الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

أجب أيها القلب








٢ نوفمبر ٢٠١١


في قصيدته الجميلة التي تحمل هذا العنوان، يشكو شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري من عتاب الناس له على قليل الكتابة، و كأن عين الشعر قد نضبت من جوفه بعد أن كانت هتانة منسابة، و يتبرم تبرماً موجعاً فيقول:
برمت بلوم اللائمين و قولهم***أأنت إلى تغريدة غير راجع؟
أأنت تركت الشعر غير محاولٍ؟***أم الشعر إذ حاولت غير مطاوع؟
ثم يسهب في السؤال حتى يصف حاله في نزق الشباب و الشعر يتفجر من جوانبه سهاماً تصيب المقاتل و سيوفاً تضرب في الحناجر فتسلمه من همٍ إلى تعبٍ ثم من سجنٍ إلى مرض، و يذكر ملامح حياته التي انتهى بها الحال إلى النضج و الإستسلام و مجاراة الحياة حيثما مضت به. و على أنه كان دوماً ذلك الفتى المتوثب المتبرم من واقع الأمة فقد نظم في الأربعينات رائعته “أمم تجد و نلعب” و قال فيها:
 و نعيش نحن كما يعيش على الضفاف الطحلبُ
متطفلين على الوجود نعوم فيه و نرسبُ
متذبذبين و شر ما قتل الطموح تذبذبُ
و شتان ما بين روحه المتوثبة في” أمم تجد” و بين أنفاسه الوادعة الحزينة في “أجب أيها القلب” التي يأسف فيها على توثب شبابه و نزقه و تهوره و يتمنى عودة شريكة معاناته للحياة لتقاسمه زمن الدعة كما قاسمته أيام الشقاء و المحنة في طموحه القاتل الذي رماه بين أحضان المهجر. ثم نجده يمعن في توبته من طموحه ذاك فيقول:
أناشدٌ أنت حتفاً صنع منتحرٍ ؟
أم شابكٌ أنت مغتراً يد القدرِ؟
خفض جناحيك لا تهزأ بعاصفةٍ
طوى لها النسر كشحيه فلم يطرِ
و لو ترك أبو فرات لأحدنا وكالة عنه ليجيب بدلاً من قلبه على أسئلة اللائمين، لأجابهم مما يراه من جمود المشهد في بلادنا. و لوصف كيف يراوح البلد في نفس المربع بين أعمدة الشتم و السباب في الجرائد من ناحية و بين التحريض الطائفي على مداخل الحارات و على أبواب المساجد و فوق المنابر التي يفترض بها أن تجمع لا أن تفرق. بين ملاحقات الليل الرتيبة و ما يبدأها من تزمير و ما ينهيها من طلقات التحذير و ما يتخلل ذلك من مشاهد يحفظها الجميع لا تنهيها كلمة حق ولا صوت حكمة.
و بينما يتهرب الكثيرون من مسموعي الكلمة من مسؤليتهم الإجتماعية، ينبري الكثير من أنصاف المثقفين لإشعال برنامج تقاذف الإتهامات و شخصنة الخلافات على أوجه للإستمتاع ببعض الظهور على حساب البلد. ثم، يا أبا فرات، فإنه ليس للإنسان أن يغضي عن ذلك كله و يحاول أن يكون ممن يواصل المسير و يحاول توجيه الضوء إلى مشاكل التنمية و عيوب الأداء المؤسساتي، لماذا؟ لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
و ضمن الأحداث الطارئة و ضمن العمل المؤسساتي الإعتيادي سواء للحكومة أو سائر المؤسسات الأهلية بما فيها الجمعيات السياسية، فإن قضايا الرأي العام لا تأخذ حقها ولا حتى نصيباً بسيطاً من الإهتمام يفترض بها أن تثيره و تستوقف الجميع عنده. هذه القضايا تشمل الأمن عند خمول ذكر بعض القضايا إن لم تقيد ضد مجهول رغم خطورتها و تشمل التجاوزات الإدارية التي يرصدها ديوان الرقابة نفسه و لا تحرك المؤسسات المختصة ساكناً لمتابعتها و تشمل قضايا الإحتيال المالي التي تهز اقتصاد الآلاف من المواطنين. ما لا تحركه هذه القضايا لا يحركه مقال هناك أو أجراس يقرعها عابر سبيل هنا.
لا تسألني يا أبا فرات عن حسابات الجدوى و النتيجة، فلقد أجبتك سلني بعد كل ما قلته عما لا يكتب خوفاً من أن يصطدم بقناعات الآخرين، أو خوفاً من أن لا يقتنع به أحد حتى محرري الجريدة أنفسهم، و سلني عن توقف الكلام المحدد و التحول للكلام العام العائم.
 إلا أنني يا أبا فرات – دون مزايدة عليك – أجد أنه لا بد من العودة للكلام عن القضايا اليومية و عن المشاكل الأزلية، و عن المفاهيم المحرفة و للرؤية النقدية للمجتمع. و سترى أنه لا بد من العودة لها و ذلك ما سيكون إن شاء الله. أما القضايا التي يلزم للحديث فيها أن تكون مدعوماً من أحد الفرقاء فهي ليست لنا، لماذا؟ لأن المتأدب رغم أنه لا يرضى لنفسه أن يكون رجعاً للصوت أو صدى للصراخ إلا أنه لا يجب أن يستسلم لواقعٍ لا يقبله و لو ببذل أقل الجهد و أضعف الإيمان.

آخر الوحي:
تحلَّبَ أقوامٌ ضُرُوعً المنافِع
ورحتُ بوسقٍ من “ أديبٍ “ و “ بارع “
وعَلَّلتُ أطفالي بَشرِّ تعلِّةٍ
خُلودِ أبيهم في بُطونِ المجامع
وراجعتُ أشعاري سِِجَّلاً فلم أجِدْ
بهِ غيرَ ما يُودي بِحِلْمِ المُراجِع
ومُسْتَنْكرٍ شَيْباً قُبيلَ أوانهِ
أقولُ له : هذا غبارُ الوقائع
طرحتُ عصا التِّرحالِ واعتَضتُ متْعباً
حياةَ المُجاري عن حياةِ المُقارِع

محمد مهدي الجواهري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق