الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

شولم شولم






الأربعاء ٢٦ أكتوبر ٢٠١١




 يبدو أنني مددت ذراعي في غار الثعابين حين مددتها إلى كتاب كليلة و دمنة بعد أن هجرته سنين عديدة. أقول ذلك لأن هذا الكتاب الذي نتداوله صغاراً كمصدر لقصص الحيوانات، هو كما قال عنه واضعه الهندي بيدبا الفيلسوف أن ظاهره لهوًٌ للعامة و باطنه سياسة للخاصة.
 إلا أنني كما زينت أواخر بعض المقالات بمثيلات ذلك من قصص الحيوان بشعر أحمد شوقي، فقد قررت أن أبحر قدماً مع أقاصيص بيدبا الفيلسوف في كتابه الثمين لمليكه دبشليم. وقد اتفق أن يكون في الكتاب باب أضافته الفرس إلى الكتاب عند ترجمته يسمى باب برزويه المتطبب. هذا الباب وحده درة ثمينة و جوهرة نفيسة فيها من كنوز الحكمة ما يغني من اطلع عليها عن الكثير من موارد الحكمة لما فيها من التسلسل في مراجعة القناعات و محاسبة الذات.
 يقول الباب على لسان برزويه “ فلما لم أجد إلى متابعة أحد منهم – أي الناس- سبيلاً، و عرفت أني إن صدقت أحداً لا علم لي بحاله كنت في ذلك كالمصدق المخدوع الذي زعموا فيه”. ماذا زعموا فيه؟ يروى أن سارقاً في جماعة من أصحابه قد علا سطح بيت رجل من الأغنياء، فاستيقظ الغني على صوت خطواتهم و أيقظ امرأته و أعلمها بما شعره. ثم قال لها: أيقظيني بصوت مرتفع ثم اسأليني عن أموالي الكثيرة و كنوزي العظيمة من أين جمعتها و ألحي علي في السؤال إن امتنعت عن جوابك ثم استحلفيني حتى أجيبك إلى ما تسألين. فلما فعلت، سمع اللصوص سؤالها و مدوا آذانهم يطلبون الجواب معها. فقال الغني لامرأته و لمن يسمع: إني ما جمعت هذا المال إلا من السرقة بعلم أصبته ييسر أموري و يستر فعلي. كنت أعلو أسطح المنازل حتى أصل إلى الفتحة التي يدخل منها الضوء للمنزل فأرقي نفسي بقولي “شولم شولم” ثم أمسك بحبال الضوء و أنزل إلى قعر المنزل بسلام و لا يبقى شئ ثمين في المنزل إلا أتاني من نفسه ببركة هذه الرقية فآخذ كل المال و المتاع و أتعلق بحبل الضوء و أخرج مرة أخرى سالماً غانماً. و كل من كان له الجرأة في ذلك من التعلق بالضوء يمكنه فعل ما أفعل. فلما سمع اللصوص ذلك انتظروا سكون صوت الغني و امرأته، فقام كبيرهم و رقى نفسه “شولم شولم” و اعتنق الضوء فوقع على الأرض على رأسه. فوثب عليه الغني بهراوته يضربه و يقول له من أنت؟ فقال :”أنا المصدق المخدوع  المغتر بما لا يكون أبداً، و هذه ثمرة رقيتك، و عاقبة من يصدق كل ما يسمع”. يقول برزويه “فلما تحرزت من تصديق مالا يكون، و لم آمن إن صدقته أن يوقعني في تهلكةٍ، عدت إلى البحث عن الأديان، و التماس العدل منها”.
أقول أن من شأن صاحب كل دعوة أن يجمع الناس من حوله بالترغيب ما أمكن ثم بالترهيب إن تمكن، و لو كان الناس من أصحاب العقول لا تعميهم المطامع فيتدبرون في ما يعطى لهم من الوعود لتزيين الدروب الشائكة، لما كان لأحد أن يخدعهم ثم يندموا حين لا يفيد الندم. إلا أن الإنسان و إن درس من الحكمة الشيء الكثير لم يكن له ليتعلم إلا مما يشاهد بأم عينيه مما يجري عليه أو على غيره من أهل زمانه. و لذا كان من الخير له أن يستغني بالعبرة التي يراها من تجربة غيره عن إيقاع نفسه في المهالك و موارد الخطر.
الناس يقعون تحت تأثير محتالي الإستثمار الوهمي فيضيعون أموالهم و مدخراتهم بالثقة و التصديق لما لا يكون أبداً، فيغنمها المحتال وحده. و الناس يقعون تحت تأثير السياسي الذي يجمعهم حوله و يريهم أن الجانب الآخر من السياج أكثر اخضراراً إذا هم مشوا معه و ساروا في ركابه. و الناس يسحرون بالخطيب ذي التوجيهات التي توصلهم لمراتب الملائكة دون جهد يذكر. و الناس يسحرون بالكاتب الذي يلمعهم بما يخط من مديح لهم و لتوجهاتهم، سواء كانوا معارضين أو موالين. أما من يصدق معهم و لا يمارس عليهم التنويم المغناطيسي، و يريهم أن الثروة تجئ من جهد و عمل، أو يقول لهم أنهم بشرٌ لهم أخطاؤهم، ذلك يصير شيطاناً يريد أن يحبطك، ذلك حسود يريد أن يسوءك، ذلك هو من يجب أن تجتنب تثبيطه لتصل إلى ما تتمنى.
إن من أراد الوصول لشئ عمل بأسبابه و نظر إلى ظروف إمكانه، سواء كان ذلك الهدف نبيلاً أو غير نبيل، هذه هي الواقعية، التي يسميها البعض انبطاحية و تخاذلاً، فالواقع له حساباته المختلفة عن الأحلام الوردية من أمثال الإستئصال و الإستئثار أو الإنفراد، إلا أن كل حزب يزين لأتباعه الطريق بالوعود و يجمل جانبيه بالأزهار و الورود أو يصفهم بالمردة و الأبطال و الأسود.
 آخر الوحي:
لا تكوني عصبيه!! لن تثيريني بتلك الكلمات البربرية
 ناقشيني بهدوءٍ وروية
 من بنا كان غبياً؟
 يا غبية..
 إنزعي عنك الثياب المسرحية..
 وأجيبي.. من بنا كان الجبانا؟.
من هو المسؤول عن موت هوانا؟.
 من بنا قد باع للثاني.. القصور الورقية؟
 من هو القاتل فينا والضحيه؟. من ترى أصبح منا بهلوانا..؟
 بين يوم وعشية؟
 نزار قباني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق