الأحد ٢ أكتوبر ٢٠١١
كانت جالسة في القاعة ترتدي ثوباً أحمر زاهياً و حولها المدعوات من الصديقات و القريبات يهللن و يهزجن و يتهامسن. توسطت القاعة كعكة متعددة الطوابق تعلوها دميتان لعريس و عروس، إلا أن العروس لا تقف بجانب العريس بل تقابله و تضع في مبسمها صفارة رياضية و ترفع بطاقة حمراء. لم تكن لتتخلف عن عرف حفلات الطلاق الذي بدأ يسري بين النساء و الرجال سريان النار في الهشيم، هل نسميه ربيعاً عربياً من نوعٍ آخر يرجع فيه الطلاق إلى سابق عهده من الإعتيادية حيث كانت المرأة تكسر قلة ماء وراء الزوج لتتزوج آخر دون أن تشعر بأي خسارة من الفراق؟ أم نسميه تفككاً أسرياً و دخولاً لنمط غربي على حياتنا يهددها من كل جانب و يجعل عوائلنا في مهب الريح؟
لم تستطع أن تكتم دمعة قهر ندت من عينها إلا أن خنقت عبرتها و هي تحملق في وجه دمية العريس المكفهرة كأنها تحمل عتباً عليها هي. نهضت لتعدل زينتها فلحقتها قريبة لها “ أنت لا زلت متمسكة به، فما داعي الحفلة الصاخبة التي لا تتحملها أعصابك”، هنا رجعت بأفكارها و ذاكرتها إلى حفلة مشابهة، حفلة زواجها من الجار الطيب دمث الأخلاق حلو المعشر صاحب الصدق و الأمانة.
لم يكن يعيبه شئ، كانت سعيدة بوده و وصله، و كان يجمعهما عشهما الوادع في بيت أبيه. إلا أنه لضيق ذات اليد ، فقد كان يعتمد في تلبية احتياجات المنزل على مساعدة والده له بين حين و آخر. والده المحب لم يدخر جهداً في سبيل مساعدتهما، ربما لحبه لإبنه أو حتى لزوجة إبنه، فهي من أقاربهما على أي حال. إلا أن الأب بدأ يتبرم شيئاً فشيئاً من طلبات ابنه، والتي هي في الواقع طلبات امرأة ابنه، فتلك الطلبات بدأت تضيق على ميزانيته و تشعره بإستغلال تلك الكنة لكرمه. هكذا كان يشعر، خصوصاً عندما يقارن حال ابنه و زوجته بالأبناء البررة في بيوت الجيران الذين يسهمون في دخل الأسرة بدل أن يستهلكوا مداخيل آبائهم.
الإبن كان يعمل في معامل أبيه و متاجره بإخلاص، فهو على قلة الراتب كان يشعر بالبر و الأمان في جوار أبيه. أحياناً كان يفكر في هجران العمل لقلة الراتب، إلا أنه يتراجع لأنه يرى وجوده مع أبيه حقاً و واجباً.
بين هذا و ذاك، حدثت مرة مشادة بين الأب و إبنه حول أحد طلباته التي يراها الإبن أساسية و يراها الوالد ترفاً بلا حاجة حقيقية. هنا لام إبنه على طلبه و قال له، إن حل مشاكل هذا البيت هو في طلاقك من هذه اللحوحة كثيرة الطلبات. لم ينم الفتى ليلته و ظل يتقلب ذات اليمين و ذات الشمال. تذكرت هنا كيف سألته عما كان يضايقه و يقلق منامه، و تذكرت كيف ثار في وجهها على غير عادة.
كانت تلك الحملة الشعواء التي شنها عليها و عايرها بالجديد و القديم، عايرها حتى على كسوتها و طعامها و بدا واضحاً أنه رجل آخر في ذلك اليوم بالذات. لم يكن ناكراً للعشرة، و لكنه لم يكن منصفاً ربما، ربما كان من حيث لا يدري يفكر في مصلحته بعيدة الأمد مع أبيه و التي تكاد تضيع كما يظن هو على الأقل.
انتهت تلك الليلة بدخول المأذون للبيت دخولاً أزعج كل من فيه، فقد جاء قابضاً لا زائراً، جاء هادماً للملذات و مفرقاً للجماعات.
بدا وجه حماها تلك الليلة متهللاً لانقضاء الأزمة،إلا أنها أشاحت بوجهها و خرجت خلف المأذون و ربما قبل خروجه لتلحق ما بقي من كرامتها المهدورة حتى و إن لم تجد مأوى تقضي فيه ليلتها.
و بدأت هنا مشكلة الأب من حيث لا يدري، فقد ركدت المياه في ذلك الأسبوع ذي البداية المشئومة، إلا أن منتصف الأسبوع حركها من جديد. فالإبن الذي أطاع أباه أول الأمر،وضح رغبته في مصاهرة الأكابر و بدأ يتكلم كوريث شرعي لأبيه و حامل لإسمه و حامٍ لمتاجره، و في نشوته التي يحاول أن ينسى خسارته فيها أخذ يتكلم و قد أخرج أباه من معادلته و كأنما صار صاحب الأمر و النهي. بل وصلت أصداء خطبته غير الرسمية من بنت الأكابر إلى طليقته.
الفتاة أيضاً كانت مخطوبة الود من الجيران، أولئك الجيران الذين يدعون بين كل حين و آخر ملكيتهم لبيت حماها، حتى وصلت دعاواهم للمحاكم. إلا أنها تزوجت بهذا الفتى لنسبه و دماثته و فضلته على الخاطب الآخر. ربما كان احتمال زواجها من خاطبها القديم مطروحاً بعد أن ذهب الود و العشرة مع بعلها السابق، على الأقل في ظن هؤلاء الجيران.
فكرت مرة أخرى و هي تعدل زينتها، فهي تعرف حكمة حماها السابق، و تعرف أنها و زوجها و حماها تشاركوا الأخطاء في تلك الليلة الليلاء. تعرف كيف أن حماها يقضي أيامه الآن بين رغبات النفس الأمارة و مخاوف النفس اللوامة. و من قلبها تمنت أمنية سببها العشرة و المودة. تمنت لو يطرق هذه الإحتفال طارق يحول حفل طلاقها إلى زفاف. أن يكون هذا الطارق ذات الرجل الحكيم الذي صاهرته سواء حركته حرقة قلبه على تلك العشرة أو حتى إدراكه أن الزمن تغير و صار لازماً أن يقترب و يسمع.
آخر الوحي:
هذا الهوى..
ما عاد يغريني!
فلتستريحي.. ولتريحيني..
إن كان حبك.. في تقلبه
ما قد رأيت..
فلا تحبيني..
حبي..
هو الدنيا بأجمعها
أما هواك. فليس يعنيني..
أحزاني الصغرى.. تعانقني.
وتزورني..
إن لم تزوريني.
نزار قباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق