الأحد ٩ أكتوبر ٢٠١١
عجيب هو انتكاس العقل البشري مع انقلاب القلب. فالأخير الذي ربما سمي قلباً لتقلبه يكون الباعث للهوى، الهوى الذي حين يتبعه الإنسان يصير أعمى و أصم. و لعل من ذلك التقلب ما ورد في الدعاء (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك). العقل إذن لا ينتكس دون مسبب قلبي أو لوثة تصيب العقل نفسه، لكن قديماً قيل حب الشئ يعمي و يصم.
هذا الأمر لا يسلم منه عالم أو جاهل، بل ربما لا يسلم منه أحد إلا من عصمه الله فلا ينطق عن الهوى. تلك حقيقة جلية للجميع، إلا أن التقديس للمحبوب يلغي أي مثلبة و يحولها إلى منقبة، ألم يقل الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
و مما لا يكاد يخفى على مسلم قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام “لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه”. علي يحذر من استيحاش طريق الحق، إذن طريق الحق موحش، لا تكاد تجد أحداً عليه، و هنا بيت القصيد.
فقد دأب الناس على ترهيب مخالفيهم في الرأي بمقولة “أترى الناس كلهم على خطأ و أنت على صواب؟”، أقول و ما العيب في ذلك؟ صحيح أن الناس إذا شاءوا أن يعملوا عملاً كان أقربه لرضاهم ما توافقت عليه آراؤهم، و لكن هل الحق أو الحقيقة يعرف بالقلة أو الكثرة؟ شتان ما بين توحيد الكلمة و الرأي على كلمة سواء يذعن لها الجميع و التي قد تكون في الأساس مما أذعن به القلة ابتداء و بين ما اتجهت إليه أهواء الغالبية من الناس.
بل أكثر من هذا قولة علي من أن الحق لا يعرف بالرجال بل هم يعرفون بالحق فضلاً عن مسألة الكثرة التي ذمها القرآن في الكثير من مواضعه بقوله تعالى “إن أكثرهم”. فمن هذا و ذاك فإن الأدعى و الأقرب للصواب هو خلاف ما أحبه عموم الناس.
من من المصلحين بل و الأنبياء من لم يكن و أتباعه قلة مستضعفة في أمته؟ و من منهم كان طريقه وفق أهواء الناس فأحبوه؟ لقد أنزل الله على بني إسرائيل المن و السلوى من طعام الجنة فقالوا لن نصبر على طعام واحد، فكيف لو ابتلاهم بخبز الشعير أو المداومة على أكل القديد.
جانب الألوهية الموجود في كل نفس بشرية يدفعها بدوافع الكبر و العلو، و جانب العاطفة يرفدها بالميل لكل محبوب و جانب الإستيحاش يرغمها على الإنصهار في الجماعة و الخوف من ترك أي موروث. و جانب الحق قد يكون مريحاً بالمرور عبر هذه النوازع و الطبائع و مراعاتها و قد يكون مضاداً لبعضها أو أكثرها.
ما يهمنا في هذا الموضوع هو جانب الإستيحاش لعلاقته المباشرة بالقلة و الكثرة. هذا الجانب لن يعمل إلا بعد خلق أكثرية متكومة من الجوانب الأخرى التي تميل إلى جوانب فردية لها علاقة غير مباشرة في صنع الأكثرية و الأقلية و ليس في الإرتباط بها. فإن الطريق الذي يرضي نوازع أكثر الأفراد سيكون مثل نور المصباح الذي تتجمع عليه الفراشات و الذباب بحثاً عن المنفعة الخاصة لكل منها.
النوازع ستكون فردية في أول الأمر كما قال علي عليه السلام “إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع،يخالف فيها كتاب الله،يتولّى رجال رجالاً” و ربما لكون الطريق الجديد مبنياً على هوى فمن الطبيعي أن ينجرف إليه عامة الناس. و من ثم يبدأ تأثير عامل الإستيحاش في إضعاف الآراء الصحيحة و دفع أتباعها للإنجراف نحو الطريق الخطأ. بل ستجد أن نفس الإنسان تبحث له عن أي عذر آنذاك لينضم إلى طريق رغم أنه يعلم خطأه.
فتنة العجل التي وقع فيها قوم موسى، جرت إليها عامة بني إسرائيل كما تعلمنا من سيرتهم، حتى عجز هارون عن ردعهم بل كادوا يبطشون به لو تصادم معهم، و من السذاجة أن نعتقد أنهم كانوا أقلية ليفعلوا ذلك، فالفتنة تجر دائماً الأغلبية في بدايتها على الأقل لأن الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت، و ببساطة لأن أكثرهم لا يعلمون.
آخر الوحي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
و إن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
و ماقل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا و كهول
و ما ضرنا أنا قليل و جارنا
عزيز و جار الأكثرين ذليل
السموأل بن عاديا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق