الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

كلام في المفهوم









الأربعاء ١٢ أكتوبر ٢٠١١


ربما كان سبب تسمية هذا العمود الأسبوعي باسم “كلام مفهوم” عائداً إلى شدة ما نعانيه بسبب الكلام غير المفهوم. فالخطيب عندنا يبحر في معاني عالم المثال حين يعظ الناس، وهم يهزون رؤوسهم محاولين التحليق معه. ثم يذكر أحكاماً شرعية لا في صورة المسألة الشرعية أو الحديث النبوي، وإنما في صورة كائن هلامي قابل للتغير والتشكل، لا تعرف حدود هذا الكائن ولا ماهيته وقد يتضخم أو يضمحل أو يصير على شكل آخر. رجل السياسة بطبيعة الحال يغرق في المواقف نصف المكتملة مثل قفزة الغطاس من فوق الصخرة، نصفها فوق سطح الماء ونصفها الآخر تحت الأعماق غائب عن الأنظار. فلا يعيي السياسي نفسه بشرح مواقفه وإنما يترك فسحة تسمح له بالاستدارة وتغيير الاتجاه. أدباء الحداثة يقذفون بك في اللجة نفسها حين يرسمون خيول الماء وبوح ظل الإعياء ورقص الحلزونة ويحشرون معنى تخندق الماء والنار في بركان القطب الشمالي.
مع هذا الكم الهائل من الكلام غير المفهوم، يشعر المستمع كلما أكثر الاستماع بتمدد أذنيه إلى الأعلى، بالضبط كتمدد أنف بينوكيو للأمام حين يبدأ بالكذب، وتشنج عضلات رقبته، فلا يستطيع رفعها لينظر للسماء، إنها أعراض داء “حب الاستحمار” الذي يسيطر على الجمهور حين ينبهر بقدرة الخطيب والسياسي والأديب والكاتب بخلق جمل غير مفيدة وعبارات غير مفهومة، والذي قد يتطور للإدمان فيما بعد.
إلا أن هذه التسمية جمعت في جوانبها أكثر من هذا حين فتحت المجال لنقاش الإشكالات الكلامية والفلسفية، ثم فتحت الباب الأهم في نظري حين سمحت بتوضيح المفاهيم التي تراكم عليها الغبار أو أصابها التدليس أو ضيعها سوء الفهم المركب. ولنتذكر أن المدخل إلى أي فتنة يكون عبر تلبيس مفهوم واحد أو أكثر.
ولعل أجلى وأوضح صورة في ذهني لعملية تنقيح المفاهيم وتوضيحها قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي عليه السلام “أنا أقاتلُهم على تنزيل القرآن وأنتَ تقاتلهم على تأويله”. في هذا الحديث نبوءة واستشراف وحكمة ككل الأحاديث النبوية، نقتبس منه أن المفاهيم إذا استحسن ظاهرها وصارت تسالم على استخدامها والإيمان بها، فإن كل طرف يقوم بتأويلها كما يرى أو يريد، لذا لزم توضيحها درءاً للخلاف والفتنة ووصولاً إلى مقاصد النص الذي يحتوي على هذه المفاهيم.
كمثال على ذلك نذكر استغلال مفهوم “ثورة الحسين” الذي حول جريمة اغتيال سبط نبي الأمة عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام إلى سعي للحكم يشرف كل ثائر باقتدائه. على أن أمثلة الثورات الساعية للحكم في التاريخ الإسلامي غير قليلة، وكان بالإمكان استلهامها وجعلها أيقونة، إلا أنها لن توفر غطاء شرعياً واستدلالاً فقهياً إن ثبت معنى الثورة.
الثورة معنى موجود في التاريخ من قديم الزمان، إلا أن طبيعة المجتمع الإسلامي تفرض الأسلمة على أي معنى مستورد، كما يتم أسلمة الديمقراطية تحت عنوان الشورى. فالشورى عنوان إسلامي لتعددية الخبرات في حل المشكلات، ولكنها بالتأكيد لا تفتح مجالاً لاجتهاد مقابل النص كما تفعل الديمقراطية التي تجعل كل النص قابلاً للإيجاد أو الحذف بإرادة المتشاورين.
العمليات الانتحارية هي مفهوم آخر تم أسلمته إلى العمليات الاستشهادية، فصارت ثقافة لبس الحزام الناسف سائدة، وتم التنظير لها وفرش جوانب طريقها بالحور العين وبجنان الخلد وبالغداء مع الرسول حتى لو كان ضحايا هذه الأعمال من المسلمين، فضلاً عن غير المسلمين. ولاشك أن هذه الأعمال مبنية على مفهوم مغلوط يحصر المسلم ذي الدم الحرام في أفراد التنظيم أنفسهم وبتجاهل لمفهوم “أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
وكما يساء استخدام المفاهيم أعلاه يتم الإساءة لمعنى الوطن والوطنية والوطنيين. فالوطن ليس أرضاً وحسب ولا شعباً فحسب وليس نخبة أو طائفة أو مجموعة، الوطن يشمل ذلك كله ويشمل معه تاريخاً وحضارة وقيماً تشكل مع الأرض والناس ما يطلق عليه الوطن. وعلى ذلك، فالوطنية ليست انتماءً لحركة سياسية شعبية معينة وليست مواقف مسبقة تجاه الأشخاص في الداخل والخارج ولا نفاقاً بكثرة الإنفاق أو شقاقاً بكثرة الاختلاف، الوطنية هي الانتماء لهذا المجموع كجزء من مكوناته والسعي إلى ما فيه خيره وازدهاره ونماؤه. الوطنيون لا تصلح بديلاً لكلمة “اليساريون”، فالكل يدعي الوطنية وليست حكراً على أحد ولا دثاراً لإزالة الاستيحاش من تناقض التحالف مع عدو الأمس “الإسلاميون والشيوعيون”. والوطنيون ليسوا أحد اثنين من موالاة أو معارضة. وخطورة هذه المفاهيم تنبع من نقائضها البشعة كلفظ “الخونة”.
لماذا نحتاج وضوح المفاهيم؟ لتوضيح المقاصد، ليكون للناس بينة فيما يقولون ويفعلون؛ لمعرفة الصواب من الخطأ، لإزالة اللبس المقصود وغير المقصود، ولكي لا تدخل علينا العلمانية أو الشيوعية أو حتى المافيا الإيطالية ملتحية تحمل معها سبحة ونحن نحسبها ليلى، فإذا بها الذئب. لكي لا نفاجأ بالتحول الذي وقع علينا، كما قال ذلك الشيخ المسن في مسرحية سيف العرب “أنام كويتيا وأصحو عراقيا؟!”.
آخر الوحي:

كأن الدِّين حانوت
فتحناه لكي نشبع ...
تمتعنا “بما أيماننا ملكت”
وعشنا من غرائزنا بمستنقع
وزورنا كلام الله بالشكل الذي ينفع
ولم نخجل بما نصنع
عبثنا في قداسته
نسينا نبل غايته ..
ولم نذكر سوى المضجع
ولم نأخذ
سوى زوجاتنا الأربع ...

نزار قباني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق