهم أن الثروة تجئ من جهد و عمل، أو يقول لهم أنهم بشرٌ لهم أخطاؤهم، ذلك يصير شيطاناً يريد أن يحبطك، ذلك حسود يريد أن يسوءك، ذلك هو من يجب أن تجتنب تثبيطه لتصل إلى ما تتمنى.
إن من أراد الوصول لشئ عمل بأسبابه و نظر إلى ظروف إمكانه، سواء كان ذلك الهدف نبيلاً أو غير نبيل، هذه هي الواقعية، التي يسميها البعض انبطاحية و تخاذلاً، فالواقع له حساباته المختلفة عن الأحلام الوردية من أمثال الإستئصال و الإستئثار أو الإنفراد، إلا أن كل حزب يزين لأتباعه الطريق بالوعود و يجمل جانبيه بالأزهار و الورود أو يصفهم بالمردة و الأبطال و الأسود.
 آخر الوحي:
لا تكوني عصبيه!! لن تثيريني بتلك الكلمات البربرية
 ناقشيني بهدوءٍ وروية
 من بنا كان غبياً؟
 يا غبية..
 إنزعي عنك الثياب المسرحية..
 وأجيبي.. من بنا كان الجبانا؟.
من هو المسؤول عن موت هوانا؟.
 من بنا قد باع للثاني.. القصور الورقية؟
 من هو القاتل فينا والضحيه؟. من ترى أصبح منا بهلوانا..؟
 بين يوم وعشية؟
 نزار قباني

الأحد، 23 أكتوبر 2011

الواد سيد الرئيس





الأحد ٢٣ أكتوبر ٢٠١١


الزعيم عادل إمام ترك تراثاً كوميدياً لا يسمح للمشاهد العربي بنسيان قفشاته ولا المثقف العربي بتجاهل رمزياته. يفتح لك إغراء بتبني مواقف أفلامه و مسرحياته الحاضرة دوماً في ذهن كل عربي ربما. الزعيم على ما يبدو عشق فكرة المحلل و التي طرحها في فيلمه زوج تحت الطلب و مسرحية الواد سيد الشغال. ففي العملين كانت نوافذ المال تفتح لذلك الرجل البسيط بشرط أن يعقد قرانه ثم يطلق عاجلاً. طبعاً الفكرة مبنية على أن أي زوج يطلق زوجته ثلاثاً لا يحل له الإقتران بها مجدداً حتى تتزوج بآخر ثم يطلقها ذلك الآخر.
 الآخر طبعاً درجت تسميته بالمحلل أو كما سمته مسرحية الواد سيد الشغال “كوبري”، و هذا الكوبري هو الذي سيكون طريقاً لعودة الزوجين لبعضهما البعض.
 ربما هكذا نظر الرئيس الروسي السابق و رئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين إلى الرئيس الحالي ديميتري ميدفيدف. فالرئيس بوتين كان قد حكم روسيا لدورتين متتاليتين، استطاع خلالهما تحقيق العديد من المنجزات لبلاده و من ضمنها تحسين البنية التحتية و رفع المستوى المعيشي و تخفيض نسبة التضخم بشكل ملحوظ جداً. و بعد الدورتين، كان الدستور الروسي يحظر على بوتين أن يعاود ترشيح نفسه إلا بعد أن تنال روسيا رئيساً آخر لدورة واحدة على الأقل. هنا قام بوتين بالدفع بديميتري ميدفيدف للإنتخابات. و يبدو أن تزكية الرجل لميدفيف كانت كفيلة لوصوله لسدة الحكم بنسبة عالية من الأصوات.
 كان أول مرسوم أصدره ميدفيدف بعد دخول قصر الكريملين تعيين بوتين رئيساً للوزراء. و يبدو أن السياسة الروسية لم تتغير كثيراً بين عهدين، و ظل بوتين في مركز دائرة صنع القرار رغم كونه رئيساً للوزراء فحسب، إلا أنه كان الرئيس الفعلي من وراء الستار.
 منذ أيام و قد شارفت فترة ميدفيدف على الإنتهاء، لاحت في الأفق التصريحات من الحزب الحاكم و الأنباء بأن بوتين ينوي الترشح للإنتخابات المقبلة، و أن ميدفيدف سيظل في نفس الدائرة و يرجح أن يصير رئيساً للحكومة في العهد القادم.
 هنا في الحالة القائمة في روسيا، يبدو أن الدستور الذي يحظرالبقاء في الحكم لأكثر من دورتين لم يستطع إلا أن يحافظ على شكليات أمكن تجاوزها بواسطة الرجل القوي الذي ظل يحكم روسيا و إن كان ذلك بإرادة الناخبين. هذه الحالة تمثل تراجعاً في التعددية و الديموقراطية في بلاد يفترض أنها صارت تؤمن بها، و خصوصاً في عهد ما سمي بزمن الشعوب. ما أريد قوله هو أن النصوص وحدها لا تستطيع أن تغني شيئاً عن الناس أو حتى عن نفسها. لا يوجد نص غير قابل للتأويل أو التحايل أو التغيير، و العبرة دائماً بوجود إرادة الإصلاح و الثقة المتبادلة و رسوخ القناعات عند الأمم و عدم السماح بالإستثناءات. فقد سلمت روسيا زمامها إلى رئيس بسبب تزكية زعيمها المحبوب له، و ظنها أنه لن يخذلها، و ربما تسمح لذلك الزعيم بالوصول إلى رقم قياسي في سنوات الحكم بسبب ثقتها فيه ليس إلا.
و قد تكون هذه الحالة و إن كانت مرضية من الشعب الروسي مبدئياً إلا أنها سوف تؤسس لحالة من الإستثناء و الإستحواذ الذي قد يتم استغلاله مستقبلاً فتدخل هذه البلاد في القبضة الحديدية من جديد و لو بإسم غير إسم الشيوعية.
 أما في الوطن العربي، فهذه الفرضية غير مطروحة من الأساس، إذ أن الرؤساء لا يحتاجون أن يغادروا ثم يطلبوا العودة بقول أنهم عائدون بدعوى المحافظة على مصلحة البلاد كما قال بوتين. الرئيس لا يحتاج أن يغادر أصلاً لا بالنص ولا الواقع. و النماذج من أمثال القذافي الذين وصلوا للحكم بثورة ظلوا قابعين في مراكزهم حتى اقتلعتهم التحالفات الدولية بإسم الثورة على طريقة قدومهم للكرسي هي كثيرة على العد و الحصر.
 كذلك رؤساء أحزاب المعارضة، لا يملون من رئاسة الحزب، و لن يصعب على أي منهم أن يفعل أي شيء للمحافظة على مركزه في الحزب، و استبدادهم بآرائهم مدعاة لعدم تصديق حرف مما يقولون. لأن من كان مستبداً و هو مازال خارج السلطة، فإنه جزار بعد دخوله للسلطة.

الراغبون في السلطة لن تعجزهم الحيل في أي مكان للإستبداد بآرائهم على تابعيهم و الوصول إلى مبتغاهم على حساب المبادئ المتفق أو المجمع عليها، لذلك لا أثق بكلام السياسيين و وعودهم أياً كانوا بل أثق بأفعالهم، فالفرق بين الحق و الباطل أربع أصابع و هي المسافة بين مسمعي و ناظري.

آخر الوحي:

لا تذكروهم لي ، و إن سألوا
لا تذكروني عندهم أبدا
لا يملأ السربال واحدهم
و له وعود تملأ البلدا
يا ليتني ضيّعت معرفتي
من قبل أعرف منهم أحدا

إيليا أبو ماضي

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

كن جميلاً







الأربعاء ١٩ أكتوبر ٢٠١١


 في أيام مضت و في أول ما نشر لي قارنت بين دور الصحفي و دور الأديب، و أوضحت كيف أن دور الصحفي يكمن في وضع الأصابع على مكامن الخلل و تسليط الضوء عليها سعياً لانصراف الجهود نحو معالجتها. و شكوت أن نسبة الاستجابة لصحافتنا متدنية، و أن الآذان ليست صاغية و أن الصحافة صحافة بريد قراء.
 إلا أن هذا لم يكن أبداً سبباً في انصرافي عن أداء هذا الدور ولا داعياً لتحولي للجانب الآخر من المعادلة و محاولة تقمص دور الأديب. فكان اتجاهي حينها نحو الحفر في ذلك اليابس و محاولة أداء المهمة و إن كانت النغمة مكرورة لدرجة أنك مهما قلت لا تقول جديداً و لا تصدم قارئاً ولا تحرك ساكناً.
 لكنني اليوم أرى أن دور الأديب أهم، لصناعة الأمل و جمع القلوب و تهدئة النفوس. و هنا لا أعني إيقاع الجمهور أو القراء تحت تأثير المخدر. فأنا لا أدعو أحداً أن يقول أنه ليست هناك مشكلة إسكانية فاغرة فاها على مصراعيه، و لا أقول أنه لا توجد لدينا مشكلة في تنوع مصادر دخل الدولة. و أنا لا أنكر أن بنيتنا التحتية ينقصها الكثير. و لا أدعي أننا حققنا اكتفاء  ذاتياً أو أمنا غذائياً. لو دعوت لمثل هذه الأقوال أو لمعتها فسأكون حتماً تحت تأثير المخدر، إلا أنني أشير إلى جانب آخر.
 ما أشير إليه هو أننا نحتاج من الكتاب لمن يشيع المودة بين الناس، لا من يؤكد على حقهم في التقاطع و التدابر ثم يدعي أنه يريد خير البلد. لا من ينادي بالدعوات المكارثية للإستئصال، ثم يخطب باسم أمن البلد، ولا من يغمض عينيه و يصم أذنيه عن الإقتصاد المنهك، ثم يدافع عن الأخطاء باسم حق التعبير عن الرأي.
 الأديب الذي نحتاجه هو من سيحاول أن يغير الصورة القاتمة و اليائسة التي صارت حاضرة حتى عند الواقعيين و المتفائلين و المتشائمين على حد سواء. إنه قادر على تركيز عدسته على نقاط القوة التي يمكن لأهل هذا البلد أن يبنوا عليها و يواصلوا مسيرتهم، و يبتعد بهذه العدسة عما يفرقهم، يجمعهم على الثمانين بالمائة المتفق عليها، حتى يحين الخروج من هذا النفق، لأنه لا يمكننا التفكير ما دمنا فيه.
 ربما كان ما دفعني دفعاً لهذا التفكير أنني رأيت أكثر من شخص ممن يغلب عليهم التفاؤل و العمل الجاد الدؤوب لخدمة مجتمعهم رغم الظروف الحالكة، رأيتهم و قد شارفوا على أن يفقدوا أجمل ما فيهم و هو الثقة بالله و التوكل على الله. حين ترى معتدلاً و قد صار أو كاد يصير معتزلاً، فاعلم أننا كلنا نحتاج إلى راحة نفسية طويلة و نظرة متفائلة لنتمكن من مواصلة المسير.
 صديق خليجي قال لي ذات مرة أنه لا يفرق بين الناس على أساس أعراقهم أو مذاهبهم، قلت له تأكد أنه لا يفرق بين الناس إلا من يتعيش على الفرقة ولا تظهر له قيمة إلا بفساد ذات البين و هنا يصدق المثل أو قول الشاعر “يرفع الله حظوظاً بعدما كانت زبالة”.
 آخر الوحي:
قال السماء كئيبة ! وتجهما
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما 
قال: الصبا ولى! فقلت له: ابتــسم
 لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
قال: التي كانت سمائي في الهوى
 صارت لنفسي في الغرام جــهنما
خانت عــــهودي بعدما ملكـتها
قلبي , فكيف أطيق أن أتبســما
قلـــت: ابتسم و اطرب فلو قارنتها
 لقضيت عــــمرك كــله متألما
 إيليا أبوماضي

الأحد، 16 أكتوبر 2011

ياخيل الله







١٦ أكتوبر ٢٠١١


في غرفة الإجتماعات، جلس مجموعة من الإخوة يناقشون قضية هامة من قضايا الفكر التي تمس المجتمع بصورة دقيقة لا تحتمل التجاهل، كنوز من الفكر و جواهر من المعرفة و درر من الحجة و المنطق كانت تتناثر بين الحاضرين. علامات البشر و التهلل تنعكس على وجوه المستمعين، طمأنينة تسري في الأنفس و الأبدان، أنفاس من الإرتياح المختلط بالتركيز المعجب.
خرج الجميع من هذه الندوة أو ذلك الإجتماع أو لعلها تلك الإحتفالية، و قد تذاكروا بينهم من العلم ما أحسوا بعظم قيمته في تعزيز ثقتهم و قتل شكوكهم و إبعاد وساوسهم. إلا أن من كان خارج الإحتفالية فاته ما ذكر فيها و ما نوقش من مسائلها و ما تشعب في جدالاتها و تساؤلاتها.
 من كان خارج هذه الندوة؟ كل العالم كان خارج هذه الندوة، كل من قد يهمه الأمر لم يدرك من الأمر شيئاً لسبب بسيط، أن محتوى الندوة كان مشافهة لا مكاتبة، وكم يتفاوت الإثنان في الرسوخ و الإستقرار و التوزيع و الإنتشار و ربما في الدقة و الإحكام.
 ليس قدحاً فيما يقال مشافهة فالتواصل وجهاً لوجه بين المحاضر و المستمع له الأثر البالغ في نفسيهما رغم كونه أمراً فوتياً لمن تخلف عنه، إلا أن حصول المشافهة  لا يمنع أن تلحقها الكتابة  لتثبت أركانها فينتشر ذلك العلم بين بقاع الأرض و أصقاعها و يصير مادة متداولة في أوراق الصحف و نتائج الجوجل و تغريدات التويتر.
 فالفكر هو الساحة التي لا ترهب فيها قلة من كثرة، و لا يخشى فرد من مجابهة العشرات و المئات بل و الآلاف، و لعل من ذلك ما ورد في الحديث من أن مداد العلماء خير من دماء الشهداء. فلم نفرط في معركة الفكر و لم نحصرها في الغرف المغلقة فتغيب عمن يريد أن يشهدها و يرى تصارع الآراء ليرى أيها أقوى من غير بهرجة ولا دجل و لا عد ولا عاطفة آسرة أو قوة قاهرة.
 هذا ما يعيب كثرة من مثقفينا و متعلمينا و مفكرينا المبرزين، و هو اعتزالهم زهداً في حب الظهور. و رغبة عن التعرض للجمهور، و إن كنت لا أرى في ظهورهم إلا إيجاد حراك فكري يسهم في غربلة ما ينتشر بين الشباب و الناشئة و عموم المجتمع من أفكار ليست كلها بناءة. هذا الحراك بدوره يدفع عجلة النهضة المجتمعية نحو مستقبل أفضل غير معتمد على أحلام الحالمين دون نبؤات المستشرفين و تصورات الخبراء و المفكرين.
 ما يمنع كل صاحب رأيٍ إن على مستوى نقد الذات أو نقد الآخر أن يسطر حروف رأيه على الصفحات و الشاشات، لينال هذا الرأي حقه من المناقشة و التمحيص أو حتى من التسفيه الذي قلما غادر فكرة عظيمة في بدايات ظهورها و انتشارها.
 إنما هي مجالدة فكر بفكر و صراع رأي برأي، فأيهما كان أكثر وجاهة سيتقبله العقل لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً. ولا شك أن بين النية و العمل مسافة ينبغي قطعها و لو بأدنى الممكن.

آخر الوحي:
فاستلهِموهُ فخيرُ من رَسَمَ الطريقَ مُجرِّب
لا تجمُدوا إنّ الطبيعة حُرَّةٌ تتقلَّب َ
كونوا كرقراقٍ بِمَدرجةِ  الحَصى يتسَرَّب
تأتي الصخورُ طريقَه فيجوزُهنَّ ويَذهب
وخُذوا وُجوهَ السانحاتِ منَ الظروفِ فقلِّبوا
فاذا استوَتْ فتَقحََّّموا
وإذا التوَتْ فتَنكبَّوا 
 وإذا وجدتُم جذوةً  فضعوا الفتيلَ وألهِبوا
محمد مهدي الجواهري

الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

كلام في المفهوم









الأربعاء ١٢ أكتوبر ٢٠١١


ربما كان سبب تسمية هذا العمود الأسبوعي باسم “كلام مفهوم” عائداً إلى شدة ما نعانيه بسبب الكلام غير المفهوم. فالخطيب عندنا يبحر في معاني عالم المثال حين يعظ الناس، وهم يهزون رؤوسهم محاولين التحليق معه. ثم يذكر أحكاماً شرعية لا في صورة المسألة الشرعية أو الحديث النبوي، وإنما في صورة كائن هلامي قابل للتغير والتشكل، لا تعرف حدود هذا الكائن ولا ماهيته وقد يتضخم أو يضمحل أو يصير على شكل آخر. رجل السياسة بطبيعة الحال يغرق في المواقف نصف المكتملة مثل قفزة الغطاس من فوق الصخرة، نصفها فوق سطح الماء ونصفها الآخر تحت الأعماق غائب عن الأنظار. فلا يعيي السياسي نفسه بشرح مواقفه وإنما يترك فسحة تسمح له بالاستدارة وتغيير الاتجاه. أدباء الحداثة يقذفون بك في اللجة نفسها حين يرسمون خيول الماء وبوح ظل الإعياء ورقص الحلزونة ويحشرون معنى تخندق الماء والنار في بركان القطب الشمالي.
مع هذا الكم الهائل من الكلام غير المفهوم، يشعر المستمع كلما أكثر الاستماع بتمدد أذنيه إلى الأعلى، بالضبط كتمدد أنف بينوكيو للأمام حين يبدأ بالكذب، وتشنج عضلات رقبته، فلا يستطيع رفعها لينظر للسماء، إنها أعراض داء “حب الاستحمار” الذي يسيطر على الجمهور حين ينبهر بقدرة الخطيب والسياسي والأديب والكاتب بخلق جمل غير مفيدة وعبارات غير مفهومة، والذي قد يتطور للإدمان فيما بعد.
إلا أن هذه التسمية جمعت في جوانبها أكثر من هذا حين فتحت المجال لنقاش الإشكالات الكلامية والفلسفية، ثم فتحت الباب الأهم في نظري حين سمحت بتوضيح المفاهيم التي تراكم عليها الغبار أو أصابها التدليس أو ضيعها سوء الفهم المركب. ولنتذكر أن المدخل إلى أي فتنة يكون عبر تلبيس مفهوم واحد أو أكثر.
ولعل أجلى وأوضح صورة في ذهني لعملية تنقيح المفاهيم وتوضيحها قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي عليه السلام “أنا أقاتلُهم على تنزيل القرآن وأنتَ تقاتلهم على تأويله”. في هذا الحديث نبوءة واستشراف وحكمة ككل الأحاديث النبوية، نقتبس منه أن المفاهيم إذا استحسن ظاهرها وصارت تسالم على استخدامها والإيمان بها، فإن كل طرف يقوم بتأويلها كما يرى أو يريد، لذا لزم توضيحها درءاً للخلاف والفتنة ووصولاً إلى مقاصد النص الذي يحتوي على هذه المفاهيم.
كمثال على ذلك نذكر استغلال مفهوم “ثورة الحسين” الذي حول جريمة اغتيال سبط نبي الأمة عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام إلى سعي للحكم يشرف كل ثائر باقتدائه. على أن أمثلة الثورات الساعية للحكم في التاريخ الإسلامي غير قليلة، وكان بالإمكان استلهامها وجعلها أيقونة، إلا أنها لن توفر غطاء شرعياً واستدلالاً فقهياً إن ثبت معنى الثورة.
الثورة معنى موجود في التاريخ من قديم الزمان، إلا أن طبيعة المجتمع الإسلامي تفرض الأسلمة على أي معنى مستورد، كما يتم أسلمة الديمقراطية تحت عنوان الشورى. فالشورى عنوان إسلامي لتعددية الخبرات في حل المشكلات، ولكنها بالتأكيد لا تفتح مجالاً لاجتهاد مقابل النص كما تفعل الديمقراطية التي تجعل كل النص قابلاً للإيجاد أو الحذف بإرادة المتشاورين.
العمليات الانتحارية هي مفهوم آخر تم أسلمته إلى العمليات الاستشهادية، فصارت ثقافة لبس الحزام الناسف سائدة، وتم التنظير لها وفرش جوانب طريقها بالحور العين وبجنان الخلد وبالغداء مع الرسول حتى لو كان ضحايا هذه الأعمال من المسلمين، فضلاً عن غير المسلمين. ولاشك أن هذه الأعمال مبنية على مفهوم مغلوط يحصر المسلم ذي الدم الحرام في أفراد التنظيم أنفسهم وبتجاهل لمفهوم “أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
وكما يساء استخدام المفاهيم أعلاه يتم الإساءة لمعنى الوطن والوطنية والوطنيين. فالوطن ليس أرضاً وحسب ولا شعباً فحسب وليس نخبة أو طائفة أو مجموعة، الوطن يشمل ذلك كله ويشمل معه تاريخاً وحضارة وقيماً تشكل مع الأرض والناس ما يطلق عليه الوطن. وعلى ذلك، فالوطنية ليست انتماءً لحركة سياسية شعبية معينة وليست مواقف مسبقة تجاه الأشخاص في الداخل والخارج ولا نفاقاً بكثرة الإنفاق أو شقاقاً بكثرة الاختلاف، الوطنية هي الانتماء لهذا المجموع كجزء من مكوناته والسعي إلى ما فيه خيره وازدهاره ونماؤه. الوطنيون لا تصلح بديلاً لكلمة “اليساريون”، فالكل يدعي الوطنية وليست حكراً على أحد ولا دثاراً لإزالة الاستيحاش من تناقض التحالف مع عدو الأمس “الإسلاميون والشيوعيون”. والوطنيون ليسوا أحد اثنين من موالاة أو معارضة. وخطورة هذه المفاهيم تنبع من نقائضها البشعة كلفظ “الخونة”.
لماذا نحتاج وضوح المفاهيم؟ لتوضيح المقاصد، ليكون للناس بينة فيما يقولون ويفعلون؛ لمعرفة الصواب من الخطأ، لإزالة اللبس المقصود وغير المقصود، ولكي لا تدخل علينا العلمانية أو الشيوعية أو حتى المافيا الإيطالية ملتحية تحمل معها سبحة ونحن نحسبها ليلى، فإذا بها الذئب. لكي لا نفاجأ بالتحول الذي وقع علينا، كما قال ذلك الشيخ المسن في مسرحية سيف العرب “أنام كويتيا وأصحو عراقيا؟!”.
آخر الوحي:

كأن الدِّين حانوت
فتحناه لكي نشبع ...
تمتعنا “بما أيماننا ملكت”
وعشنا من غرائزنا بمستنقع
وزورنا كلام الله بالشكل الذي ينفع
ولم نخجل بما نصنع
عبثنا في قداسته
نسينا نبل غايته ..
ولم نذكر سوى المضجع
ولم نأخذ
سوى زوجاتنا الأربع ...

نزار قباني

الأحد، 9 أكتوبر 2011

إن أكثرهم








الأحد ٩ أكتوبر ٢٠١١


عجيب هو انتكاس العقل البشري مع انقلاب القلب. فالأخير الذي ربما سمي قلباً لتقلبه يكون الباعث للهوى، الهوى الذي حين يتبعه الإنسان يصير أعمى و أصم. و لعل من ذلك التقلب ما ورد في الدعاء (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك). العقل إذن لا ينتكس دون مسبب قلبي أو لوثة تصيب العقل نفسه، لكن قديماً قيل حب الشئ يعمي و يصم.
هذا الأمر لا يسلم منه عالم أو جاهل، بل ربما لا يسلم منه أحد إلا من عصمه الله فلا ينطق عن الهوى. تلك حقيقة جلية للجميع، إلا أن التقديس للمحبوب يلغي أي مثلبة و يحولها إلى منقبة، ألم يقل الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
و مما لا يكاد يخفى على مسلم قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام “لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه”. علي يحذر من استيحاش طريق الحق، إذن طريق الحق موحش، لا تكاد تجد أحداً عليه، و هنا بيت القصيد.
فقد دأب الناس على ترهيب مخالفيهم في الرأي بمقولة “أترى الناس كلهم على خطأ و أنت على صواب؟”، أقول و ما العيب في ذلك؟ صحيح أن الناس إذا شاءوا أن يعملوا عملاً كان أقربه لرضاهم ما توافقت عليه آراؤهم، و لكن هل الحق أو الحقيقة يعرف بالقلة أو الكثرة؟  شتان ما بين توحيد الكلمة و الرأي على كلمة سواء يذعن لها الجميع و التي قد تكون في الأساس مما أذعن به القلة ابتداء و بين ما اتجهت إليه أهواء الغالبية من الناس.
 بل أكثر من هذا قولة علي من  أن الحق لا يعرف بالرجال بل هم يعرفون بالحق فضلاً عن مسألة الكثرة التي ذمها القرآن في الكثير من مواضعه بقوله تعالى “إن أكثرهم”. فمن هذا و ذاك فإن الأدعى و الأقرب للصواب هو خلاف ما أحبه عموم الناس.
 من من المصلحين بل و الأنبياء من لم يكن و أتباعه قلة مستضعفة في أمته؟ و من منهم كان طريقه وفق أهواء الناس فأحبوه؟ لقد أنزل الله على بني إسرائيل المن و السلوى من طعام الجنة فقالوا لن نصبر على طعام واحد، فكيف لو ابتلاهم بخبز الشعير أو المداومة على أكل القديد.
 جانب الألوهية الموجود في كل نفس بشرية يدفعها بدوافع الكبر و العلو، و جانب العاطفة يرفدها بالميل لكل محبوب و جانب الإستيحاش يرغمها على الإنصهار في الجماعة و الخوف من ترك أي موروث. و جانب الحق قد يكون مريحاً بالمرور عبر هذه النوازع و الطبائع و مراعاتها و قد يكون مضاداً لبعضها أو أكثرها.
 ما يهمنا في هذا الموضوع هو جانب الإستيحاش لعلاقته المباشرة بالقلة و الكثرة. هذا الجانب لن يعمل إلا بعد خلق أكثرية متكومة من الجوانب الأخرى التي تميل إلى جوانب فردية لها علاقة غير مباشرة في صنع الأكثرية و الأقلية و ليس في الإرتباط بها. فإن الطريق الذي يرضي نوازع أكثر الأفراد سيكون مثل نور المصباح الذي تتجمع عليه الفراشات و الذباب بحثاً عن المنفعة الخاصة لكل منها.
 النوازع ستكون فردية في أول الأمر كما قال علي عليه السلام “إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع،يخالف فيها كتاب الله،يتولّى رجال رجالاً” و ربما لكون الطريق الجديد مبنياً على هوى فمن الطبيعي أن ينجرف إليه عامة الناس. و من ثم يبدأ تأثير عامل الإستيحاش في إضعاف الآراء الصحيحة  و دفع أتباعها للإنجراف نحو الطريق الخطأ. بل ستجد أن نفس الإنسان تبحث له عن أي عذر آنذاك لينضم إلى طريق رغم أنه يعلم خطأه.
فتنة العجل التي وقع فيها قوم موسى، جرت إليها عامة بني إسرائيل كما تعلمنا من سيرتهم، حتى عجز هارون عن ردعهم بل كادوا يبطشون به لو تصادم معهم، و من السذاجة أن نعتقد أنهم كانوا أقلية ليفعلوا ذلك، فالفتنة تجر دائماً الأغلبية في بدايتها على الأقل لأن الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت، و ببساطة لأن أكثرهم لا يعلمون.

 آخر الوحي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه 
فكل رداء يرتديه جميل
و إن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
و ماقل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا و كهول
و ما ضرنا أنا قليل و جارنا
عزيز و جار الأكثرين ذليل
السموأل بن عاديا

الأربعاء، 5 أكتوبر 2011

تلمس الذات







الأربعاء ٥ أكتوبر ٢٠١١




حين يفتح الطفل عينيه على الدنيا، فإنه أول ما يبدأ بالتعرف على أجزاء جسمه ثم على قدرات كل منها واحداً فواحد. هذا من معاني تلمس الذات أي التعرف على القدرات و الأدوات المتوفرة. كذلك الغطاس حين يستعد لقفزة خطيرة فإنه يفحص نفسه بنظرات سريعة ليتأكد من جهوزيته ربما أو لعامل نفسي يبحث من خلاله عن الثقة، هذا مكان آخر لتلمس الذات.
 مقدم البرنامج التلفزيوني لا بد له من إلقاء نظرة فاحصة على المرآة يتأكد من خلالها أن كل شيء على ما يرام. و على نفس منواله فإن الإنسان عند خروجه مباشرة من حادث سيارة خطير، فأول ما يبادر به هو تلمس أجزاء جسمه و كأنما يتأكد من سلامتها واحداً فواحد أو لعله يحمد الله على سلامتها جميعاً بدون أن يشعر و في حركة فطرية.
 و لعل المعنى الذي أريد التركيز عليه هو المعنى المرتبط بتعرض الإنسان لهزة عنيفة كحادث سيارة أو ما شابه، و كيف يبدأ بتقييم وضعه و سلامته جسمانياً، و ربما فكر في مسببات الحادث و كيفية تجنبه في المستقبل. إنه ذات المعنى الذي أشار إليه الراحل الشيخ سليمان المدني رحمه الله في محاضرته حول علاقة الديموقراطية بالإسلام.
 فهو يقول كما يروي التاريخ أنه بعد أن دكت مدافع محمد الفاتح العثماني القسطنطينية، خرج كثير من فلاسفتها ومفكريها إلى روما و باقي مدن أوروبا. و يقول أن ذلك كان إيذاناً  للأوروبيين للتنبه من سبات طويل و بدأ عندهم عصر عرف بعصر التنوير أقبل فيه الأوروبيون على دراسة العلم من جديد و على “تلمس ذاتهم” تلمساً جديداً - و هنا بيت القصيد.
 إذن فقد كانت بداية عصر التنوير و التغيير في أوروبا كارثة أو هزة عنيفة تجلت في وصول الخطر العثماني إلى أبواب القسطنطينية و غيرها. بدأ المفكرون بعدها بالإنتشار بين مدن أوروبا انتشاراً غير عادي، و بدءوا بعدها بالعمل الدؤوب على تنوير الناس بمؤلفاتهم و أعمالهم و اختراعاتهم. لقد وجد حافز للعمل للأمة الأوروبية كلها آنذاك التي أعادت تقييم نفسها بعد أن تردى وضعها للدرجة التي صار رقادها يغري العثمانيين باحتلالها.
 في عصرنا هذا، لا شك أن الربيع العربي يمثل هزة عنيفة، قامت بالكثير من التغيير في الواقع العملي لشعوب من أمثال تونس و مصر و ليبيا. و تجلى هذا التغيير في سقوط أنظمتها. و قامت حركات في عدة دول أخرى كاليمن و سوريا. في هذه الدول تالية الذكر، فإن هناك ناراً تحت الرماد. لماذا أقول أن هناك ناراً تحت الرماد؟؟ لأن ما يعمل فيها الآن و بشدة هو تساؤل الفلاسفة و تفكيرهم في مدىصحة نظرياتهم التي عاشوا يعتقدون بها زمناً طويلاً.
المدارس الفكرية بدورها دخلت مرحلة إعادة التقييم، فهناك مدارس كلاسيكية أو تقليدية مثل سلفيي السنة و إخباريي الشيعة أو غيرهم من الباحثين عن تأصيل شرعي لموقفهم السياسي. هؤلاء أخذوا في النظر من جديد لمبحث العلاقة مع السلطة. في مقال “طاعة أولي الأمر بين الإفراط و التفريط “ يتساءل الشيخ ابراهيم بو صندل عن الأمر و عن ولاية الأمر و صفات و صلاحيات ولي الأمر و متى يفقد شرعيته و غيرها من الأسئلة في هذا الباب من طاعة ولي الأمر.
 لاشك أن هذه التساؤلات التي أشار بوصندل إليها، قد أشبعت نقاشاً في عصور سابقة كما ذكر هو، إلا أنها ظلت لزمن طويل منسية عند عوام الناس بل و كثيراً من علمائهم، حتى جاء الباحثون عن التأصيل الشرعي. فالتناقض الذي يحصل للمسلم حين يدعو على بشار سوريا ثم يدعو لعلي صالح اليمن مثلاً يجعله يفكر من جديد أكثر من مرة في هذه العناوين التي ربما ما كانت لها لولا الربيع العربي إلا أن تنتشر في أوساط المثقفين من طلبة العلوم الدينية و أعضاء التنظيمات السياسية الدينية.
يقع اليوم على عاتق علماء الدين في ظل هذه الفتن التأصيل الشرعي لمواقفهم في أبواب كثيرة من طاعة ولي الأمر إلى الوحدة الإسلامية إلى التكفير إلى المنظمات الجهادية إلى عدة ملفات ملتهبة يجب أن تكون مبنية على أصول راسخة من ديننا الحنيف وليست مبنية على مصالح فردية لدويلات عربية مسلمة دون باقي دول الإسلام. كل هذه الأبواب هي مما يحتاج إلى إستباق قبل أن تحصل بسببها هزات قد تكون أعنف وقعاً من مدافع الفاتح على أبواب القسطنطينية.

آخر الوحي:
 يــا جلـــق الشــام إنـا خلقـة عجــــب
 لــم يــدر ما سرها إلا الذي خلقــــا
 معــذبون وجنـــات النعيـــم بنـــــا
 وعاطشـون ونمري الجونة الغدقـــــا
 وزاحفــــون بأجســــام نوابضهـــــــا
 تســـتام ذروة علييــــن مرتفقـــــــا
 محمد مهدي الجواهري

الأحد، 2 أكتوبر 2011

حفلة طلاق

الأحد ٢ أكتوبر ٢٠١١


كانت جالسة في القاعة ترتدي ثوباً أحمر زاهياً و حولها المدعوات من الصديقات و القريبات يهللن و يهزجن و يتهامسن. توسطت القاعة كعكة متعددة الطوابق تعلوها دميتان لعريس و عروس، إلا أن العروس لا تقف بجانب العريس بل تقابله و تضع في مبسمها صفارة رياضية و ترفع بطاقة حمراء. لم تكن لتتخلف عن عرف حفلات الطلاق الذي بدأ يسري بين النساء و الرجال سريان النار في الهشيم، هل نسميه ربيعاً عربياً من نوعٍ آخر يرجع فيه الطلاق إلى سابق عهده من الإعتيادية حيث كانت المرأة تكسر قلة ماء وراء الزوج لتتزوج آخر دون أن تشعر بأي خسارة من الفراق؟ أم نسميه تفككاً أسرياً و دخولاً لنمط غربي على حياتنا يهددها من كل جانب و يجعل عوائلنا في مهب الريح؟
 لم تستطع أن تكتم دمعة قهر ندت من عينها إلا أن خنقت عبرتها و هي تحملق في وجه دمية العريس المكفهرة كأنها تحمل عتباً عليها هي. نهضت لتعدل زينتها فلحقتها قريبة لها “ أنت لا زلت متمسكة به، فما داعي الحفلة الصاخبة التي لا تتحملها أعصابك”، هنا رجعت بأفكارها و ذاكرتها إلى حفلة مشابهة، حفلة زواجها من الجار الطيب دمث الأخلاق حلو المعشر صاحب الصدق و الأمانة.
 لم يكن يعيبه شئ، كانت سعيدة بوده و وصله، و كان يجمعهما عشهما الوادع في بيت أبيه. إلا أنه لضيق ذات اليد ، فقد كان يعتمد في تلبية احتياجات المنزل على مساعدة والده له بين حين و آخر. والده المحب لم يدخر جهداً في سبيل مساعدتهما، ربما لحبه لإبنه أو حتى لزوجة إبنه، فهي من أقاربهما على أي حال. إلا أن الأب بدأ يتبرم شيئاً فشيئاً من طلبات ابنه، والتي هي في الواقع طلبات امرأة ابنه، فتلك الطلبات بدأت تضيق على ميزانيته و تشعره بإستغلال تلك الكنة لكرمه. هكذا كان يشعر، خصوصاً عندما يقارن حال ابنه و زوجته بالأبناء البررة في بيوت الجيران الذين يسهمون في دخل الأسرة بدل أن يستهلكوا مداخيل آبائهم.
 الإبن كان يعمل في معامل أبيه و متاجره بإخلاص، فهو على قلة الراتب كان يشعر بالبر و الأمان في جوار أبيه. أحياناً كان يفكر في هجران العمل لقلة الراتب، إلا أنه يتراجع لأنه يرى وجوده مع أبيه حقاً و واجباً.
 بين هذا و ذاك، حدثت مرة مشادة بين الأب و إبنه حول أحد طلباته التي يراها الإبن أساسية و يراها الوالد ترفاً بلا حاجة حقيقية. هنا لام إبنه على طلبه و قال له، إن حل مشاكل هذا البيت هو في طلاقك من هذه اللحوحة كثيرة الطلبات. لم ينم الفتى ليلته و ظل يتقلب ذات اليمين و ذات الشمال. تذكرت هنا كيف سألته عما كان يضايقه و يقلق منامه، و تذكرت كيف ثار في وجهها على غير عادة.
 كانت تلك الحملة الشعواء التي شنها عليها و عايرها بالجديد و القديم، عايرها حتى على كسوتها و طعامها و بدا واضحاً أنه رجل آخر في ذلك اليوم بالذات. لم يكن ناكراً للعشرة، و لكنه لم يكن منصفاً ربما، ربما كان من حيث لا يدري يفكر في مصلحته بعيدة الأمد مع أبيه و التي تكاد تضيع كما يظن هو على الأقل.
 انتهت تلك الليلة بدخول المأذون للبيت دخولاً أزعج كل من فيه، فقد جاء قابضاً لا زائراً، جاء هادماً للملذات و مفرقاً للجماعات.
 بدا وجه حماها تلك الليلة متهللاً لانقضاء الأزمة،إلا أنها أشاحت بوجهها و خرجت خلف المأذون و ربما قبل خروجه لتلحق ما بقي من كرامتها المهدورة حتى و إن لم تجد مأوى تقضي فيه ليلتها.
 و بدأت هنا مشكلة الأب من حيث لا يدري، فقد ركدت المياه في ذلك الأسبوع ذي البداية المشئومة، إلا أن منتصف الأسبوع حركها من جديد. فالإبن الذي أطاع أباه أول الأمر،وضح رغبته في مصاهرة الأكابر و بدأ يتكلم كوريث شرعي لأبيه و حامل لإسمه و حامٍ لمتاجره، و في نشوته التي يحاول أن ينسى خسارته فيها أخذ يتكلم و قد أخرج أباه من معادلته و كأنما صار صاحب الأمر و النهي. بل وصلت أصداء خطبته غير الرسمية من بنت الأكابر إلى طليقته.
 الفتاة أيضاً كانت مخطوبة الود من الجيران، أولئك الجيران الذين يدعون بين كل حين و آخر ملكيتهم لبيت حماها، حتى وصلت دعاواهم للمحاكم. إلا أنها تزوجت بهذا الفتى لنسبه و دماثته و فضلته على الخاطب الآخر. ربما كان احتمال زواجها من خاطبها القديم مطروحاً بعد أن ذهب الود و العشرة مع بعلها السابق، على الأقل في ظن هؤلاء الجيران.
 فكرت مرة أخرى و هي تعدل زينتها، فهي تعرف حكمة حماها السابق، و تعرف أنها و زوجها و حماها تشاركوا الأخطاء في تلك الليلة الليلاء. تعرف كيف أن حماها يقضي أيامه الآن بين رغبات النفس الأمارة و مخاوف النفس اللوامة. و من قلبها تمنت أمنية سببها العشرة و المودة. تمنت لو يطرق هذه الإحتفال طارق يحول حفل طلاقها إلى زفاف. أن يكون هذا الطارق ذات الرجل الحكيم الذي صاهرته سواء حركته حرقة قلبه على تلك العشرة أو حتى إدراكه أن الزمن تغير و صار لازماً أن يقترب و يسمع.
 آخر الوحي:
 هذا الهوى..
 ما عاد يغريني!
 فلتستريحي.. ولتريحيني..
 إن كان حبك.. في تقلبه
 ما قد رأيت..
فلا تحبيني..
 حبي..
 هو الدنيا بأجمعها
 أما هواك. فليس يعنيني..
 أحزاني الصغرى.. تعانقني.
 وتزورني..
 إن لم تزوريني.
 نزار قباني