٣٠ أكتوبر ٢٠١١
في موسم الحج تتجه أنظار العالم و عدسات التصوير و قلوب الموحدين صوب أطهر البقاع، نحو الحجاز بحرميه الشريفين، و مشاعره المقدسة. و بينما نشاهد خروج الحجيج من عرفات إلى المشعر الحرام في مزدلفة للمبيت ليلة العاشر من ذي الحجة، تتحرك في نفوسنا مشاعر مختلطة بمعان مختلفة.
فأول ما يخالجني و أنا أنظر لهذا المنظر كلمة يا ليتنا كنا معكم، إذ تتحرك الجموع الموحدة في مسيرة بيضاء لا متناهية و موجة عارمة دائبة الحركة، و في جوانب الصورة الجوية صور لرهبان و نساك في ثياب ناصعة على أطراف الجبال، كل منهم يرفع يديه بالدعاء لرب العزة و الجلال. و أخال الملايين التي تسعى في هذه الثياب الناصعة مجللة و مظللة بملايين أخرى من موحدي السماء، ملائكة تدعو لهم و تستغفر لذنوبهم و تسبح معهم، سبوح قدوس رب الملائكة و الروح.
منظر تلك المسيرة حين تقترب العدسة، يريك بعض مشاهد محشر القيامة، ترى الملايين و قد صارت جماعات أصغر، تتقدم كل مجموعة رايات ملونة منها الأخضر و الأحمر و شتى الألوان، بحيث لا تتفرق المجموعة أو يضل منها أحد، في صورة رغم توحدها في المسير يبقى كل فرد فيها يعرف طريقه و يعرف عشيرته. حين أعود بالذاكرة لنفس المشهد حين عايشته في دخول منى يوم العاشر، كانت الرايات تتفاوت بين الأعلام القماشية و قناني الماء كبيرة و صغيرة و قد علقت على العصي.
هذه الرحلة الإيمانية التي تهفو لمنظرها قلوب من لم يجربوها، و تعتصر أفئدة من سبق لهم القيام بها، تشتاق لها قلوب حتى من ليس على دين التوحيد لما تحمله من معان سامية و تجربة روحية لا مثيل لها على وجه الأرض. حدثني مرة زميل هندي أعرف صدقه، أن من أصدقائه هندوسياً غير ديانته في أوراقه الثبوتية إلى الإسلام ليتسنى له دخول البقاع المقدسة و المشاركة في هذه الرحلة.
مازالت ذكريات الحج تداعب نفسي رغم بعد العهد نسبياً، فالبحرينيون من الشعوب التي ربما لقلة عدد سكانها تتميز بأن أكثر من نصف حجاجها كل عام هم حجاج سنويون، يذهبون للحج كل عام أو عامين. هذه الذكريات التي تنتقل في عدة مشاهد و بقاع، بين الطواف و السعي و عرفات و منى و مزدلفة، ثم زيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة المنورة.
في الروضة الشريفة وقفت بعد أداء الصلاة و أنا أستشعر عظمة صاحب البيت و المنبر فهمست “ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله” كان جاري المصري قد أنهى صلاته، و قد أحس أنه يحتاج أن يعلمني ربما لفارق السن بيننا فقال ملقناً إياي، و أنا أردد معه “أشهد أنك بلغت الرسالة، و أديت الأمانة، و نصحت الأمة، و كشفت الغمة، فجزاك الله عنا و عن المسلمين خيرا”. إحساس رهيب بالضآلة أمام عظمة سيد الخلق و هادي العباد خالجني و أنا أرى أهل كل عرق و قطر و لون و لسان، يسلمون على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و أحس أنهم – وأنا ضمنهم- لا يعرفون ما ينبغي له من القدر مع كل احترامهم له.
و لا أدري لماذا أحس أن المصريين من جميع شعوب الأرض استثناء في عشقهم له و تعظيم لقدره صلى الله عليه و آله و سلم. حالة متفردة من العشق و التبجيل و الذوبان بمجرد ذكر الإسم الشريف، و هو حقيق بذلك و أكثر. أذكر مرة أن مصرياً أخطأ أو نسي فقال جبلةً على فطرته “ما كامل إلا محمد” فصحت به أن الكامل هو الله لا غيره. ثم ندمت على كلامي أشد الندم، فالرجل كان و لا شك يقصد الكامل من المخلوقين و لم يكن يفترض أن يحضرني معنى آخر لولا ما ابتلينا به من وسواس خوف الوقوع في الشرك، مرض الوسواس الذي أصبنا به كمسلمين وصرنا بسببه نقع في بعض مصاديق سوء الظن الذي ربما كان آثماً.
يبقى الحج من أكبر مصاديق التسليم لرب العزة و الإمتثال لأوامره و نواهيه، فما بين رهبنة الإحرام و ترك المخيط و الطيب و النساء، و بين هجر الجدال و الخصام و كراهة إنشاد الشعر، و حرمة الصيد، و بين شعائر طواف و سعي و رمي و انتقال و وقوف و مبيت و نحر. لكل هذه الأعمال معانٍ سامية، إلا أن أهم معانيها التسليم و الإمتثال لرب العزة و الجلال.
أعادنا الله و إياكم على مثل هذه الأيام و نحن مع الحجيج بأبداننا كما نحن معهم اليوم بأرواحنا التي تهفو لتلك البقاع الطاهرة.
آخر الوحي:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار و ذا الجدارا
و ما حب الديار شغفن قلبي و لكن حب من سكن الديارا
قيس بن الملوح